كانت الجالية الجزائرية المقيمة في بريطانيا في الماضي تقتصر أساسا على الطلبة والباحثين، الذين فضّلوا البقاء هناك، ومنذ الثمانينات بدأ الشباب الجزائري يكتشف هذه الوجهة لما توفّره من عوامل المغامرة. وسجّلت في أواخر العشرية الماضية هجرة معتبرة لفئات من الشباب بحثا عن تحقيق أحلام الرفاهية والتفوق الإقتصادي والاجتماعي، شجّعتها البطالة ومظاهر الأزمة الاقتصادية آنذاك. كان الجزائريون طوال العهود الماضية محل احترام وتقدير..ولكن ما أن وصلت رؤوس الشبكات الإرهابية إلى بلاد الجن والملائكة حتى بدأ صفو حياة الجالية الجزائرية يتعكّر، وتضرّرت تلك الصورة وتراجع الاحترام وحلّ الشك محل الثقة.. كيف تسلّلت الجماعات المسلحة إلى هذا المكان من شمال أوربا؟ وما هي أساليبها في النشاط...؟ سؤالان لا يمكن الإجابة عنهما بوضوح أكثر إلاّ من خلال الاطّلاع على المعطيات في عين المكان، ولذلك كان لزاما القيام برحلة وكان ذلك في أحد أيام هذا الفصل... مبعوث »الشعب« إلى لندن: سعيد بن عياد تتوزّع الجالية الجزائرية في بريطانيا على عدد من المدن الكبيرة تتقدّمها لندن وليفربول، وفي العاصمة لندن لا تنتظر كثيرا لتعثر على وجه جزائري خاصة في الشوارع المسماة "عربية"، حيث محلات ومطاعم اللبنانيين والباكستانيين. ويبدي الشباب تحفّظا كبيرا من الحديث عن شبكات الجماعات الإرهابية التي تعمل عناصرها على استدراج عناصر جديدة إليها من أوساط الشباب المغامرين. "جئت لأصنع لنفسي وضعية اقتصادية واجتماعية مريحة"، قال لي واحد من بين الذين صادفتهم، وأضاف: "إن هؤلاء الذين تتحدّث عنهم يتمركزون في مدينة فانسبوري بارك (Finsbury Park)". في يوم جمعة ركبت الحافلة المتجهة إلى هذه المدينة الواقعة شمال غرب لندن، البريطانيون لا يتكلّمون كثيرا وتجدهم يطالعون الجرائد أو الكتب. كانت الساعة تجاوزت التاسعة والنصف عندما نزلت بالمحطة، كان الطقس باردا. في هذه المنطقة تجد مظاهر البؤس والحرمان، أو الوجه الآخر للمجتمع الصناعي، ويلقى الجزائريون من الشباب المغامر البطالين مناخا ملائما "يستوعبهم". بأحد الشوارع يوجد مقهى صغير لا تتعدى مساحته 9 أمتار مربع، تنبعث منه مناقشات بين جزائريين عرفتهم من خلال أسلوب ولغة المناقشة، اقتربت من إحدى الطاولات وألقيت على من حولها التحية. في الحقيقة لم أكشف لهم عن هويتي واكتفيت بالقول: "إنّني من الجزائر أبحث عن أولاد الحومة"، وجرى نقاش مستفيظ حول البلاد وهموها ومغامرات الهجرة إلى الخارج، ولم يتحدث أحد في السياسة. كل يوم جمعة يستقطب مسجد "فاينسبوري بارك" أعدادا من المصلّين، وقد حوّلته الجماعات المسلحة إلى خندق تطلق منه أنشطتها الاجرامية الدعائية وتجمع فيه الأموال، مثله مثل مسجد (باكر ستريت Baker Street)، الذي كان أصلا قاعة للرياضة بالقرب من وسط لندن، وينشط فيه أبو كتادة فلسطيني الأصل، ومسجد المنتدى الإسلامي في (برسنس غرين Persons Green)، الذي تشرف عليه جماعة من السعوديين، وفي هذا المسجد الأخير بالجنوب الشرقي من لندن ينشط (صمود محرز) في توزيع المناشير. هذا الشخص من السهل التعرف عليه، أبيض البشرة، طويل القامة، يحمل لباسا رياضيا ونظارات، وقد قام مرارا بتوزيع أشرطة تتضمّن خطبا تدعو للإرهاب وتحرض عليه، كما يقوم بجمع المال من المصلّين في علب صغيرة، وبالقرب من هذا المسجد يوجد مقر أحد البنوك الإيرانية بشارع (هاي ستريت High Street)...! اللندنيون وهاجس تفجيرات باريس في هذا اليوم لم أصادف توزيع نشرية، وإنّما خصّص الدور هذه المرة لجماعة (الكوسوفو)، ويحتمل أن رؤوس الشبكات يكونون قد لجأوا إلى إعادة النظر في خلاياهم تحسبا لأيّ طارىء بعد أن أوقفت السلطات البلجيكية عناصر خلية نشيطة في بروكسل قبل أيام، والتي لها علاقة مباشرة بجماعات لندن مقر الأممية الأسلامية. وقد حدث في السابق بعد تفجيرات (مترو باريس) في صائفة 1955، أن فرّ عدد من عناصر شبكات باريس إلى لندن، مثل (رمضة رشيد) الذي اضطرت السلطات البريطانية إلى إلقاء القبض عليه منذ ثلاثة أشهر تقريبا بعد أن قدّمت لها السلطات الفرنسية معلومات عنه تثبت تورّطه في تلك التفجيرات. يوجد حاليا (رشيد رمضة) في أحد سجون لندن، وتتّهمه السلطات الفرنسية بتصدير الأسلحة والمتفجرات انطلاقا من أوروبا، وقد حاول الحصول على اللجوء السياسي لكن لم يتحقق له ذلك بضغط فرنسي على بريطانيا. المواطنون البريطانيون يعيشون هاجس الأعمال الإرهابية، ويتخوّفون من الأضرار التي يمكن أن يحدثها الأخطبوط الإرهابي للضغط على الحكومة البريطانية إذا ما استجابت إلى الطلب الفرنسي، أو حاولت تضييق الخناق على عناصر الجماعات. ومن صور هذا الهاجس ما حدث في أحد الأيام بمحطة الميترو (أكسفورد سايركوس Oxford Circus). ففي إحدى العربات عثر مراقبو الميترو على محفظة موضوعة بجنب الكرسي، وما أن أعلنت مكبّرات الصوت عن الخبر حتى انتشر الخوف والفزع. وتحسّبا لأيّ ضرر أمرت السلطات الأمنية التي وصلت فورا المسافرين بمغادرة المحطة بسرعة، وكنت من بينهم وقد شاهدت الوجوه مصفرة ومضطربة، وحتى أنا نال منّي الخوف. بعد حوالي ربع ساعة أعيد فتح المحطة، واستأنف الناس تنقلاتهم، ولم أعرف ماذا وجد المختصون في تفكيك المتفجرات داخل تلك المحفظة. مثل هذه الصورة المريعة تتكرّر كثيرا في لندن، وهي مؤشّر لوجود شيء ما، الأمر الذي توليه السلطات البريطانية جدية وتحتاط منه. مرة أخرى مساء أحد أيام الأسبوع الموالي، عدت إلى مدينة (فانسبوري بارك)، وقد دعاني أحد الجزائريين المقيمين بالمنطقة لتناول فنجاه قهوة، هذا الشخص تعرّفت عليه وهو من العاصمة وينشط في التجارة، كان الحديث بيننا في مقهى (لابرانساس La Princesse) "بدون تحفّظ" كلّمني عن صور مختلفة حول فئات من الجزائريين، فهناك مثلا فئة الناجحين في مغامراتهم وقد استقروا وسوّوا أوضاعهم القانونية، وهناك فئة (الحراڤة) أي الذين يعيشون متنكّرين بأسماء أوروبية، ولم يتمكّنوا من تسوية أوضاعهم. وضمن هذه الفئة توجد شريحة من الشباب الذين يعانون الضياع، وهو بالابتزاز لإدخالهم في الشبكات الإرهابية. سينغالي يتعاون مع الجماعات المسلحة وبينما نحن نتحدث وكان الظلام قد أسدل جناحه، دخل المقهى الصغير شخصان ملتحيان، واحد جزائري والآخر سينغالي كما عرّف نفسه للحاضرين، المقهى لا يقع بعيدا عن المسجد الذي كان قبل ساعات قد احتضن حلقة أشرف عليها المصري أبو الوليد، الذي جنّد رجاله لاستقدام الجزائريين إلى حلقته بعد أن أصبح يخشاها الكثيرون ممّن انخدعوا. "الداعية" السينغالي تحدّث بفرنسية غير سليمة عن التضامن في الإسلام، وراح يقدّم درسا في الموعظة. وإن كان الحاضرون حوالي عشرة جزائريين أبدوا نفورا من هذا الموقف، فلا أحد استطاع أن يطلب من "الداعية" الخروج، ولا حتى صاحب المقهى فعل ذلك. قال لي مرافقي: "..إنّها أول مرة تحدث في هذا المقهى، وتأكّد أن لا أحد من هؤلاء يصدّق هذا الدجال، وإن تظاهروا بالاستماع..ما يهمّنا نحن هنا هو البحث عن المال والتجارة". وأضاف: "يجب أن تعلم أن الكثير من الناس كوّنوا أموالا طائلة بهذه الطريقة (يقصد السينغالي ودليله الجزائري)، وخدعوا المسلمين بأساليب وخطب، وكيف يمكن أن يصدّقهم إنسان..لقد سقطت الأقنعة..". حرب البيانات وتغذية المغالطات عناصر الجماعات الإرهابية المسلحة تخسر كل يوم مساحة، فالناس هنا أصبحوا ينفرون منهم، إلى درجة أن رؤوس هذه الشبكات تتولّى بنفسها توزيع المناشير وجمع المال. وغالبا ما تحدث بينهم صراعات ومشادات تعكسها مقالات تصدر في هذه المناشير التي توزّع مرة في الأسبوع. وقد حدثت مؤخرا حرب بيانات شديدة بين نشرية "السبيل" التي تشرف عليها عناصر الجماعات المقيمة في ألمانيا بقيادة (رابح كبير) وتوزع في لندن من جهة، ونشرية "صوت الجبهة" التي تشرف عليها جماعة (قمر الدين خربان)، والتي تتهم "السبيل" بأنها مؤيّدة للدولة. تدّعي النشريتان اللّتان تحملان شعارات الحزب المحل أنّهما تصدران بإسم الجالية الجزائرية ببريطانيا، وقد دخلتا في هذه الحرب منذ شهور بعد أن قام (قمر الدين خربان) بتجنيد جماعة من الحزب المحل، وهم (ربيكة مصطفى كمال رملي نذير صمود محرز) ضد جماعة (رابح كبير)، وضد جماعة الفيدرالية الجزائرية للأخوة التي يوجد مقرها بفرنسا. دخل (قمر الدين خربان) إلى لندن بوثائق هوية مزوّرة، قادما من بوركينا فاسو التي طردته إليها السلطات الفرنسية رفقة (جعفر الهواري)، وقد عبر الإثنان بجوازي سفر إيطاليين عن طريق روما. بدأت نشرية (صوت الجبهة) في الصدور منذ أوائل سنة 1997 برئاسة قمر الدين خربان، الذي يواصل إعلان معارضته للجناح المؤيّد للحوار والسلم، وأعلن الحرب على رابح كبير، ومعارضته كذلك لمدني مزراڤ، كما يواصل عناصر جماعته في الدعوة إلى الإرهاب وتبني الجرائم صراحة وسط محيط إعلامي متواطئ يغذي المغالطات والتشكيك. وتلتقي أعمال هذا الجناح تماما مع الإيديولوجية التي تقوم عليها مجموعة الباقون على العهد والجماعات الإسلامية المسلحة (الجيا). ومن جهته، يتولّى (رملي نذير) المشارك في نشرية "صوت الجبهة" قيادة مجموعة أخرى تصدر نشرية بالإنجليزية تسمى (Englishten ment edification)، وكانت في الماضي تصدر نشرية (التبصيرة) من طرف المجموعة التي كانت تصنع القنابل والمتفجرات بفرنسا، وكذلك نشرية (الأنصار) من طرف (الجيا). وقد توقفت هاتان النشريتان عن الصدور، واحتوى خربان عناصر (الأنصار) فأدخلهم في "صوت الجبهة"، ويشرف على هذه النشرية المتطرّفة التي تدعو صراحة إلى الإجرام ثمانية أشخاص، هم قمر الدين خربان عضو مؤسس الحزب المحل، صمود محرز، رملي نذير، ربيكة مصطفى كمال، بونوة بوجمعة المدعو عبد اللّه أنس الذي مرّ على باكستان، دبازي بن يوسف، مسعي عبد اللّه، سكوم محمد. ويخصّص هؤلاء حصصا مالية من الأموال التي يجمعونها في المساجد لتمويل النشرية.