هو وحده القدر الحكيم الذي يجعل المسرات والفواجع تتساوق إلى غاياتها وتتناهى إلى مصائرها، في مشهد تتوازى فيه التناقضات وتتقاطع فيه المفارقات، وتزدحم فيه الأحداث المتلاحقة التي تملأ حياتنا بالأمل واليأس، وبين الأمل واليأس لحظة فارقة هي الفيصل الذي لن نستطيع تحديد معالمه أو معرفة كنهه .. ولعلّ حقيقة تلك اللحظة هنا تكون أشبه حالا بين الإستعداد لتكريم البروفيسور الراحل عبد اللّه ركيبي، ونزول الخبر الفاجع على المحتفين به، لينقلب في لمح البصر ذلك النبأ الصاعق إلى لحظة صادمة، ويتحول التكريم إلى تأبين وبين التكريم والتأبين خيط دقيق وواشجة رحم، لأنهما التكريم والتأبين يجمعان بين ذكر المناقب والمزايا والمواقف والثناء والإحتفاء ... والفرق بينهما أن صاحب التكريم لا يزال على قيد الحياة، ويشعر بما قام به المحتفون نحوه من تقدير واعتراف، أما صاحب التأبين فلم يعد في عداد الأحياء، ولكنه هو الآخر قد تشعر روحه بذكر خصاله وثناء المؤبنين عليه بما يستحق، ولعله يحس بلوعتهم عليه وحسرتهم على فراقه. واللافت للنظر أن الراحل الأستاذ الدكتور عبد اللّه ركيبي قد جمع بين التكريم والتأبين، وترجَّلَ في هدوء وتؤدة وسار إلى عفو ربّه راضيا مطمئنا، مفضلا اللحظة الفارقة وإن كانت صادمة. كانت حياته رحمة اللّه عليه ضربا من المجاهدة العلمية المتواصلة التي لا يستريح أصحابها ولا يعرفون السكون والإنزواء، بَلْهَ النضالات الشريفة التي تحمَّلَ عبئها يافعا والتزم بها في كل المواطن، ولم يُخْلِفْ موعدها على الإطلاق، من أجل النهوض بقضايا الأمة والوطن. وظل وفيا لخط جبهة التحرير الوطني منذ فجر شبابه ومطالع رجولته التي جاءت على قدر مع اندلاع الثورة التحريرية، فكان واحدا من تلك النخبة الشابة التي أبلت البلاء الحسن ولم تتخلف في ساعة العسرة. وفي منطقة ((الحوانيت)) بمحاذاة ((جمورة)) في بدايات سنة: 1955 كان للفقيد المجاهد عبد اللّه ركيبي أول اتصال بكتائب المجاهدين الأُوَلُ المنطلقين نحو ((الجبل الأزرق)) وما حوله من مداشر وقرى لتعميم الثورة وتجذيرها، والعمل علي فرض تواجدها، وجعلها واقعا في حياة الناس وقضية محسوسة، على الشعب برمته أن يعايشها ويتكيَّفَ مع يومياتها، وتصبح جزءً من واقعه، ومن ذلك الإتصال بالمجاهدين انخرط المرحوم عبد اللّه ركيبي في العمل الثوري وتجند في كتائب جيش التحرير الوطني بمعية بَلَدِيِّهِ فرحات بوذيبي، وهذا حسب رواية الملازم الثاني الأستاذ المجاهد محمد الشريف عبد السلام، وقد سمعتها منه قبل أقل من شهر من رحيل فقيدنا وتحديدا صبيحة يوم السبت: 26 / 03 / 2011، والمجاهد محمد الشريف عبد السلام يشهد على تلك الوقائع في بداية الثورة، أثناء تنظيماتها الأولى ورسم معالم خارطة عملها الثوري والتغييري في نطاق إقليم الأوراس الأشم. والمجاهد محمد الشريف عبد السلام من مجاهدي ليلة أول نوفمبر 1954، وكان واحدا من ضمن الفوج الذي توجه نحو محطة توليد الكهرباء ببسكرة لتنفيذ مهمة تفجيرها الموكلة إلى فوجه بقيادة المجاهد عبد اللّه عقوني، وقاموا بأداء واجبهم التحرري على أكمل وجه، ويذكر الملازم الثاني محمد الشريف عبد السلام أنه تعرف على المجاهد عبد اللّه ركيبي في العهد الأول للثورة، وأنه انتمي للثورة وتجند في ذلك الوقت. ونعود إلى الأستاذ المجاهد الفقيد عبد اللّه ركيبي الذي واصل نشاطه الثوري، وأصبح واحدا من ضمن كتائب جيش التحرير التي تعمل بوسائل محدودة وتتأقلم مع الظروف الخاصة لطبيعة ذلك الزمن الإستدماري، وتعمل على تحقيق الإنتصارات الفاصلة وكسب النتائج النوعية متفوقة بالعزيمة الصادقة والصبر والمصابرة على عدوّ مسلح بأعتى وسائل الفتك والتدمير، وليس له من هدف سوى الإبادة الشاملة للقضاء على الثورة المظفرة، وجاءت مع بشائرها بداية نهاية زواله وتراجع هيمنته ومظالمه. ولم يجد ذلك الإستدمار الكولونيالي من سبيل أمامه إلا الفرار بجلده والتسليم بأحقية الشعب الجزائري في حريته واسترجاع سيادته الوطنية الكاملة وممارسة حقه في الحياة كغيره من الأمم. وفي تلك الأثناء أيام الكفاح المجيد واجه المجاهد عبد اللّه ركيبي محنة اعتقاله لانتمائه لجيش التحرير الوطني، وتعامل برجولة مع تلك المأساة التي كانت من صميم القضية الوطنية المقدسة التي لا عذر فيها لمتريث أو متردد أو متدثر بالحياد، فلا مجال هنا لأي تبرير، فإما أن تكون في خدمة القضية الوطنية ودعمها بما هو متاح، والوقوف حيث يقف الشعب أو الإرتماء في أحضان العدو، وليس أمامك من خيار آخر تختلقه أو تحاول به الدفاع عن جريمة الخيانة العظمى، والتخندق في خنادق الأعداء وسفكة الدماء. وقد كان للفقيد المرحوم المجاهد والأستاذ الجامعي عبد اللّه ركيبي الموقف المشرف في تحديد موقفه، وانضمامه لكتائب جيش التحرير وهو الموقف الأصيل الذي لن ينساه له التاريخ، ولن تنساه له الوطنية الصادقة، وليست الوطنية الزائفة التي يتغنى بها الكذبة والفاسد ون من أكلة المال العام. @@@ كتب الدكتور ركيبي بموضوعية الباحث، ولم يكتب كتابة المتحامل الذي لاتهمه شرائط البحث الموضوعي، ولا تعنيه بعد ذلك الحقيقة العلمية. ويلمس القارئ سعة اطلاعه، وطرائق معالجته لقضايا الفكر والأدب والثقافة، ومدى غزارة علمه ومساهماته التي منحها عصارة فكره ومهرها بخالص مجهوداته وزهرة شبابه. ومن القضايا التي شغلته وتتبعها وتحدث عن أبعادها وخفاياها ودورها ومدى هيمنتها، ورصد مناشطها في الفكر والأدب قضية الفرنكفونية التي وضعها تحت المجهر وأشار إلى منطلقاتها التي صاحبت ظهورها، كما ركَّزَ على دورها الإقليمي المغاربي في مجال الفكر واللغة، بَلْهَ موقعها وانعكاس تأثيرها على مستوى الفكر والأدب في نطاق المغرب العربي، وحَدَّدَ موقفها من الإتجاه القومي في الجزائر حينما سجل: ڤڤ إن ما ينقصنا في المغرب العربي هو الحسم في قضية الهوية، ونحن لا نمل من ترديد هذا الموقف. فالذين حددوا موقفهم هم العروبيون الذين يؤمنون بالإنتماء العربي والإسلامي الراسخ في البيئة، هم الذين لا يحسون بالإنفصام أو الإزدواج في الشخصية أو البلبلة في الفكر والثقافة لأنهم درسوا التاريخ واستوعبوه وجعلوه حكما سواء منهم من ثقف ثقافة عربية أم أجنبية، مشرقا أو مغربا ... پپ . ويختم ذلك التحليل: ڤڤ وفي نهاية القول علينا أن نراجع أحكامنا عن الهوية ونتجرد من أحكام (جاهزة) و ''نتحرر من ذبذبة فرضتها علينا الفرنكوفونية''، حتى لا ننقلها إلى الأجيال الجديدة وحتى نبني مغربا موحدا يلتقي مع مشرق عربي ويعملان ضمن دائرة واحدة لها كيانها الواحد ومصيرها المشترك، ويسهمان معا في حضارة إنسانية شاملةپپ . أ . ه . ص: 133. وتحدث عن غايات الفرنكفونية في الجزائر قبل وبعد 1988. وَيُعَدُّ كتاب الدكتور ركيبي: (( الفرنكفونية مشرقا ومغربا)) من أمتع تآليفه للجهد المبذول فيه، ورصده لمختلف قضايا الفرنكفونبة واقتفاء آثارها، بالإضافة إلى التصدى لمعالجة هذا النمط من المباحث الشائكة بموضوعية الدارس المتثبت من جدوى أدواته العلمية، بَلْهَ استخدامه للمنهج المناسب الذي يتوافق مع طبيعة الدراسة التي لها صلة بإشكالية الهوية والإرتباط بلغة الإستدمار، والخضوع للهيمنة الفكرية التي تعمل على إيجاد فضاء فرنكوفوني يمهد للتبعية والإنسلاخ، ويخطط بوسائل شتى وبإغداق أموال طائلة لفرض كولونيالية جديدة، والتمكين لأزلام وخلفاء الإستدمار وقوَّادِيه من مطايا بنت الكنيسة البكر. والواقع أن المجال الفكري الذي اشتغل عليه الدكتور ركيبي، كان متنوعا وغنيا وكانت اهتماماته تشتمل على الإبداع في القصة والأعمال المسرحية، ومنها (نفوس حائرة) و(مصرع الطغاة)، والكثير من القصص الأخرى المنشورة في مجلات وطنية وأجنبية، أما الأعمال الأكاديمية فمنها: (الشعر الديني الجزائري الحديث) وهو أطروحته للدكتوراه. ومن دراساته العلمية الأخرى: (تطور النثر الجزائري الحديث) و (دراسات في الشعر الجزائري الحديث) و (الأوراس في الشعر العربي ودراسات أخرى) و (فلسطين في الأدب الجزائري الحديث) و (الفرنكفونية مشرقا ومغربا) و (قضايا عربية في الشعر الجزائري المعاصر)، إلى غير ذلك من بقية كتبه ودراساته. وقد أخلص فقيد الجامعة الجزائرية للعلم، كما أخلص للجهاد وأخلص للنضال الذي ألزم به نفسه، وجعل منه مسألة تضحية تجاه شعبه ووطنه، وأخلص للعمل الأكاديمي فكان واحدا من الأساتذة القلائل على المستوى الوطني والعربي، وبالإضافة إلى كل تلك المهام والمسؤوليات اضطلع بالعمل الدبلوماسي، فكان الوجه الآخر للكفاءة والإقتدار على إدارة شؤون الدولة وتمثيلها أحسن تمثيل لدى الدول الشقيقة والصديقة وفي محافل المجتمع الدولي، فجمع بذلك بين المجاهد والمناضل والأستاذ الجامعي والدبلوماسي والمثقف والناقد والأديب والمبدع للرواية والقصة والمقالة والخاطرة والأعمال المسرحية، بَلْهَ البحث العلمي الأكاديمي المتخصص، ويكفيه هذا المسار الحافل الذي جعله تحت تصرف أمته. ويبقى هذا الرجل الفذُّ الذي رحل عنا حاضرا بيننا ولن تنمحي صورته وأعماله من الذاكرة بعلمه الغزير وتواضعه الجم وأخلاقه الأكاديمية، وعطاءاته العديدة ومثاليته التي جعلت منه رجلا متعففا زاهدا لا يعنيه حطام الدنيا ومباهجها في قليل أو كثير، وظل قنوعا بوضعه وواقعه، وقد شهد العديد من صحبه وزملائه وطلبته على مناقبه التي لا يتميز بها إلا طائفة قليلة ممن شغلتهم لذة البحث عن بقية اللذات، وصدق اللّه القائل: ڤڤإنما يخشي اللّه من عباده العلماءپپ . رحمه اللّه، وتقبله فيمن عنده من: ڤڤالنبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاپپ.