من ربيع العرب إلى الخريف الأمريكي، الذي بدأ في أوروبا وانتقل إلى نيويوركبالولاياتالمتحدةالأمريكية، ليعبّر في أحد أهم صوره عن رغبة شعوب العالم في تغيير نظام عالمي إقتصادي مجحف، يزيد من غنا الأثرياء على حساب الفقراء، كانت البداية بالسياسة التي تبناها صندوق النقد الدولي في معالجة أزمة البلدان الفقيرة في ظل إصلاحات التغيير الهيكلي، وأدت إلى تحويلها من النظام الاشتراكي إلى النظام الرأسمالي المتوحش. ولكن في واقع الأمر، فإن أزمة أغلب هذه البلدان لم تحلّ، وإنما إزدادت تدهورا وتفاقما، بفعل بروز طبقة خفيّة متسلقة من الأثرياء الجدد المرتبطة مباشرة بالسلطة، إستولت على مقدرات هذه الدول على حساب إحتياجات الطبقات المحرومة. واليوم، تنتقل هذه الأزمة، بعد إنقشاع فقاعة الرهن العقاري، إلى الولاياتالمتحدة ذاتها، ومن قبلها بدأت إقتصاديات بعض الدول الأوروبية في الترنّح، إذ في النتيجة النهائية، أن أغنياءها يزدادون ثراءً، على حساب فقرائها الذين توسعت دائرتهم، وإن كان ذلك لأسباب أخرى مختلفة. ولعل ذلك ما أدى إلى بروز حركة »إحتلوا وول استريت«، التي إنطلقت من «نيويورك» إلى مدن أمريكية أخرى بما فيها العاصمة الأمريكيةواشنطن. لقد كانت الخصخصة، العنوان البارز في الحلّ الذي طرحه صندوق النقد الدولي، بدعم من البنك العالمي لمواجهة أزمة دول العالم الثالث السائرة في طريق ما سمي بالنمو، وأدى هذا التوجيه، إلى كوارث حقيقية. أهم سماتها، إنتشار الفساد ونهب المال العام وشراء الأملاك العمومية بالدينار أو الدولار الرمزي، وتسريح ملايين العمال. وانعكس كل ذلك، على الطبقة المتوسطة بتلاشيها من المجتمع، وهي المحور الأساسي لأية تنمية، مقابل ظهور طبقة جديدة من الأثرياء محدودي العدد، المرتبطة بالسلطة، إن لم تكن نابعة منها أصلا، جعلت الدول والشعوب في خدمتها. وكان ذلك من الأسباب الأساسية الدافعة لروح التغيير في العالم العربي. ولعل ذات المشكلة، أصبحت تعيشها البلدان الغربية المتقدمة بقيادة الولاياتالمتحدة ذاتها، بفعل زيادة ثراء طبقة الأثرياء وانحصار رفاهية الطبقة المتوسطة، ناهيك عن توسّع معدل البطالة وحجم طبقة الفقراء، وزيادة ديون الحكومات الأمريكية، المقدرة ب 140 مليار دولار. وأصبحت بذلك في وضع لا يختلف عن وضعية بعض بلدان العالم الثالث، التي ترزح تحت وطأة الديون الثقيلة. علما بأن مشكلة ثقل المديونية هذه، لا تقتصر في البلدان الغربية على الولاياتالمتحدة، بل تشمل العديد من الدول، مثل اليونان وإسبانيا وفرنسا ذاتها، بحيث أن معدل المديونية أصبح يتجاوز حجم الإنتاج فيها، مما يجعلها مهددة بإعلان إفلاسها. لقد دق ناقوس الخطر بالولاياتالمتحدةالأمريكية، مع بوادر الأزمة المتعلقة بقضايا الرهن العقاري. وما تبعه من كشف فساد وإفلاس البنوك، وبرغم ضخ الحكومة الأمريكية لأموال ضخمة من احتياطاتها النقدية الفيدرالية إلى البنوك وبعض المؤسسات الصناعية المهددة بالإفلاس، فإنها لم تنجح في تخطي تداعياتها، وأصبحت أزمة المجتمع ككل، لاسيما بعد ما تأكد أن الأغنياء كانوا المستفيدين الرئيسيين من الإجراءات الحكومية المسكنة. وإذا كان العالم يعيش اليوم في قرية مترامية الأطراف بفعل ثورة تكنولوجيا المعلومات والأنترنت، فمن السهل أن تنتقل رياح التغيير فيه، وتنتقل حسب مستوى تطور الشعوب. فهي في الشرق تحمل مطالب بالتغيير السياسي، وفي الغرب يرفع سقف المطالب إلى التغيير الإقتصادي. وفي كلتا الحالتين إتخذت الاحتجاجات طابعا سلميا لها. غير أن مواجهة السلطات كانت مختلفة جذريا، فهي في الشرق دموية وفي الغرب لم تتجاوز إعتقال المئات من الأمريكيين. ومثلما حمل الشباب شعلة التغيير في الربيع العربي، فإن الطلبة في أمريكا شكلوا العنصر الأساسي في حركة «احتلوا وول استريت». ومقابل مطالب الشباب العربي السياسية، فإن شباب أمريكا طالبوا بإصلاح إقتصادي جذري. أما من يكسب رهان التغيير أولا سواء كان سياسيا أو إقتصاديا فهو رهين بمدى الصمود في الميدان وحكمة القادة بالبلدان المعنية برياح التغيير.