حكمت فرنساالجزائر قرنا وثلث قرن ثم حاولت التحكم فيها سياسيا وعسكريا نحو سبع سنوات كانت مرحلة شارل دوغول أشدها شراسة، ثم انسحبت تاركة وراءها حصان طروادة وجموعا من الطلقاء، لكنها لم تنجح أبدا في فهم الشعب الجزائري، ولم يتوقف أحد للتساؤل عن السبب الذي جعل هذا البلد سرّا مغلقا حتى لبعض من ينتسبون له بشهادة الميلاد أو بشهادة الجنسية أو بالعيش فيه سنوات وسنوات، وهو اليوم حال بعض من يتصدرون الساحة الإعلامية، بدون رصيد حقيقي من النضال الوطني بمفهومه الشامل، ويبدون كجراح لا يعرف أصول التشريح. فقد اشتعل الشارع الجزائري في فبراير الماضي بشكل لم يسبق له مثيل، لا في الجزائر ولا في غيرها، وكان من العبث أن ينكر الباحث الجادّ أن هناك من كان يعمل خلال السنوات الماضية لإعداد تحرك شعبي يستفيد من تجربة أكتوبر 1988 ويتلافى أخطاءها. لن يكون انتقاصا من روعة الحراك الشعبي قبول فكرة عود الثقاب الذي يقوم بدور مستصغر الشرر، لكن أي مصدر للنار لا يمكن أن يُشعل أوراقها ما لم تكن الأرض مهيئة لذلك، وهو ما حدث فعلا، فقد تصاعد الغضب الشعبي إلى حدوده القصوى نتيجة للوضعية السياسية التي كانت تعيشها البلاد منذ الإصابة المرضية الحادة للرئيس عبد العزيز بو تفليقة، وبلغ السيل الزُبى بحماقة الإعلان عن تقدم الرئيس لعهدة خامسة، وراحت جوقة النفاق تمارس التضليل الغبيّ فتستعمل صورا ضخمة للرئيس المحتجب ترفعها في اللقاءات الجماهيرية كنائب الفاعل. أصبحت الجزائر كلها غابة مبللة بالسوائل سريعة الالتهاب، ووجدت الشرارات الأولى طريقه للجذوع والأغصان، وراحت الجماهير تهتف ضد العهدة الخامسة، مطمئنة إلى ما لاحظه الجميع من عدم تعرض الأمن بأي شكل من الأشكال للتظاهرات، وهو ما شجع الذين كانوا متخوفين في البداية من ردود فعل قمعية كتلك التي عرفتها الجزائر في الثمانينيات. بينما تقوقعت أحزاب الموالاة بدافع عقدة النقص التي أصيبت بها من جراء الدعوات الحمقاء للعهدة الخامسة تصورت عناصر المعارضة أن الفرصة أصبحت سانحة لانتزاع المواقع القيادية التي حرمت منها، لكن الجماهير طردتها من كل التجمعات، فراحت تحاول الالتفاف حول الحراك برفع شعاراته ومطالبة المؤسسة العسكرية بالتدخل لإجبار الرئيس على التنحي عبر تطبيق المادة 102 من الدستور، وأضافت إلى هذا المطلب إنشاء هيئة رئاسية تقود البلاد على غرار ما حدث في 1992. كانت المؤسسة العسكرية، وبناء على ما توفر لديها من معلومات أمنية، متحفظة في البداية إلى درجة استعمال تعبيرات من نوع «المغرر بهم» في التحذير من مغبة الانزلاق، لكن الدراسة الدقيقة لما حدث أكدت بأن الأمور أفلتت من يد من كانوا يتصورون أنهم قادرون على التحكم في حجم النيران واتجاهها، وهكذا ارتبطت المؤسسة بالحراك الشعبي وتعهدت بحمايته من كل التجاوزات المحتملة، سواء من أجهزة الأمن أو من داخل الحراك نفسه. يستقيل رئيس الجمهورية لكنه يرتكب خطيئة ترك البلاد فريسة لقنابل موقوتة، حيث أقال الحكومة قبل الاستقالة، لكنه، وهو المؤهل الوحيد لتشكيل الحكومة الجديدة، لم يقم باختيار شخصيات يمكن أن تحقق أكبر توافق ممكن، وهو ما كنتُ ناديت به شخصيا، ولم تكن الحكومة الجديدة برئاسة نور الدين بدوي مؤهلة لتحقيق الانتقال السلس للسلطة، خصوصا وأن رئيس المجلس الدستوري كان قد استقطب حجما كبيرا من العداء لأنه أعلن ولاءه للرئيس، وبالإضافة إلى أن المؤهل لرئاسة الدولة في وضعية الشغور، عبد القادر بن صالح، ليس ممن يمكن أن يتفق المجموع الوطني، عدلا أو ظلما، على الترحيب به. فعلت القنابل الموقوتة فعلتها تطورت الشعارات المرفوعة في الشارع على النحو الذي سبق أن أشرت له في أحاديث سابقة، وسيطر عليها شعار «يتنحّاوْ قع» (فليرحلوا جميعا) والذي أثار حماس الجميع، وازداد لهيبه فلم تعد القضية محصورة في الباءات الثلاثة (بن صالح – بلعيز – بدوي ) بفعل من كانوا يريدون الوصول إلى وضعية فراغ هيكلي شامل يشمل الحكومة والبرلمان بما يفرض على المؤسسة العسكرية التخلي عن فكرة إجراء انتخابات رئاسية، واعتماد مطالب التوجهات الفرانكولائكية والنزعة البربرية بتكوين مجلس دستوري يضع بين قوسين كل ما أنجزته الجزائر منذ 1962، وما عاشته من تجارب وما عاشته من نتائج، بل ويدين كل مرحلة الاستقلال التي عاشت فيها تلك التوجهات على هامش الإنجازات بدون أن يمنعها ذلك من العيش على حسابها، رافعة شعار «الدعم الناقد» (soutien critique) وتفشل المعارضة في فرض إرادتها، خصوصا وقد اتضح أن القضية كلها هي فرار من الانتخابات الرئاسية، حيث لم يبرز من بين صفوفها من يجمع عليه جل رفاقه، بالإضافة إلى ارتفاع أصوات منكرة تقول بوضوح إن عزل كل الباءات لن يغير من الأمر شيئا، وأن على المؤسسة العسكرية أن تعمل على تكوين هيئة رئاسية تتولى تسيير شؤون البلاد. راحت أصوات أخرى تقدم مفهوما للديموقراطية لم يسمع به أحد في العالم أجمع، مضمونه أن صندوق الاقتراع هو تمكين للأغلبية من سحق الأقلية، وذلك بدلا من مناداتها بنفس الضمانات التي تكفل حقوق الأقليات في العالم كله، ومن هنا أصبح واضحا أن هناك من يريد استنساخ تجربة التسعينيات المأساوية، حيث تسلطت أقلية إيديولوجية بدعم من المخابرات الفرنسية على رقاب الأغلبية الشعبية، وهو ما كان طريقا نحو مجازر التسعينيات البشرية والاقتصادية والاجتماعية. كان تحقيق ذلك اليوم يعني بكل بساطة الخروج، لا عن نص الدستور فحسب، بل عن أي قراءة سياسية تأويلية لتلك النصوص، وهو ما رفضت المؤسسة العسكرية قبوله لأنها تعرف تكلفته، وهنا تم تكوين حشود راحت تتهم رئيس الأركان بالخيانة، وتدعو القوات المسلحة صراحة للانقلاب على قيادتها. بدأت الجموع عبر ولايات الوطن تحس بأن هناك من يحاول أكل الشوك بفمها، فبدأت في التنصل تدريجيا من المساهمة الفاعلة في التظاهرات، التي بدأت تتركز في شوارع وميادين معينة في العاصمة على وجه الخصوص، يتجمع فيها كل جمعة منذ الصباح الباكر عناصر مكلفة بمهمة تأطير الجموع وتلقينها هتافات معينة، وذلك تزامنا مع إعداد لافتات ورايات تغرق سماء الحشود لتعطي الشعور بسيادة توجهات معينة، حتى ولو لم تكن تعكس بالضرورة إرادة الجماهير، وبحيث كاد يتعرض للإيذاء كل من حاول مناقشة بعض المتظاهرين في موضوعية هتافاته، وهو ما حدث مع السفير مصطفى بو طورة وآخرين. بينما هجر كثيرون من مواطني العاصمة الاشتراك في التظاهرات، عُرِف أن جموعا تنقل إليها من ولايات مجاورة لخلق تضخم مفتعل في حجم التظاهرات ولخلق الشعور، عبر هتافات معينة، بأن هذه هي إرادة الشعب الجزائري. عندما لوحظ أن هناك من بين من يتم استحضارهم من حاولوا استفزاز قوات الأمن صدرت أوامر بمنع دخول طوابير الحافلات المكتظة إلى العاصمة، يوم الجمعة، ويوم الجمعة وحده، وهنا قامت القيامة، وراح من كان ينددون بالدستور وبنصوصه السيئة والعاجزة ينادون بتطبيق المادة 55 منه، التي تنص على حرية المواطن في التحرك حيث يريد، ومتناسين ادعاءاتهم بأن الجزائر تعيش وضعية استثنائية تتطلب مواقف استثنائية. تأكد وجود إرادة الاستفزاز عند بعض المتظاهرين المُجنّدين، وهو استفزاز لم يستهدف رجال الأمن وحدهم وإنما بقية المتظاهرين الذين رفضوا ترديد هتافات لها طابعها الخاص أو السير تحت رايات لا تمثل الإجماع الوطني. يتبع .. الحلقة الأولى