إذا كان من الصّعب جدا إدراك الخبايا والدوافع الحقيقية وراء التّوتّر الذي بسط غمامته السوداء هذه الأيام على شبه الجزيرة الكورية، فالمؤكد أن ما نشهده من تصعيد يتجاوز الإخوة الأعداء في الكوريتين، والواقفون وراءهم هم بدون أدنى شك الذين يستغلون ما تبقى من جمرات نيران الحرب الباردة قصد نفخها وإشعالها من جديد لتحقيق أهدافهم الخاصة والتي تبدأ باستفزاز والضغط على كوريا الشمالية ونظامها قصد دفعها الى الخطأ ومن تم الإجهاز عليها أو بشغلها وإلهائها بحرب أو صراع خارجي عن تطوير برنامجها النّووي الذي يعتبر لبّ كل التصعيد، وتمتد الى محاولة الإطاحة بآخر قلاع الشيوعية وتغيير وجهة بوصلتها السياسية.. وقد يكون الواقفون وراء هذا التصعيد هم فقط تجار السلاح الذين يختلقون التوترات والنزاعات لإشعال الحروب وبيع الأسلحة وتكديس الثروة، أو محتكرو سوق النفط، فالذهب الأسود يرتفع الى عَنان السماء مع كل بؤرة توتر تفتح هنا أو هناك بفعل فاعل. وبعيدا عن دوافع التصعيد الذي تشهده شبه الجزيرة الكورية والذين يزيدون من تأجيجه أولائك الذين يدقون طبول الحرب من خلال المناورات العسكرية التي تجرى على الحدود البحرية الملغمة فما يجب التنبيه إليه هو مآل الشعوب التي تنسف وحدتها والدول التي تفتت أراضيها، وما يجب الوقوف عنده هو سيف تقسيم الدول الذي نراه هذه الأيام يسنّ قصد «ذبح» السودان تماما كما حصل لشبه الجزيرة الكورية قبل نحو ستة عقود. فعلى الذين يشحدون سكاكينهم لتمزيق أواصر السودان بداية الشهر القادم أن لا يكونوا مثل التلميذ الغبي الذي تحدث عنه «جياب» ذات مرة، وليراجعوا دروس التاريخ ويقرأوا الفصل الخاص بشبه الجزيرة الكورية التي كانت أرضا واحدة وشعبا موحدا قبل أن تتجاذبها الشيوعية الحمراء من الشمال والرأسمالية المتوحشة من الجنوب وتمزق أواصلها بل وأدخلت نصفيها من حرب دامية ما بين 1950 و1953 وما تزال الكوريتان في حالة حرب تقنيا إذ لم توّقعا اتفاقية سلام منذ انتهاء صراعهما التاريخي وحدودهما، رغم أنها رسميا هي منطقة منزوعة السلاح، إلا أنها تظل في واقع الأمرالأكثر تسلحا في العالم فهناك آلاف الآليات العسكرية موجهة في الاتجاهين. وفي النهاية أدى تقسيم شبه الجزيرة الكورية الى خلق دولتين بنظامين متناقضين واحدة في الجنوب تتبع النظام الرأسمالي، مدللة وتحظى بالحماية والدعم الأمريكي وشعبها يعيش في رفاهية، وثانية في الشمال مازالت متمسكة بالشيوعية التي إنهارت وإندثرت حتى في عقر دارها، نظامها صامد ومتماسك ويحمي نفسه بالدرع النووي، أما شعبها فقد تحول الى واحد من أفقر وأغبن شعوب العالم. وسلبيات التقسيم كما نرى، لا تنتهي هنا بل تمتد الى حالة الكره والحقد الذي يكنه والشعب الواحد بعضه البعض، والذي يكنه والشعب الواحد بعضه لبعض، والذي لا يمكن معه استبعاد نشوب أي حرب في المستقبل القريب أو البعيد. والنموذج الكوري نراه يطبّق في السودان قصد خلق دولة في الجنوب تسبح في الفلك الأمريكي وتسبّح باسم اسرائيل، تحظى بالدلائل والدّعم والتأييد وأخرى في الشمال مغضوب عليها. خطورة تقسيم الدول لا يعكسه نموذج شبه الجزيرة الكورية فقط، بل نماذج أخرى لعل أهمها نموذج تقسيم ألمانيا والذي يعلم الجميع نتائجها، لكن جدار برلين هوى ليعيد توحيد الشعب الواحد الذي نراه وقد انطلق كالسهم في بناء واحد من أكثر اقتصايات العالم تطورا وأعاد ألمانيا الى صدارة الدول الأكثر تقدما ومن هنا ندرك بأن التقسيم يدمر الأمم والشعوب ويخلق الصراعات والتوترات والحروب في حين أن الوحدة تخلق القوة والنهضة والثروة والمنال، كما سبق وسردناه ألمانيا الموّحدة. وفي الأخير لابد وأن نشير الى أننا لن نتوقع من تقسيم السودان غير حكاية مكررة «لذبح» شبه الجزيرة الكورية تكتب فصولها أمريكا وتخرجها وتنفذها اسرائيل. وما نخشاه أن يكون «السودانان» على موعد مع توترات ونزاعات وربما حروب كثيرة كما هو حال الكوريتين.