لا يتوقف المجاهد كشيدة صحراوي عن المساهمة في تنمية ثقافة التعاطي مع التاريخ الوطني بروح لا تحدها السنوات الثلاثة والسبعين، أطال الله في عمره، فتراه يجتهد ويكد في جمع المادة وترتيبها ونقلها للأجيال في لقاءات كانت تنظم مع تلاميذ المدارس كلما سنحت الفرصة، كما انه يلبي طلبنا للحديث على صفحات الجريدة بما يضع القراء في صورة تلك الأوضاع التي ضرب فيها الجزائريون أروع الأمثلة في العمل الثوري والدبلوماسي مثلما تشهد عليه مفاوضات ايفيان التي كسبها وفد جبهة التحرير الوطني تماما كما كسبها جيش التحرير الوطني على الأرض في دحر الجيوش الفرنسية الاستعمارية. وإذ تحل الذكرى التاريخية ليوم 19 مارس 1962 في وقت تتعزز فيه مكاسب الاستقلال الوطني يتذكر المجاهد كشيدة صحراوي الدور البارز الذي أداه الشباب الجزائري من خلال الوفد المفاوض الذي كان مشكلا من 13 عضوا وأكبرهم لا يتعدى سنه الأربعين هو كريم بلقاسم وبن طوبال 38 سنة، ومحمد الصديق بن يحيى 29 سنة، وهو اصغر أعضاء الوفد ينحدر من جيجل المناهضة للاستعمار وبولحروف 38 سنة، وبن عودة بن عمار 36 سنة، ورضا مالك 30 سنة، ومصطفاي صغير 35 سنة، وعلي منجلي، وكان من كبار السن علي بومنجل 55 سنة، واحمد فرنسيس 49 سنة، إلى جانب سعد دحلب 42 سنة، وهو من قصر الشلالة بولاية تيارت المقاومة للاستدمار الفرنسي، وقايد احمد المدعو الرائد سي سليمان 40 سنة. وعلى الجانب الآخر من طاولة المفاوضات كان الوفد الفرنسي بقيادة لوي جوكس وزير الداخلية إلى جانب الجنرال دوكاماس وغيرهما من الكهول وكبار السن بكل المكر والدهاء والحنكة الدبلوماسية الماكرة إلا أن الشباب النوفمبري تصدوا لهم بالحجة والإقناع وفككوا المخططات التآمرية مثل محاولة العدو تحييد الصحراء وفصلها عن ملف المفاوضات باللعب على المصطلحات الأمر الذي لم ينطل على قادة الثورة. كان يوم إعلان قرار وقف إطلاق النار بين الطرفين في 19 مارس 1962 هو يوم الاثنين الذي حمل بشائر انتصار الجزائر المكافحة على عدو وظف جميع قواته العسكرية وعملائه من الكولون مصاصي دماء الجزائريين والخونة المغرر بهم ومارس طيلة 132 سنة متواصلة أبشع أساليب الإجرام والإبادة ومحاولات مسخ الهوية الجزائرية التي قامت وتحملت فانتصرت لتبعث من أتون حرب ضروس لم يتوقف الشعب الجزائري عن تزويدها بقوافل الشهداء والفدائيين البواسل والجنود الأشاوس والمناضلين الصناديد الذين التزموا جميعهم بخط ثورة أول نوفمبر 1954 المجيدة وساروا على العهد إلى أن تم كسر شوكة الاستعمار الغاشم وإخراجه من بلادنا الطاهرة يجر هزيمته تطارده أرواح مليون ونصف مليون شهيد وآلاف المعطوبين والضحايا إلى أن تكفر فرنسا الرسمية عن جرائم فرنسا الاستعمارية فتسقط قانونها الذي يمجد الحقبة الاستعمارية أو ما يسمى بقانون العار وتعلن تقديم اعتذارها حتى تعرف الأجيال في الضفتين أن جريمة الاحتلال حدثت وان الشعب الجزائري قاوم وكافح ورفض الاستكانة أبا عن جد فنال الحرية بعد ثورة يشهد لها التاريخ المعاصر لما حملته من قيم ومبادئ ذات أبعاد إنسانية سامية. ويتذكر محدثنا يومياته مع رفاق السلاح في معاقل الثوار عبر امتداد الجبال في منطقة الولاية أربعة التاريخية حيث التحم مجاهدو الثورة مع سكان القرى والمداشر لحمة واحدة أعطت للعمل الثوري وكانوا يتطلعون إلى إعلان ساعة النصر التي جاءت بها مفاوضات ايفيان. فبعد صبر طويل وتحمل لا نظير له وإصرار تفاوضي يستحق أن يدرس في معاهد الدبلوماسية العالية تم التوقيع على الاتفاقية يوم 18 مارس 1962 على الساعة الخامسة والنصف وهي تتضمن 83 صفحة ختمها كريم بلقاسم عن الطرف الجزائري وجوكس وروبير بيرون وجون دوبرنلي عن فرنسا التي اعترفت بالحقيقة ورضخت لحكم التاريخ الذي صاغته إرادة الشعب الجزائري على مدار سبع سنوات ونصف من الكفاح أعقبت أكثر من قرن من الثورات الشعبية والمقاومة الباسلة. وتمثل وثيقة المفاوضات ثمرة عمل دبلوماسي استمر من 7 إلى 18 مارس 1962 وتعرض الانجاز إلى أعمال عدائية من المنظمة المسلحة السرية الفرنسية التي قامت باغتيال رئيس بلدية ايفيان كاميل بلان يوم 31 مارس 1962 بتفجير عبوة أمام منزله تاركا زوجته وطفلين. وقد تأسست تلك المنظمة الإرهابية في 19 افريل 1961 بمدريد عاصمة اسبانيا خلال حكم فرانكو وتزعمها الجنرالات صالان، شال، ماسي، جوو، زيللر، لاغايارد وبيجار الذين حاولوا الإطاحة برئيسهم شارل ديغول قبل أن ينهي مشروعهم ثم انتهى مشروع الاحتلال برمته لتعود الجزائر إلى موقعها اللائق طرفا فاعلا حريصا على الأمن والسلام والتنمية والتضامن وسيادة الدول.