ما زلنا نقول إن أحسن الكتب، كتاب يجمع شتات الفكر، ويشحذ العزم على الكتابة، فلا يبحث عن قرابين يقدّمها إلى القارئ، ولا عن روابط مودّة يصطنعها معه؛ وهو كتاب معتدٌّ بمادّته، مكتفٍ بجهده، لا يقصد سوى إثارة «السّؤال» ليكون في مستوى الثّقة التي يوليه بها قارئُه، وتكون مادّته جائزةً تكافئ جهد القراءة؛ فإذا توسّمنا أنّ كتاب الدكتور محمد الأمين بحري، «الأسطوري: التّأسيس والتّجنيس والنّقد»، واحدٌ من أحسن الكتب التي زيّنت المكتبة الجزائرية والعربية هذا العام؛ فذلك لأنّنا حظينا منه ب «المكافأة» التي يخصّصها كل كتاب جيّد لقارئه. يقع «أسطوري» محمد الأمين بحري في ثلاثمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير، ولقد صدر عن منشورات «الاختلاف» الجزائرية و»الأمان» المغربية و»ضفاف» اللبنانية، في إخراج أنيق، وتصفيف يوفر لعمليّة القراءة ما تقتضي من الرّاحة بفضل الأحجام المعقولة التي تخيّرها الناشرون للخطوط. ولقد اختار بحري أن يوزّع مادته البحثيّة على أربعة فصول، خصّص أوّلها لما وصفه ب «التّأسيس»، وتعرّض فيه إلى «مفهوم الأسطورة» في مختلف الحقول المعرفيّة، ثم مضى بحفريّاته في المفهوم إلى غاية الكشف عن مسارات تحوّل مادته إلى حاضنة «التقديس»، فطرح «سؤال المصدر» و»سؤال المصير» وسؤال الوظيفة»؛ لينتهي بالفصل إلى «خصائص الأسطورة» و»أنواعها». وحافظ الفصل الثّاني على تتبّع خيط «التأسيس»، فقد خصّصه المؤلف ل»موقع الأسطورة» في «الانسان» و»الزمان» و»المكان»، ثم حدّد مظاهرها وأبعادها؛ وفتح المجال في الفصل الثالث للعنصر الثاني من العنوان الفرعي، ففسح للأدبيّات من باب «التجنيس»، وأعمل النظر فيما صنّفه في حاضنة الأجناس الأسطورية، وبحث في «التّمايز الأجناسي لأسطوريات الفنون الأدبية (كي يعيد) كل جنس من الأجناس الخمسة المنبثقة عن الأسطورة (الملحمة – الخرافة – القصة المأثورة – المسرح – الرّواية) إلى جذوره الأسطورية» (بحري-17)؛ أمّا الفصل الرّابع، فقد خصّصه ل»النّقد الأسطوري» (Mythocritique)، وحرص على توضيح ما يميّزه عن «التّحليل الأسطوري» (Mythanalyse)، فعرض آراء الباحثين والمؤسسين لهذا النوع من النّقد، ثم توّج العنصر الثالث من عنوانه الفرعي بدراسة نقدية أسطورية لقصة ابراهيم الكوني الموسومة بعنوان «الفخ»، لتكون نموذجا تطبيقيا استغلّه المؤلف ليضع بين يدي قارئه أدوات «النقد الأسطوري». ولا نغالي، إذا قلنا إنّ بين دفّتي «الأسطوري» مجهود منير، مع سابق علمنا بأن بحري (ينام ملء عيونه عن شواردها)؛ ثمّ إنّ الوقوع على كتاب جيّد صار يحتاج إلى أساطير من حسن الحظ؛ فكيف يكون الوصف حين نقع على كتاب هو خلاصة سنوات طويلة من البحث الجادّ..كتاب يجمع مادّة ثرية تحاول أن لا تترك ثغرات للبياض، بل إنّها عبر كثير من التفاصيل تسارع إلى تقديم المعلومة أو القراءة أو الرأي بمجرّد أن يسطع سؤال في ذهن القارئ، ذلك أن بحري يتحرّى في تقديم مادّته أسلوبا لا يحرمها عنصر التشويق، رغم التزامه برصانة الأسلوب الأكاديمي ودقّته وحدّته؛ ومع هذا، نجد بعض المآخذ التي اجتمعت أمامنا في أثناء قراءتنا ل»الأسطوري»، وهي بين ما ينبغي أن يوضّح، وما ينبغي أن يصحّح؛ ونعتقد أنّها تسلّلت إلى العمل بسبب غياب منظرين مختصّين عن مسرد المراجع، وهؤلاء يمكن أن نذكر منهم جورج دوميزيل وأندري يوليس ودانيال ماديلينا وميخائيل باختين وفلورانس غويي وآخرين كان يمكنهم أن يجنّبوا العمل المغالطات المعرفية والتاريخية المهيمنة على هذا النّوع من الدراسات، ومن ذلك اعتبار «أليغوريا الكهف» (Allégorie de la Caverne) من الأساطير، وتقديمها تحت عنوان «أسطورة أهل الكهف» في المبحث المخصّص ل «مظاهر الأسطورة» (بحري-152)، وحتى إن صنّفها ضمن ما هو مصطنع من الأساطير ووصفها ب»الأسطورة الافتراضية»، فإن التصنيف لن يعدم مغالطة يلقي بها إلى ذهن القارئ، لعل أيسرها أن ينسحب «الميثوس» على الفكر الأفلاطوني الذي اعترض على «الفنّ» في عمومه، والشّعر بصفة خاصة، لأنه وجد له تأثيرا سيئا على الطّبيعة الانسانية بما يقدم لها من نماذج ضارّة، بمثل ما أوصى سقراط الذي دعا إلى حظر التّراث الأسطوري على الأطفال والاكتفاء في تعليمهم بالرياضيات والرياضة والموسيقى، ذلك أن الأسطورة السيئة تزرع النموذج السيئ في الرّوح، بل إنّها تنمذج الأطفال وفق رؤى ومواقف تناقض ما ينبغي أن يكونوا عليه حين بلوغ سن الرّشد، بل إنه يرى الأساطير في مجملها سيّئة لأنها تقدّم «الآلهة» في صور لا يرضاها حتى أرذل البشر لأنفسهم؛ ولعل بحري تنبّه إلى هذه المشكلة التي واجهت عمله، فوصف «الأليغوريا» بأنّها «أمثولة أسطورية» (بحري-154)، رغما عن المصطلح الأجناسي الذي لا يتضمّن أية سمة تدلّ على ارتباطه ب»الأسطوري»، فمصطلح «أمثولة» دون إضافة، يكفي ليكون معبّرا عن «أليغوريا» (مع التحفّظ، لأن المصطلح العربي ليس دقيقا)، ولهذا نرى الاصطلاح ب»أمثولة أسطورية» تجنيسا وإن يكن غير مقصود في السياق لا نجد له ضرورة تفرضه، ولا قرينة تؤيّده؛ وليس يمكن ل «الأليغوريا»، بأيّة حال، أن ترتبط بما هو أسطوري حتى إن تلبّست بما هو تخييلي أو عجائبي، كما أنّها لا تقع تحت أيّ تعريف من التعريفات التي قدّمها بحري للأسطورة سواء عند ماكس موللر أو مرسيا إلياد أو غيرهما ممن حاولوا ضبط المفهوم؛ بل إن ذريعة «الوهم» التي استغلّها بحري لتمرير (الأمثولة الأسطورية) فيما هو مصطنع من الأساطير، لا تنسجم مطلقا مع تعريفات أسطورة البدء التي تؤصل ل «الحقيقة» استجابة للأسئلة الثلاثة التي واجهت / وتواجه الانسان (المصدر، الوظيفة، المصير). إشكالية التّجنيس قدّم محمد الأمين بحري متصوّره الأجناسي في بدايات فصل «التّأسيس» حين علّل تباين تعريفات الأسطورة وتعدّدها بالتباس المفهوم «مع أجناس أسطورية أخرى كقصة المآثر أو القصّة البطولية المأثورة والحكاية الشّعبية، الملحمة، والخرافة» (بحري-35)؛ ولقد وضع بحري يده على إشكالية غاية في الأهمّية وهو يتطرّق إلى التغييرات التي اجتاحت المنظور الأسطوري في حاضنة «الأدب»، وهو ما توسّمنا منه أن يصل به إلى الفوارق الجوهرية بين ما هو «شعريّ» وما هو «أدبيّ»؛ لكنه وقع في «فخّ» تعريفات وضعت ب»أثر رجعي»، وتعاملت مع ما هو «شعري» خالص ينتمي إلى حضارة شفاهية خالصة، بأدوات «أدبية» تنتمي إلى الحضارة الكتابية، وأسقطت على الشعري ما لا ينسجم سوى مع «الأدبي»؛ وهو ما انتهى ببحري إلى حكم لخّصه بقوله: «لن نقول إن الأسطورة تنتهي حينما يبدأ الأدب، بل علينا أن نقول إنّ قداسة الأسطورة هي التي تنتهي حينما يبدأ الأدب» (بحري-187)؛ وهنا كان ينبغي لبحري أن يسأل: متى بدأ الأدب؟! والإجابة على هذا السؤال في رأينا يمكن أن تلقي بأضواء تجلي بعض الغموض الذي يكتنف موضوع الأسطورة. ولسنا نريد القول إنّ «الأسطورة لا تنتهي»، لأن مقولة مثل هذه تتجاوز ما يتيح مقالنا هذا؛ ولهذا نكتفي بالإشارة إلى أن الحضارة الكتابية (الأدب) لم تكن مطلقا بديلا للحضارة الشّفاهية (الشعر)، وإنّما كانت رفيقا ملازما لها، ولم تبرح من الوجود؛ وما دامت أسئلة «المصدر» و»الوظيفة» و»المصير» مطروحة على الانسان، فإن الأسطورة تمتلك مقومات الانبثاق في كلّ لحظة تاريخية تشهد ارتباكا أو تردّدا في الإجابة، وهذا يقول به بحري في عدة مواضع من كتابه، ولكنّه يحتاج إلى نقاش أوسع لتوضيح معنى «التقديس» و»المقدّس» الذي يعتريه الغموض في متن الكتاب، فهو يتّخذ معنى شموليا مرّة، ثم يختص بجماعة اجتماعية معينة تقدس شيئا بعينه مرة أخرى؛ ولهذا نكتفي حاليا بسؤال الأدب والأجناسية الأدبية، ونتمثّل ب»تجنيس» بحري ل «الملحمة»، فهو يصفها بأنّها «من أوائل الأجناس الأدبية المستقلة عن الجسد الأسطوري» (بحري-196) ويجعلها وفق مؤرّخي الأدب ثلاثة أقسام، أولها «الملحمة الشّعبية» (الإلياذة والأوديسة لهوميروس، كلكامش عند البابليين، وشهنامة الفردوسي عند الفرس)، أما القسم الثاني، فهو ما يصفه ب»الملحمة الفنيّة» ويقترح «إنيادة» فيرجيل نموذجا لها؛ بينما يضع «الرامايانا» و»الماهابهاراتا» الهنديتين في قسم الملاحم الدينية (بحري-203)؛ وهنا نجد أنفسنا ملزمين بتفحّص «أدبية الملحمة»، ذلك أن انتماء هذا الجنس إلى المنظومة الأجناسية الأدبية في حالته التّأسيسية، يعني أنه يمثلّ نهاية لمقولة «التّقديس» الأسطوريّة؛ ما ينتهي بنا بتحصيل حاصل إلى القول بأن نهاية مقولة التقديس تحقّقت ألف سنة قبل الميلاد على الأقلّ، باعتبار تاريخ نقش الملحمة البابلية على الألواح؛ وهي الملحمة التي وضعت نقطة النهاية ل»الأسطورة الحديثة» التي جعلت من «الملحمة» جنسا غربيا خالصا. شعر أم أدب؟! وإذا تابعنا المسوّغات التي قدّمها بحري لأقسام «الملحمة»، فإنّنا نجد «الشّعبي» في الملاحم ما «يحفّز إلى إبداعه الواقع (على أساس أن) المبالغة في تصوير الأبطال والأحداث مرجعها زوال الحاجز بين الواقع والخيال في الوجدان الشّعبي» بينما يصدر «فنيّ» الملاحم «عن إبداع يستوعبه الخيال، ويعبر عن شخصية «الشّاعر»؛ أما «الديني» فهو «مرتبط بالمعتقدات القديمة، تلفه القداسة بكل محتوياتها البنائية والخطابية والفنيّة، ما يساهم في حفظه كتراث انساني وثقافي واستمرار وهجه الأسطوري الذي لم ينسلخ من قداسته تماما» (بحري-203 و204)؛ وهنا نسجّل بأن بحري وضع «كلكامش» في الملاحم الشعبية، وأن رحلة كلكامش بحثا عن «الخلود» لا يمكن أن تلتقي مع الواقع في شيء، فأيّ حاجز بين ما هو واقعي وما هو خيالي ينبغي لها أن تزيله من الوجدان الشعبي، بطبيعتها الأسطورية خالصة؟! ثم إن الملحمة التي وصفها ب «الفنيّة» أو «الدّينية» إنّما اكتسبت صفة «الملحمة» لأن لديها من يرويها ويمسرحها، وروايتُها تقتضي جمهورا يستمع ويتابع تفاصيلها، أفلا تكون شعبية إذن مادامت تجمع جمهورا من عامة الناس؟! ثم إنّ بحري أشار إلى أنّ ما يصفه ب»الفنيّ» من الملاحم يعبّر عن شخصيّة «الشّاعر»، وهذا لا ينفي عن القسمين الآخرين صفة «الشعر» وإن كانا لا يعبّران عن شخصية الشّاعر؛ فهل يعني هذا أن «الشعر» و»الأدب» مصطلحان يعبران عن نفس المفهوم باعتبار «الملحمة» جنسا أدبيّا مستقلا عن الجسد الأسطوري كما وصفها بحري، أم أن اختلاف الاصطلاح يفترض بالضّرورة اختلاف المفهوم؟! ولسنا نلوم على محمد الأمين بحري ما لاحظنا من تداخل بين «الشّعر» و»الأدب»، فهو تداخل يتواتر في كثير من الدّراسات العربية التي تصرّ على تأصيله، رغما عن الفرق الواضح بين «الشّعر» و»الأدب»؛ فلو وقع في أسماعنا قول محمد العيد آل خليفة: (أنا ابن جدي وقومي السّادة العربُ / وحرفتي ما حييت: الشّعر والأدب) فإنّنا لن نظنّ أبدا بأنه يقصد (الشّعر والشّعر) أو (الأدب والأدب)؛ لأنّنا نجد في أنفسنا الفوارق بين «الشّعر» و»الأدب»، وإن درجنا في كلامنا العام على وضع الشعر في حاضنة الأدب. وهذا يوضح ما وصفناه آنفا ب «فخّ التعريف بأثر رجعي»؛ وهو ما سحب معنى «أدب» على كل ما كان يغطيه مفهوم «شعر»، إذ ليس يفوتنا أن أصل «Littérature» في الضّفة الغربيّة إنما هو من «Lettre» (حرف) وفق ما يقول آرون كبيدي فارقا، ما يعني أن «الأدب» ارتبط بالحضارة الكتابية، ولم يكن له معنى قبل الكتابة؛ وهي الحال نفسها بالضفة العربية، فقد ظلّ «الشّعر ديوانا للعرب» إلى أن انسحب لفظ «الأدب» المختصّ بوصف محاسن الأخلاق والظّرف وحسن المعاملة والتّعليم والتعلّم، على المنتج الفنّي اللغويّ؛ ونعتقد بأن الإجماع على الاصطلاح ب «أدب» في اللغة العربية، يعود إلى بدايات الوعي ب «النثر» وتمأسسه في دواوين الرسائل التي استحدثها الخلفاء، فالرسائل تقتضي نوعا من التعبير محافظا على مستوى من اللباقة وحسن الخطاب وما يعبّر عن حسن الخلق، وهو ما منح معنى «الأدب» الأخلاقي، القوة لينسحب بمعناه على كل كتابة نثرية تتخذ من أناقة اللفظ وجماله منهجا. هل هناك سلالة أجناسية؟! بقيت مسألة السلالية الأجناسية التي اقترحها محمد الأمين بحري، وهذه نعتقد أنّها تستحق نقاشا عميقا، ذلك أن محمد الأمين بحري يرى بأنّ ما يصفه ب «الأجناس الأسطورية» صدر من صلب «الأسطورة» وانفصل عنها، وذهب إلى أنّ تقدّم الزمن وتطوّر الانسان لم يترك للأسطورة صيغتها الشّمولية الجامعة لأفكاره وسلوكاته ومعتقداته (...) فبدأت الأسطورة في التلاشي والاستحالة إلى أجناس أسطورية (بحري-195). لعل مقتضيات مقالنا لا تسمح بتوضيح الإشكال الذي يطرحه بحري توضيحا جيّدا، لهذا نسارع مباشرة إلى مقولة ميخائيل باختين التي يذهب فيها إلى أن «الجنس الأدبي الجديد لا يمكنه إلا أن يكون مكمّلا للأجناس القديمة أو إضافة لها، وموسّعا لحقل الأجناس الموجودة، ذلك لأن لكلّ جنس دائرة وجود مفضّلة (...) وعلى هذا، ليس الجنس الأدبي الجديد الواحد الذي يلغي، أو يحلّ محلّ الأجناس القديمة، ولكن هذا الجنس الواحد يمكنه في الوقت نفسه أن يمارس على كل الأجناس المحيطة به تأثيرا تفرضه أهميّة الجديد وضرورته» (Problèmes de la poétique de Dostoïevski-315)، وهو ما يمكن أن نستخلص منه أن «الأجناس لا تجبّ الأجناس» في الحاضنة الأدبية، فهل يمكن أن تجبّها في حاضنة الشّفاهية الأدبية (Oraliture)؟ نعتقد أن الإجابة على هذا السّؤال تفرض العودة إلى مفهوم الأسطورة، وهو في كثير من تعريفاته التي قدّمها بحري يؤكّد بأنه يخترق الحياة اليومية المعاصرة، تماما كما فعل في حاضنته الشّفاهية الأولى، لم يتغيّر منه سوى ما تفرضه أهميّة الجديد كما قال باختين؛ وبما أن الأسطورة، في بدايتها الأولى، كانت استجابة لأسئلة وجودية، فإنّ الأسئلة نفسها ما تزال تتردّد وتبحث عن طمأنينة ممكنة؛ ومثلها «الملحمة» التي اعتبرها كثير من الباحثين جنسا ميتا، أو متجاوزا، ولكنّها عادت من جديد، وفرضت مادّتها على المنتج الأدبي / السينمائي بقوّة. لهذا، لا نريد أن نسلّم بوجود سلالة أجناسية، فالأسطورة التي رآها بحري تتلاشى، هي نفسها التي أنتجت على سبيل المثال فقط ثلاثية جورج لوكاس (George Lucas) الشهيرة ب»حرب النجوم» التي لم تكن سوى تطبيقا لنظرية جوزيف كامبل صاحب مفهوم «الأسطورة الوحيدة الاتجاه» (Monomythe)؛ وعلى هذا، نرى الأجناس الشّفاهية والأدبية معا خاضعة لمقولة «الحضور»، أي أنّها يمكن أن توجد في الواقع الذي لم يتحقّق أمام إدراكنا من خلال شيء أو فكرة تعبّر عنه؛ ما يعني أن أفكار «الملحمة» و»الحكاية» و»الخرافة» وغيرها كانت موجودة في «الحضور الممكن»، قبل أن تتحقّق في «الوجود المدرك». ختاما.. ليس ينقص من قيمة «أسطوري» محمد الأمين بحري شيئا أن نناقشه، فهو إضافة هامّة إلى المكتبتين الجزائرية والعربية، ولعله لم يسبق في فنّه بالحاضنة العربية، خاصة فيما يتعلّق ب «النقد الأسطوري» (Mythocritique)، ويبقى أن الإشكاليات التي يطرحها «التجنيس» إنّما تنبع من إشكاليات «التأسيس»، ولقد كنا نأمل أن نبسط في النقاش، ونخوض في تفاصيل الموضوع، لكن مشاغل الحياة حالت دوننا، فلم تتح لنا من الوقت سوى ما تخطّفناه منها عنوة؛ فاكتفينا بالإشارة واللمحة، لا نرجو سوى أن يتوسّع النقاش حول الكتاب، فهو كتاب جيّد يحازي قارئه بقدر جهد قراءته.