تطورت الشعارات المرفوعة في الشارع على النحو الذي سبق أن أشرت له في أحاديث سابقة، وسيطر عليها شعار «يتنحّاوْ قع» (فليرحلوا جميعا) والذي أثار حماس الجميع، وازداد لهيبه فلم تعد القضية محصورة في الباءات الثلاثة (بن صالح – بلعيز – بدوي ) بفعل من كانوا يريدون الوصول إلى وضعية فراغ هيكلي شامل يشمل الحكومة والبرلمان بما يفرض على المؤسسة العسكرية التخلي عن فكرة إجراء انتخابات رئاسية، واعتماد مطالب التوجهات الفرانكولائكية والنزعة البربرية بتكوين مجلس دستوري يضع بين قوسين كل ما أنجزته الجزائر منذ 1962، وما عاشته من تجارب وما عاشته من نتائج، بل ويدين كل مرحلة الاستقلال التي عاشت فيها تلك التوجهات على هامش الإنجازات بدون أن يمنعها ذلك من العيش على حسابها، رافعة شعار «الدعم الناقد» (soutien critique) وتفشل المعارضة في فرض إرادتها، خصوصا وقد اتضح أن القضية كلها هي فرار من الانتخابات الرئاسية، حيث لم يبرز من بين صفوفها من يجمع عليه جل رفاقه، بالإضافة إلى ارتفاع أصوات منكرة تقول بوضوح إن عزل كل الباءات لن يغير من الأمر شيئا، وأن على المؤسسة العسكرية أن تعمل على تكوين هيئة رئاسية تتولى تسيير شؤون البلاد. راحت أصوات أخرى تقدم مفهوما للديموقراطية لم يسمع به أحد في العالم أجمع، مضمونه أن صندوق الاقتراع هو تمكين للأغلبية من سحق الأقلية، وذلك بدلا من مناداتها بنفس الضمانات التي تكفل حقوق الأقليات في العالم كله، ومن هنا أصبح واضحا أن هناك من يريد استنساخ تجربة التسعينيات المأساوية، حيث تسلطت أقلية إيديولوجية بدعم من المخابرات الفرنسية على رقاب الأغلبية الشعبية، وهو ما كان طريقا نحو مجازر التسعينيات البشرية والاقتصادية والاجتماعية. كان تحقيق ذلك اليوم يعني بكل بساطة الخروج، لا عن نص الدستور فحسب، بل عن أي قراءة سياسية تأويلية لتلك النصوص، وهو ما رفضت المؤسسة العسكرية قبوله لأنها تعرف تكلفته، وهنا تم تكوين حشود راحت تتهم رئيس الأركان بالخيانة، وتدعو القوات المسلحة صراحة للانقلاب على قيادتها. بدأت الجموع عبر ولايات الوطن تحس بأن هناك من يحاول أكل الشوك بفمها، فبدأت في التنصل تدريجيا من المساهمة الفاعلة في التظاهرات، التي بدأت تتركز في شوارع وميادين معينة في العاصمة على وجه الخصوص، يتجمع فيها كل جمعة منذ الصباح الباكر عناصر مكلفة بمهمة تأطير الجموع وتلقينها هتافات معينة، وذلك تزامنا مع إعداد لافتات ورايات تغرق سماء الحشود لتعطي الشعور بسيادة توجهات معينة، حتى ولو لم تكن تعكس بالضرورة إرادة الجماهير، وبحيث كاد يتعرض للإيذاء كل من حاول مناقشة بعض المتظاهرين في موضوعية هتافاته، وهو ما حدث مع السفير مصطفى بو طورة وآخرين. بينما هجر كثيرون من مواطني العاصمة الاشتراك في التظاهرات، عُرِف أن جموعا تنقل إليها من ولايات مجاورة لخلق تضخم مفتعل في حجم التظاهرات ولخلق الشعور، عبر هتافات معينة، بأن هذه هي إرادة الشعب الجزائري. عندما لوحظ أن هناك من بين من يتم استحضارهم من حاولوا استفزاز قوات الأمن صدرت أوامر بمنع دخول طوابير الحافلات المكتظة إلى العاصمة، يوم الجمعة، ويوم الجمعة وحده، وهنا قامت القيامة، وراح من كان ينددون بالدستور وبنصوصه السيئة والعاجزة ينادون بتطبيق المادة 55 منه، التي تنص على حرية المواطن في التحرك حيث يريد، ومتناسين ادعاءاتهم بأن الجزائر تعيش وضعية استثنائية تتطلب مواقف استثنائية. تأكد وجود إرادة الاستفزاز عند بعض المتظاهرين المُجنّدين، وهو استفزاز لم يستهدف رجال الأمن وحدهم وإنما بقية المتظاهرين الذين رفضوا ترديد هتافات لها طابعها الخاص أو السير تحت رايات لا تمثل الإجماع الوطني. راية وطنية واحدة بعد دعوات هادئة وضمنية تحض على الالتزام بالخط الوطني اضطر رئيس أركان القوات المسلحة إلى توجيه تحذير حاد لكل من يخرج عن إرادة الوحدة الوطنية برفع شعارات لا علاقة لها بالوحدة الوطنية. برغم من أن قايد صالح لم يُحدد الراية المعنية فلم يكن سرّا أن المقصود هو راية الصهيوني «جاك بينيت» التي يروج لها أنصار النزعة البربرية، والراية التي تحمل الشهادة، والتي تصور كثيرون أنها راية «داعش»، وكذلك أي راية أخرى يمكن أن تعني توجها جهويا أو عقائديا. هنا ارتفعت صرخات السخط تهاجم الفريق وتتهمه بالخيانة، ولم يُنكر ذلك بكل أسف رفقاء كان المتوقع منهم، بحكم الثقافة والوعي، دعوة الجماهير للاكتفاء بالراية الوطنية، ومنهم من تصرف بما يوحي أنه ينفذ عملية توزيع للأدوار، ليست أقل سوءا ممن أعدوا أعلام الفرقة ورايات الفتنة. خلال هذه المرحلة دعا رئيس الدولة لحوار عام للخروج من وضعية الأزمة، وأعطى الجميع ظهورهم لهذه الدعوة التي أعترفُ بأنها لم تكن موفقة، وتوقفت لقاءات المعارضة التي بدأت تأخذ وضعية مضحكة، وحاول الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي التقدم بمبادرة لكن منطلقها في رسالته الأولى لم يكن موفقا، وعاود الكرة ولكنه، في نظري، ارتكب خطأ جوهريا بتجاهله التام لمنطق الدولة القائمة، والتي تلتزم حرفيا بنصوص الدستور. كما كان متوقعا، فشل موعد 4 يوليو في تحقيق إقامة الانتخابات الرئاسية، وواصل بن صالح رئاسته للدولة طبقا للقراءة السياسية لنص الدستور، برغم الأصوات التي ارتفعت بعدم شرعية ذلك، لكنها خفتت لأنها لم تستطع تقديم البديل الذي يضمن الاستقرار في انتظار اختيار الرئيس الجديد. يتم تحرك حَمل اسم المنتدى الوطني للحوار، قاطعته التوجهات الفرانكولائكية والتجمعات البربرية (التي أصبحت ترفع علم بينيت جهارا نهارا لتحدي المطالبات بالتزام الراية الوطنية) والتي حملت اسم «البديل الديموقراطي» من منطلق أن الغرب متعاطف جدا مع كلمة «الديموقراطية»، وستلقى منه كل الدعم والمؤازرة، وهو ما اتضح بجلاء من موقف وسائل الإعلام الفرنسية والمفرنسة. يفشل المنتدى، الذي قيل أن سلطات في الدولة سهّلت انعقاده، والذي قامت بعض القيادات الإسلامية فيه وله بدور «المحلل». أجمع كل هؤلاء، ومن بينهم من لا يستطيع ضمان أصوات أسرته أو عناصر حيّه في أي انتخابات، على إقصاء ما يطلق عليه «أحزاب الموالاة»، والمقصود الرئيسي بذلك هو حزب جبهة التحرير الوطني، والذي يشكل، برغم سوء قياداته، الحجم الأكبر من الناخبين، وذلك بحجة أنه كان يروج للرئيس المستقيل، وهو أمر صحيح بالنسبة لقيادات المرحلة الذين اختارهم بو تفليقة ولكنه لا ينطبق على كل من ارتبط بجبهة التحرير طوال أكثر من نصف قرن. بدا واضحا فشل التيارات الدينية في اكتساب أي مصداقية في ممارسة العمل السياسي، حيث تزامنت الحماقة مع إقصاء شخصيات ذات مستوىً واعٍ مثل عبد القادر بو خمخم، وإعطاء الفرصة لأشخاص كانوا كغثاء السيل. يبرز إعلاميا تكوين حمل اسم المنتدى الوطني للتغيير، لم يكن سمع به أحد حتى اليوم، يدّعي أنه يضم أكثر من سبعين جمعية من عناصر المجتمع المدني، وينفي أي صلة له بسلطات الدولة، يقترح قائمة للقيام بدور حوار وطني تضم 13 اسما، كان من بينها أسماء لم يُستشر أصحابها في الأمر، وكان واضحا أن ذكرها كان محاولة لانتحال مصداقية وطنية للقائمة، وكان من تلك الأسماء الدكتور طالب ومولود حمروش، وكان من الأسماء من لا وجود لهم إطلاقا على ساحة الفعاليات السياسية. فجأة تطفو على السطح قائمة ستة أسماء، يقودها «كريم يونس»، رئيس المجلس الوطني السابق الذي تضامن مع علي بن فليس ضد بو تفليقة في الانتخابات الرئاسية عام 2004 وخسر بذلك موقعه البرلماني، وتردد اسمه مؤخرا بنوع من الاستياء عندما أدلى بتصريح، لم يكن له مبرر في التوقيت أو التوجه، مضمونه أن المرأة الجزائرية مؤهلة لرئاسة الجمهورية. على الفور فوجئ الجميع باستقبال رئيس الدولة للمجموعة السداسية (وللتذكير، فقد ارتبط قيام ثورة نوفمبر بستة أسماء تاريخية) ويخرج رئيس المجموعة بتصريح متلفز كان فيه بعيدا عن التوفيق والإقناع، وبدا للمراقب البسيط أن التصريح يستجدي مباركة الشارع، وهو يكرر أن المجموعة طرحت على رئيس الدولة مطالبات بإطلاق سراح سجناء الحراك (وبدون إضافة تعبير ...ممن لم يثبت استفزازهم للأمن) وبإلغاء الأوامر بحظر تنقل المتظاهرين من ولايات الجوار (وواضح أن هذا استجداء لتأييد توجهات من يُسمّى البديل الديموقراطي). تصريحات خانها التوفيق تعددت التصريحات، وكان منها تصريح لخبيرٍ اقتصادي كرر نفس المطالبات وبأسلوب بعيد عن المطلوب في التعامل مع رئاسة الدولة (قال، لم أذهب لرؤية الرئيس أو لمبنى الرئاسة). كان من أخطر التصريحات ما جاء على لسان كريم يونس، الذي بدأ بإشارة ضمنية إلى انتمائه لمنطقة القبائل، كانت خارج السياق وإن فُهمت مراميها، ثم بضرورة العمل على إنشاء جمهورية جديدة وضمان كذا وكذا من المطالب الجماهيرية، وهو أمر خارج عن صلاحيات لجنة تقول أن مهمتها هي تنسيق العمل لإقامة حوار بين كل الأطراف الفاعلين، والمفهوم أن المهمة هو العمل لتنظيم الانتخابات الرئاسية. في اليوم التالي، والذي كان الجمعة 23 من جمعات الحراك، يتعرض أحدُ الستة والخبير الاقتصادي «لالماس» لغضب مجموعات من المتظاهرين المتشنجين في وسط العاصمة الجزائرية، لم ينجح في إقناعهم بمنطقية تعامل اللجنة مع الأحداث، وكان واضحا أن المتظاهرين كانوا جزءا من المجموعات المكلفة بمواصلة الصخب والضجيج. يصبح اسم اللجنة هو «الهيئة الوطنية للوساطة وللحوار» وتضاف أسماء جديدة للقائمة المقترحة، وكان من الأسماء المقترحة من كانت مواقفهم في الأسابيع السابقة مثار استنكار لكل من يؤمنون بالديموقراطية ويرفضون التوجهات العنصرية والاختيارات الانتقائية والتناقض مع دستور البلاد. أثارت بعض الأسماء الُمضافة سخرية البعض بينما أثار اختفاء أسماء أخرى، لها أهميتها الوطنية والفكرية، سخريةً أكثر صخبا. بدا الأمر في النهاية كمحاولة جديدة من التوجهات اللائكية وأنصار النزعة البربرية وخصوم حركية الإنجاز الوطني لمرحلة الاستقلال وأعداء الانتماء العربي الإسلامي للجزائر، للارتزاق من الحراك الشعبي الذي فترت حرارته لأن الجماهير أدركت بأن هناك من يحاول سرقة انتصارها الذي اهتز له العالم. لن أتحدث عن الدور الفرنسي، فأنا لا أملك أدلة على تغلغله باستثناء الإحساس الشخصي الذي لا يكفي عند التحليل السياسي. لكن الغريب، ونتيجة للتقصير الإعلامي الجزائري، هو تحمس خصوم الثورة المضادة في الوطن العربي لأنصار الثورة المضادة في الجزائر، لمجرد أن هؤلاء يُعادون المؤسسة العسكرية، وأولئك لا يدركون بأن هذه المؤسسة في الجزائر هي الضمان الحقيقي للديموقرطية والرافض لمنطق الانقلاب العسكري وللتناقض مع الانتماء الحضاري لبلد الشهداء. يبقى أنه، وخلال هذه المرحلة، يتواصل العمل الحكومي بشكل منتظم، وتُعطي العناية الإلهية لرئيس الدولة فرصتين، مكنته من ترسيخ الشعور بأن الدولة الجزائرية قائمة بكل مكوناتها، لأنها دولة احترمت دستورها والقوانين التي تسيّر شؤونها. كانت الفرصة الأولى دورة الكرة الإفريقية ودور السلطات الجزائرية في تمثيل الجزائر ورعاية أبنائها، بما في ذلك حضور رئيس الدولة شخصيا، رغم مرضه، المباراة النهائية التي غاب عنها الرئيس المصري. كانت الفرصة الثانية هي مشاركة رئيس الدولة في تشييع جنازة رئيس الجمهورية التونسي، حيث أحس الجميع هنا بالامتنان للفتة الأشقاء هناك في إعطاء كلمة التأبين الأولى للرئيس الجزائري. من الأكثر ذكاء؟ يأتي هنا عنصر تركته عامدا للنهاية. فكثيرون يظنون، وبعد الظن فقط هو الإثم، أن كل ما يحدث على الساحة من تحركات سياسية، هو مخطط بالغ الذكاء أرادت به السلطات الحاكمة فضح هزال الطبقة السياسية على اختلاف توجهاتها، معارضة وموالاة، وتأكيد ضعف المجتمع المدني، بكل مكوناته، وإثبات ما يردده كثيرون من أن نظام الرئيس بو تفليقة، والذي كان مدعوما من أجهزة أمنية ومافيا مالية سياسية، نجح في تصحير الجزائر وإضعاف شخصياتها الوطنية، خصوصا تلك التي كانت انسحبت في بداية عهدة الرئيس المستقيل، وبأن أي محاولة للخروج عن العنصر الوحيد الذي يضمن النجاة الآمنة من الفوضى الحالية هو التمسك بالدستور، وبكل نصوصه. والقصة لم تتم فصولا. الحلقة الثانية والأخيرة