المرض العالمي وباء يخترق مساحات الأرض ويختلط مع غلافها الجوي ويظهر بأعراضه الاقتصادية التي لا تعالج بنظريات فكرية أو قوانين علمية فهو الداء الذي لا دواء له أصاب الإنسان في عمق كيانه العقلي وانتعش في عالم لا يسوده منطق العدل. مرض لا يشخص في مختبرات طبية ولا يحلل بمنطق المعادلات الكيميائية فجرثومته الوبائية لا تتحلل إلى جزيئات تكشف عن تعقيدات حركتها الذرية، ولا يملك المصاب به حق الاستلقاء على أسرة الشفاء فهو المريض غير المضمون اجتماعيا وعلته حالة استعصى علاجها دواءها ليس أكثر من قيمة أخلاقية مفقودة.. هي ببساطة "العدالة" الغائبة في حلبات صراع عالمي غير متكافئ. ذلك هو مرض "الاقتصاد السياسي" الوباء المنتشر في قارات العالم السبع يأكل الفقراء ويشل الأغنياء، ويحاصر بكآبته المقلقة الساسة ويقيد المقتصدين ويمد بأوقات الحالمين برخاء منتظر. فالنظام العالمي.. الذي يدير عجلة الاقتصاد الكونية الآن يطبق بآليات منتظمة نظام استغلالي، تركزت فيه قوة الاقتصاد وفاعلية السياسية بيد القوى الكبرى التي وضعت قواعد التجارة الدولية والنظام النقدي وحركة المال تحت تصرفها لضمان مصالحها الاستراتيجية الكبرى على حساب الدول النامية ..الواقعة ضمنا تحت سيطرة "الاستعمار الجديد" والغارقة في هموم الفقر والبطالة وانعدام قدرة الاعتماد على الذات، هو الشكل العنصري.. في نظام اقتصادي غير متوازن, تمييز عنصري على مستوى عالمي هو الأشبه بصورة مصغرة لما شهدته "جنوب إفريقيا" حيث يحقق المستوطنون البيض تقدمهم في مسيرة الرخاء وتزداد ثرواتهم من خلال استغلالهم للافريقيين السود الأحياء تحت حافة الفقر.. فكل القوانين والسياسات التي كانت سائدة في نظام الميز العنصري كان من شأنها أن تجعل من المستوطنين البيض الأكثر غنى ومن الافريقيين السود الأكثر فقرا.. أليس هذا ما يحدث في ظل النظام العالمي الجديد؟! الأرقام تنطق وهي تفصح عن الحقيقة التي لا تغيب عنها الشمس فالدول المتقدمة التي يعيش فيها 30 بالمائة من سكان العالم تملك 2,85 بالمائة من الدخل العالمي.. بينما الدول النامية التي يعيش فيها أكثر من 69 بالمائة من سكان العالم تملك حوالي 14 بالمائة من هذا الدخل.. ألا يشبه هذا ما كان يحدث في نظام جنوب إفريقيا العنصري؟! حيث البيض شكلوا 19 بالمائة من السكان ملكوا حوالي 57 بالمائة من الدخل القومي لجنوب إفريقيا و40 بالمائة من السكان يملكون 5,83 بالمائة بينما يملك 40 بالمائة وهم الأكثر فقرا 2,6 بالمائة من هذا الدخل، و30 بالمائة من سكان العالم وهم الأشد فقرا يملكون 3 بالمائة فقط من دخل العالم!! لقد كان دخل الفرد في البلاد النامية غير المصدرة للنفط عام 1970 يساوي ? من دخل الفرد في الدول المتقدمة.. وإذ تستمر العلاقات المتدنية بين البنية الاقتصادية والقانونية تتحكم في معدلات النمو الاقتصادي العالمي فإن نسبة الدخل هذه تستمر في التدهور لتصل إلى 8,1 في الألفية الثالثة من القرن الميلادي. يظل النظام الاقتصادي العالمي متسببا في انعدام التكافؤ بين الدول المتقدمة والدول النامية .. وتبرز مظاهر انعدام التكافؤ في: أولا: الرسوم الجمركية ثانيا: القيود على السلع والمواد المصدرة من الدول النامية ثالثا: سيطرة الشركات متعددة الجنسيات رابعا: شروط الاستثمارات الخارجية خامسا: توزيع الجزء من السيولة النقدية العالمية الجديدة وإعادة تحديد قيمنها بالذهب. سادسا: التبادل غير العادل وسعيا وراء ردم بعض الفجوة الفاصلة بين الدول المتقدمة و الدول النامية التي تلحق به الأضرار من خلال انخرام التوازن المطلوب حرص النظام العالمي الجديد على إعادة بناء المؤسسات المالية الدولية من أجل إعطاء الدول النامية قوة فيها الفاعلية في اتخاذ القرارات الاقتصادية و تعزيز قوة التصويت الخاصة بها في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى جانب التشجيع على تمويل التنمية الإضافية للدول النامية. وما يسمى الآن بأنظمة "التجارة الحرة" هي بالحقيقة أنظمة لصالح القوى المتنفذة في العالم على حساب الضعفاء الذين يعانون من لامبالاة الأخر, فالتبادل التجاري القائم غير متكاف وينشأ عنه قوة غير متكافئة، في ظل الاحتكار في الترتيبات المالية الدولية. فالدول المتقدمة وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا تأخذ موقفا سلبيا ضد معظم الصياغات والمواقف المتعلقة ب "منظمة التجارة الدولية" حتى بات واضحا أنها لن تستلم أمام أية ضغوط من جانب الدول النامية من أجل تعامل اقتصادي أفضل حتى لو كان في الأمر تطبيقا لمبدأ العدالة المنشودة. ويظل النظام العالمي الجديد عاجزا عن تقديم أية ضمانات مستقبلية لأحد بما يدعو الدول النامية استخدام المتوفر من طاقاتها لتوفير الاحتياجات الأساسية للفقراء.. وترتيب أمورها الداخلية في بناء اقتصادها المحدود وحل مشاكل المشاركة والتعاون في توزيع الدخل. لم يغفل النظام العالمي ضمان مصالح الطبقات المتميزة في الدول النامية أو ما يسمى ب "الفئة المتعاونة مع القوى الخارجية" والتي ليس لها ذلك الاهتمام الكبير بالتنمية الاقتصادية للفلاحين والعمال. الإعتماد على الذات وكانت للمفكر الاقتصادي "وارتر لويس" دعوة مفصلة للقوى النامية أكد فيها أن الدول الأقل تقدما تملك في داخلها كل ما يتطلبه النمو ولا يعتمد على المدى الطويل على وجود الدول المتقدمة كما أن إمكانية نمو هذه البلدان يجب أن لا يتأثر حتى ولو غرقت جميع البلدان المتقدمة في البحر, وإذا كانت أية دولة نامية تعاني من عجز في ميزانها التجاري مع باقي دول العالم فيجب عليها أن تخفض من وارداتها وطالما يظل الاحتمال قائما في معاناة الأنظمة الحاكمة في البلدان النامية من نتائج السياسة العالمية ومن استيراد البضائع الاستهلاكية التي تستخدم للرفاهية فينبغي التوقف عن استيراد هذه البضائع بصورة قاطعة. فإذا ما استمرت الدول النامية في استهلاك ما يفوق إنتاجها ستزداد ديونها الخارجية وسيكون من الصعب على هذه الدول الهرب من شرك الدين.. ويبقى التعاون والتكافل الاقتصادي فيما بين الدول النامية هو الهدف الذي يحقق نوعا من الاعتماد على الذات الجماعية التي تلتقي بخصوصية المشاكل والنواقص والتحديات.. فزيادة التعاون لخلق قوة توازي القوة الاقتصادية المتفوقة للدول المتقدمة يمكن أن يزيد من مقدرتها على التنافس أو المساومة في ميدان التبادل التجاري. سياسات غير متكافئة استمرار الدول النامية في الإبقاء على سياسة "ذات وجهين" في تعاملاتها السياسية والاقتصادية مع الدول المتقدمة تعني القبول بموقع التابع الملتزم بسياسة تبعية كما تعني القبول بالوضع غير المتكاف مع هذه الدول.. والمعروف أن معظم الدول النامية أعجز من أن تحرر ذاتها من سيطرة القوى الكبرى. التنمية الخاصة سياسات التنمية الخاصة بالاعتماد على ما تملكه الدول النامية من متطلبات النمو وتعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي فيما بينها على أساس قاعدة من التنسيق قد يحقق هدف الحد من تبعيتها التقليدية للدول المتقدمة وبما يصعد من قدرتها في مجابهة أية ضغوط اقتصادية وسياسية.. ويجعلها عبر الموقف الجماعي المتكامل في نقل التكنولوجيا والتحكم بها تعزز وضعها الاقتصادي بأضعاف قوة السوق الاحتكارية المتحكمة بنظم المال والتحويل.. والخروج من مخاطر أزمة الاقتصاد العالمي. تحولات عالمية لقد شهدت العقود الثلاثة السابقة تحولات عالمية جوهرية كان لها الأثر الكبير في بناء النظام العالمي الجديد كان أبرزها ضياع السيطرة المطلقة التي تمارسها الولاياتالمتحدةالأمريكية في العالم الرأسمالي فنموذج النمو الذي دفعت به أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفق النظام الذي طبقته قد عانى من أزمة منذ نهاية الستينات وبدأ بذلك مرحلة من التردّي صاحبتها في الوقت نفسه محاولات لإعادة تكوين رأس المال الأمر الذي أثر طبعا على النظام الأمريكي ثم امتد بعد ذلك إلى كامل أوروبا واليابان القطب الاقتصادي الكبير في آسيا. ولم تبق الولاياتالمتحدة مكتوفة الأيدي إزاء "الأزمة" فاتجهت نحو إعادة توازن شامل لاستراتيجيتها مع انطلاق عهد "رونالد ريغان" الذي رسم أهداف سياسته ب: 1 تجاوز الأزمة الاقتصادية بإعادة قيام السيطرة الأمريكية على أساس من مركزة رؤوس الأموال على الصعيد العالمي والاستثمارات الكبيرة من أجل رفع إنتاجية العمل والدفع بالصناعات المرتبطة ارتباطا كبيرا بالإنتاج الحربي والعسكري 2 إعادة بناء القوة العسكرية الأمريكية عن طريق استبدال النظام الاستراتيجي المطبق سابقا والذي اتسم بالتوازن بنظام استراتيجي جديد يتسم بالتفوق في جميع مجالات التطور العسكري وفي جميع مناطق وبقاع العالم. 3 إعادة تنظيم السيطرة الاستعمارية على مجموعة الدول المرتبطة بالاستعمار بحيث تكون العلاقة بين هذه الدول والاستعمار أكثر ثباتا وذلك بجعل الصراعات لصالح هذه الدول في المناطق الحساسة والحرجة مثل بط أمريكا والشرق الأوسط وإفريقيا. 4 إيقاف تصاعد الحركات الثورية والتحررية في مناطق العالم وعزلها عن المراكز الأكثر نشاطا (السلفادور، أنغولا، ناميبيا، منظمة التحرير الفلسطينية والعراق). انحطاط اقتصادي إن الانحطاط الاقتصادي كان واحدا من أهم الأعراض الأولى للتدهور الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي بدأت بالظهور في أواسط الستينات، واتضح أساس في السياسة التوسعية للحكومة والشركات الأمريكية وفرض السيطرة التي بدأت تتضح على الصعيد العالمي وفي المجال الاقتصادي تحديدا وفي فيض من الاستثمارات الأمريكية في العالم وخاصة في الدول الأوروبية، وكما اتضح في الارتفاع المفاج للنفقات العسكرية وقد تحقق ذلك عن طريق إصدار آلاف الملايين من الدولارات. ولقد أدت المنافسة بين الدول الاستعمارية وبين الشركات في مختلف الدول الصناعية إلى مجابهات خطيرة في مجالات النقد الدولي الأمر الذي أدى إل ضعف حقيقي للدولار، وتتركز مظاهر الانحطاط الاقتصادي العالمي في: 1 انكسار النظام النقدي الدولي 2 زيادة الفائض النقدي 3 هبوط معدل الاستثمار في الدول الوسطى 4 ارتفاع نسبة البطالة وظل العالم يواجه ركودا اقتصاديا كبيرا وخاصة في الدول الصناعية المتقدمة في أمريكا وأوروبا واليابان التي لم تتمكن من التغلب على الصعوبات الناتجة من عدم التوازن في الميزان التجاري وكذلك الدول النامية التي لم تتمكن من الاحتفاظ برؤية مطمئنة للمستقبل.. ويفقد العالم حيويته لقد تغير كل شيء، تغيرت القيم الموروثة إلى حد كبير ولم يكن هناك اتجاها واحدا متماسكا في المجتمع أو في الدولة إن كانت نامية أو متقدمة.. يقول الاقتصادي الياباني "د. كينيش ادوارد" من جامعة جوش اليابانية: إن مصطلح "المرض البريطاني" أصبح معروفا منذ عدة سنوات مضت والآن لدينا مصطلح "المرض الأمريكي" بالإضافة إلى مصطلح "المرض الأوروبي" وهو يتساءل: ما هو السبب الذي جعل الاقتصاد الغربي يواجه صعوبات؟ نفي بريطانيا.. أن تغيير الحكومات بين حزبي العمال والمحافظين يعتبر سببا أساسيا للركود الاقتصادي.. وسياسة التأميم للصناعات الأساسية بواسطة حكومات حزب العمال ثم إعادة ما تم تأميمه إلى أصحابه بواسطة حكومات حزب المحافظين.. وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية.. تتركز ظاهرة المرض الأمريكي في تدهور صناعة الصلب وصناعة السيارات التي تعتبر من أهم قطاعات الاقتصاد الأمريكي وتعاني الصناعتان من مشاكل كثيرة.. مثل انخفاض الإنتاج وبطء التطوير التقني والموقف المتشدد من جانب نقابات العمال بالإضافة إلى أن المستهلكين الأمريكيين ينفقون أكثر مما يكسبون وذلك باستخدامهم بطاقات التسليف من المصارف حتى وصل إلى الحد الأقصى.. مما نتج عن ذلك هبوط فوائد الادخار ثم هبوط مستوى الاستثمار الذي يؤدي بطبيعته إلى بطء التجديد في الجانب التقني. ويطلق الاقتصادي "ادولوف دودير وخوردان" صرخته من إسبانيا محذرا : "ليس باستطاعة أحد أن يتهمني بالتشاؤم عند التحدث عن خطورة الأزمة التي يعيشها العالم، إلا إذا لم يكن واعيا للواقع الذي يمر به عالم اليوم.. فالأزمة الجذرية التي نجد أنفسنا مجبرين على التعايش معها هي من الخطورة بحيث لم يسبق لها مثيل في التاريخ". هل نبكي على مستقبل العالم؟ أزمة أو تغيير.. عبارتان فقدتا كل الفوارق بينهما، فأصبحتا "كلمة واحدة" تردد حسب الأعراف السياسية أو الاقتصادية الجديدة.. إنها الحاجة إلى التغيير فالأزمة التي أخذت شكل مرض اقتصادي واجتاحت العالم أجمع امتدت بمخاطرها إلى الإنسان والتاريخ والأديان والعلوم وظلت سبا جوهريا لأمراض العقل والنفس.. وقد خنقت الأرض وأغلق الكون كل منافذ التنفس فيه.. إن الأزمة التي تنذر بخطر محدق تدعي من ينقلب على قوانين تماسكها ويجعلها مرضا قابلا للتشخيص والتحليل، ووضع العلاج اللازم له والاعتناد به كما الاعتناء بمرض "الإيدز" الذي تحاصره نواقيس الخطر العالمية. لكن المتنفذين في حقول الاقتصاد العالمي ومراكز القرار السياسي في العالم ومراكز القرار السياسي في العالم يتجاهلون ضرورة التشخيص والمعالجة، وهم يتبعون أسلوب التناقض في اعتماد الصواب شكلا والخطأ مضمونا يكرس الحالة المرضية.. في علاج مرض مستعص على عقول لا تعرف غير منطق الهيمنة والاحتكار! "المرض العالمي" حقيقة واقعة إذن.. يجتاح الإنسانية في مكامن عقلها ويرى الاقتصاديون أربعة حالات لمعالجتها في الخطأ والصواب.. الحالات هي: 1 أسلوب الترقيع والإصلاح المحدود 2 أسلوب اعتماد التوقعات والاحتمالات 3 أسلوبي التكاتف الجماعي العفوي 4 الأسلوب العلمي والحالة الرابعة .. هي أسلوب "التكنوقراط" الذي يجمع في دائرته "الفنيون والخبراء" الذين يتخذون الإجراء بعد الدراسة والتجربة والتحليل والأخذ بكل المتغيرات المؤثرة في الاقتصاد بنظر الاعتبار.. قبل صياغة القرار القابل للتطبيق.. ورغم ذلك فالفشل في الانتظار..! فليس الأولى.. نصب مآدب البكاء على عالم متهالك، وصل إلى حافة الهاوية ولا أمل في إنقاذه.. إذ مازال بالإمكان إعادة المراجعة الأشمل والأعمق لأسس العلاقات الإنسانية التي تحكم الأرض.. فالأفكار والمبادئ ونظريات العلوم أثبتت فشلها في علاج "المرض العالمي" الشكل المميز للنظام العالمي الجديد.. ووصفة بسيطة للعلاج.. على طريق إنقاذ الإنسانية هي: نظام عالمي أكثر عدلا .. لا غير.. يحرر العقل من مساوئه ويعيد للحلم الإنساني وهجه، فالعلة لم تكن عضوية، وعصابية هي ولو كان "سيجموند فرويد" حيا لاستخرج جرثومتها المترسبة في العقل الإنساني الباطن، وفتح بالقضاء عليها نافذ الكون الذي يتسع للبشرية جمعاء. ------------------------------------------------------------------------