يمثل الهجوم الأخير الذي شنته حركة طالبان أفغانستان على قاعدة عسكرية إيطالية في هيرات بغرب البلاد يوم الاثنين 30 ماي، بغض النظر عن حجم الخسائر الذي خلفها الهجوم لعدم اتضاح الصورة بعد تحد جديد للسياسة الأمريكية المتمسكة بالبقاء في أفغانستان حتى بعد الرحيل الذي كثر عنه الحديث هذه الأيام إن هذه السياسة التي إنتعشت بعد مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، الذي تسيء كيفية إغتياله ورميه بالبحر والصلاة عليه، إذا ما صدقنا رواية إدارة الرئيس باراك أوباما الى سمعة الولاياتالمتحدةالأمريكية، لاسيما ما يتعلق بسجلها السيء في مجال حقوق الإنسان وخرق المواثيق والقوانين الدولية على غرار ما يحدث في معتقل غوانتنامو والسجون السرية عبر العالم وسجن أبو غريب وغيره من السجون العراقية ودعم اسرائيل في مواجهة المدنيين العزل بالضفة الغربية وغزة ولبنان وغيرها من المناطق العربية والإسلامية التي تشعل فيها المخابرات الأمريكية الفتن والحروب الأهلية مثلما هو الأمر في جنوب السودان والصومال.. إلخ. مقتل بن لادن وراء تصعيد العمليات والحقيقة أن هجوم طالبان على القاعدة الايطالية في هيرات جاء تطبيقا لوعيد طالبان بشن هجوم الربيع، وكذا في إطار توسيع العمليات الانتقامية لمقتل أسامة بن لادن، كما أن هذا الهجوم يأتي مباشرة بعد الغارة الوحشية لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعلى ولاية هلمند بجنوبأفغانستان، إذ لقي الأحد الماضي 14 مدنيا من الأبرياء حتفهم في منتصف الليل، بينهم حسب حاكم الولاية سبعة فتية وخمس بنات وإمرأتين، فيما أصيب عشرة مدنيين آخرين، بينهم ثلاثة أطفال وقد استهدفت غارة الناتو هذه منزلين مدنيين في مديرية نواز. وإذا كان قتل قوات الاحتلال للمدنيين الأبرياء في أفغانستان، أصبح أمرا عاديا يأتي على سبيل الخطأ سواء خلال الغارات شبه اليومية أو المداهمات الليلية وحتى في المناسبات كالأعياد والأفراح، ويتبع في الغالب بالاعتذار أو الاعلان عن إجراء تحقيق لا يدين المجرمين، إذ لا يمكن تبرير ما لا يبرر. وبالتالي لا يهدف مثل هذا الإجراء سوى حفظ ماء وجه الرئيس حامد كرزاي والقوى الداعمة له والسائرة في ركب قوى الإحتلال الأمريكي والغربي. عذر أقبح من ذنب..! وضمن هذا السياق، أصدر الجنرال جون تولان اعتذارا رسميا نيابة عن قائد قوات الناتو الجنرال ديفيد بترايوس والجنرال ديفيد رودريغيز عن مقتل تسعة مدنيين حسب بيان الناتو في هجوم الحلف يوم السبت..! وقال الجنرال جون تولان: إن غارة جوية شنت بعد هجوم مسلحين على دورية تابعة للناتو في منطقة قتل فيها جندي من مشاة البحرية الأمريكية. وأضاف أن خمسة مسلحين سيطروا على مجمع واشتبكوا مع قوات التحالف، وهو الأمر الذي استدعى شن غارة جوية لمواجهة تهديد المسلحين. وأشار الى أنهم اكتشفوا لسوء الحظ في وقت لاحق وأن المجمع الذي سيطر عليه المسلحون هو منزل به مدنيون أبرياء..! ومن دون شك، فإن مثل هذا الهجوم الذي ليس هو الأول، ولن يكون الأخير، والذي يقتل فيه مدنيون أبرياء، أصبح يثير في كل مرة غضبا واسعا في أوساط الشعب الأفغاني. ولهذا جاء الاعتذار الرسمي كالعادة، والذي لا يمكنه أن يعيد الحياة للمدنيين الأبرياء بما فيهم الأطفال والنساء، الذين هم ليسوا أعضاء في حركة طالبان أوتنظيم القاعدة. كذلك، فإن هذا الاعتذار جاء تماشيا في النغمة بعد ساعات من اصدار الرئيس الأفغاني حامد كرازاي بيانا كعادته في مثل هذه الأحداث المؤسفة، حذّر فيه قوات الناتو من عواقب الاستمرار في استهداف المدنيين بعد الغارة الجديدة على مديرية نور زاد بولاية هلمندا. ووصف في بيانه عمليات الحلف بأنها عشوائية، وغير ضرورية لأنها تقتل الأبرياء كل يوم وتدل على عدم مبالاة وإهتمام. تنصل من المشاركة في قتل المدنيين لا يعفي من المسؤولية وبهذا يكون الرئيس الأفغاني قد تنصل من مسؤوليته وأرضى الجميع، حسب اعتقاده. فمن جهة، أدان ممارسات قوات الناتو في عقابها الجماعي للشعب الأفغاني. ومن جهة أخرى، جدد تأكيده للقادة العسكريين لقوات الناتو وإيساف (قوة المعاونة الأمنية الدولية) بأن الاستمرار بمثل هذه العمليات يقوض كل جهوده ومساعيه في كسب تأييد المواطنين الأفغانيين لدعم الحرب العدوانية على بلاده. وبالفعل لقد جاءت غارة الناتو على مسكنين مدنيين في منتصف الليل لتقضي على 14 من السكان الآمنين، كانوا نائمين بالتأكيد وذلك في وقت تزايدت فيه المشاعر المناهضة للتواجد العسكري الغربي بأفغانستان. إذ لم تمض أيام على مظاهرات عنيفة، قتل خلالها 12 أفغانيا احتجاجا على مداهمة ليلية نفذتها قوات الناتو أسفرت عن مقتل أربعة أشخاص بينهم امرأتان. سياسة العقاب الجماعي لردع طالبان والحقيقة هنا، أن الناتو يردع طالبان بسياسة العقاب الجماعي وقتل المدنيين لمنع الحركة من شن المزيد من الهجمات، لكن حركة طالبان، التي يبدو اليوم أنها استعادت شعبيتها قبل غزو أفغانستان واستفادت كثيرا من تجارب السنوات الماضية، وأصبحت تقود بالفعل حرب تحرير أفغانستان، وهي في ذلك تطور إستراتيجيتها بالتنسيق مع حركة طالبان باكتسان، مثلما حدث في هجومها الأخير على القاعدة الجوية بكراتشى، إذ يتم اليوم إقتحام القواعد العسكرية في البلدين بذات الأسلوب تقريبا. فبعد جمع المعلومات عنها بدقة متناهية بالاستعانة من عناصر بداخلها، يدفع بمقاتلين إستشهاديين مزودين بالذخيرة اللازمة الى اقتحامها بعد تفجير بواباتها، وتنجح بعض العناصر أحيانا في الانسحاب بعد تنفيذ مهامها في ظل غطاء من القصف الخارجي. وأصبحت مثل هذه العمليات النوعية تشكل هاجسا وانتكاسة بالنسبة لقوات الاحتلال والقوات الأفغانية على السواء. الهجوم على قصر حاكم ولاية تخار رسالة لألمانيا ولا أدل على ذلك من هجوم طالبان السبت الماضي، الذي استهدف قصر حاكم ولاية تخار بشمال أفغانستان، حيث خلف 15 قتيلا، بينهم قائدان بارزان في الشرطة الأفغانية وجنديين ألمانيين. بالاضافة الى إصابة 50 آخرين بينهم الجنرال الألماني قائد قوات حلف الناتو في شمال أفغانستان “ماركوس كليب” الى جانب 3 من جنوده. ويبدو أن هدف الهجوم قد أختير بعناية كرد انتقامي على مقتل بن لادن، ليقضي بذلك على فرحة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي أعربت عن ابتهاجها لمقتله، إذ كان الجنرال الألماني وعدد من المستشارين العسكريين ورجال المخابرات الألمان في اجتماع بقصر حاكم ولاية تخار الأفغانية، الذي نجا من هذا الهجوم. مقتل 8 جنود أمريكيين ومصرع جندي ل “إيساف” في سقوط مروحية انتقام آخر كذلك من العمليات الانتقامية الأخرى للإغتيال الغادر لبن لادن وإهانته برمي جثته في البحر والادعاء بالصلاة عليها، كان قتل ثمانية جنود أمريكيين مع شرطيين أفغانيين يوم الخميس الماضي في انفجار قنبلة وقع في مديرية شورباك بولاية قندهار جنوبي أفغانسان وكذا الأمر في ذات اليوم بالنسبة لقتل جندي آخر من قوات “إيساف” لم تحدد هويته بعد في تحطم مروحية بشرق أفغانستان. وبغض النظر عن كون هذه العمليات الأخيرة لطالبان أفغانستان تأتي إنتقاما لمقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن أو في إطار “هجوم الربيع” الذي أعلنته الحركة قبل أسابيع، تؤكد خطورة الوضعية التي أصبحت تواجهها قوات الاحتلال والقوات الحكومية الأفغانية، رغم زيادة تعداد القوات الأمريكية بعد الانسحاب التدريجي من العراق، حيث لم تعد تصول وتجول لوحدها في الميدان، مثلما كانت في سنوات العقد الماضي، مما يفرض على الرئيس الأمريكي باراك أوباما تغيير حساباته والاستعداد للرحيل الجدي من أفغانستان، وترك شعبها يقرر مصيره بنفسه ومعالجة المآسي الذي خلفها الإحتلال، ومن ثم الدخول في مفاوضات جادة للخروج من المستنقع الأفغاني بأقل التكاليف، ومثلما خرجت القوات الأمريكية بالأمس من فيتنام دون أن تستطيع حماية النظام العميل بالجنوب، لن يمكنها اليوم المحافظة على الرئيس حامد كرازاي أومن يخلفه كنظام عميل موال للغرب، يستمر في المحافظة على مصالحه ولعل الشروع في تسليم المهام الأمنية لحكومة كرازاي لن يستمر طويلا، بعد رحيل قوات التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة. المفاوضات .. اللمسة الأخيرة للرحيل إن الهجمات الأخيرة لطالبان، التي ستعرف توسعا في إطار “هجوم الربيع”، تؤكد أن الحركة أصبحت واقعا قائما ورقما صعبا يصعب تخطيه. وقد إشترطت أكثر من مرة رحيل القوات الأجنبية الغازية لأفغانستان قبل الحديث عن أية مفاوضات، والتي كثيرا ما لوّح بها الرئيس الأفغاني باشراكها بالحكم طالما كانت بعيدا عن تنظيم القاعدة. هذه المفاوضات التي يبدو أن بشائرها قد بدأت بوساطة ألمانية في محادثات سرية بين الولاياتالمتحدةالأمريكية وطيب أغا المسؤول الطالباني المقرب من زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر، حيث التقى مندوبا أمريكيا معه بألمانيا قبل أسبوعين، حسب مجلة “دير شبيغل” الألمانية، ويأمل الألمان أن تثمر إتصالاتهم الديبلوماسية هذه في مؤتمر كبير تحتضنه مدينة بون في شهر ديسمبر المقبل. ويجد هذا التوجه تجاوبا باكستانيا ضديا بدعم مفاوضات تؤدي الى اتفاق مع حركة طالبان على أساس نبذها للعنف ورفض تنظيم القاعدة ودعم الدستور الأفغاني ولكن طالبان العائدة بقوة، لم تعلن عن رأيها بعد، ولها شروطها بالطبع طالما أن إبعادها ميدانيا أمرًا مستبعدًا. إن قوة طالبان تستمدها من استقطابها لفئات واسعة من الشعب الأفغاني الذي يرفض الدخيل الأجنبي عبر مختلف مراحله التاريخية. ومن ثم فإنها متأكدة من أن صمودها في الميدان سيمكنها من دحر أكبر تحالف غربي عرفه التاريخ ضد دولة ضعيفة لا تجد أي حليف خارجي. وستعمل من أجل إنهاء احتلال الإمبراطورية الأمريكية وحليفاتها من الدول الأوروبية والغربية، مثلما حدث من قبل بانهزام بريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب عنها الشمس وكذا الاتحاد السوفياتي من بعدها، والذي تفكك عقده بعد انسحابه السريع من أفغانسان.