أواصل القراءة في مذكرات العقيد الطاهر زبيري، وأسجل له أنه كان من القلائل الذين كتبوا مذكرات تناولت الأحداث التي عاشوها، والتي ستكون يوما أساسا لما سيكتبه المؤرخون النزهاء عن ثورتنا وعن نضالنا وعن إنجازاتنا وأخطائنا، وإذا لم يكن للمذكرات إلا هذا الفضل فهو ما يشكر عليه قائد أركان الجيش الجزائري السابق. وأذكّر مرة أخرى بأن هذه السطور هي مجرد قراءة واعية لمذكرات الطاهر الزبيري، تركز على ما استقطب انتباه الكاتب وتسجل آراءه وبعض ذكرياته، وهي لا تدعي تفنيدا للمذكرات أو ردّا عليها، كما أنها لا تزعم دفاعا عن أحد أو هجوما على آخر، وهي في نفس الوقت ترفض كتابات حاولت التسلق على كتفي عمّي الطاهر لمجرد تصفية الحساب مع نظام الرئيس بو مدين، وستكون لي وقفة عن ذلك في حدود ما عرفته بشكل مباشر. ولعل من القضايا التي توقف عندها زبيري قضية كانت محور الأحاديث في بداية الستينيات، وهي تمرد النقيب بو عنان على وزير الدفاع العقيد بو مدين، وذلك بتشجيع من رئيس الجمهورية أحمد بن بلة آنذاك، وكان هذا واحدا من الأسباب التي قادت إلى ما أصبح يُسمّى فيما بعد تصحيح 12 جوان، فكما يقول عمّي الطاهر راح بن بلة يحاول قصقصة أجنحة بو مدين وتقليم أظافره إلى أن تسنح له الفرصة فيُعيّن أحد رجاله على رأس وزارة الدفاع (ص 64). ويعود العقيد إلى الخلف فسيتذكر ما عرفته المنظمة الخاصة قبل اندلاع الثورة، والتي كان يرأسها، بعد محمد بلوزداد، حسين آيت أحمد، بشخصيته القوية وثقافته العالية ونضاله في صفوف الحركة الوطنية، ويقول الزبيري بأن آيت أحمد "سرعان ما أطيح به لاتهامه بالتواطؤ مع المجموعة البربرية التي حاولت الاستيلاء على حزب الشعب الجزائري ورفضت التوجه العربي الإسلامي للحزب كما اعترضت على جمع التبرعات لصالح الشعب الفلسطيني (ص 72) وخلفه على رأس المنظمة رجل لا يقل دهاء عنه وهو أحمد بن بلة، الذي أصبح غريمه فيما بعد. وما لم أجده في المذكرات هو أن مناضلين من منطقة القبائل كانوا من بين من تصدى للنزعة البربرية وكانوا سببا رئيسيا في إجهاضها، وهو ما يؤكد أن أصحاب النزعة البربرية كانوا قلة انتهزوا أن في فرنسا نسبة كبيرة من أبناء المنطقة التي كان محمد حربي يسميها، لشدة فقر سكانها، ملاذ البؤس (le sanctuaire de la pauvreté) فاضطروا إلى الهجرة بحثا عن لقمة العيش. ولعلي أتوقف هنا لحظات لأسجل حقيقة تاريخية تتعلق بقضية البربرية، حدث أنني كنت من شهودها، وهي فرصة أقدمها لمن يريد أن يصحح أو يشكك أو يدّعي وصلا بليلى. فلقد كانت الصفة المستعملة دائما هي كلمة البربرية، وعرف التاريخ قضية الظهير "البربري" الذي أجهضه العرب والبربر في المغرب في الثلاثينيات، ثم تم تكوين الأكاديمية "البربرية" في باريس عام 1967 انتقاما من نظام الرئيس بو مدين الذي أمم المناجم في 1966، ومعروف أن وراء تكوينها عدد من الضباط السابقين في الجيش الفرنسي ممن ظلوا على ولاء للمستعمر السابق حتى بعد استرجاع الجزائر لاستقلالها. وحدث أن كانت أول زيارة يقوم بها رئيس الجمهورية الجديد هي زيارة إلى المشرق العربي لإثبات تواصل الالتزام الجزائري مع القضايا العربية التي تألق الرئيس الراحل هواري بو مدين في الدفاع عنها، وأكسبت الجزائر وجودا فاعلا على الساحة العربية والدولية. وتتفجر إثر عودة الرئيس أحداث أبريل 1980، ورحت، من موقعي برئاسة الجمهورية، أتابعها بقلق كبير خصوصا وقد تصور البعض أنها كانت ردة فعل على زيارة الرئيس العربية، وكان الأمر يتوقف، لو صدقت النوايا، على عدة إجراءات يمكن اتخاذها وأخرى كان يجب تفاديها. ومع تصاعد الصيحات بالبربرية قمتُ بطرح الأمر على الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي كان تأثره بالأحداث واضحا وكانت إرادته في حماية الوحدة الوطنية طاغية على كل المشاعر، وكونتُ مجموعة عمل ضمت مثقفين جزائريين منهم عبد المجيد مزيان وعثمان سعدي وموسى لقبال، وأدرتُ معهم حوارا بمحضر الرئيس نفسه، الذي تابع النقاش باهتمام كبير بدون أن يتدخل فيه، وهذا النوع من الحوار أسلوب بالغ الأهمية في طرح القضايا الخلافية على الرئيس لتترك له اتخاذ القرار النهائي بعد استعراض كل وجهات النظر. وكانت محصلة الحوار الاستنتاج بأن استعمال صفة البربرية (Berbère) هو تخليد لأصلها الذي قصده الرومان (Barbare)، ويعني الهمجية في الطبع والعجمة في اللسان، وأطلقه أهل روما على كل ما ليس ومن ليس رومانيا، والمنطق يقتضي العودة إلى التسمية الأصلية التي تؤكد الأصل التاريخي لكل سكان الشمال الإفريقي، وهي "الأمازيغية". وأعطاني الرئيس آنذاك توجيها بتثبيت صفة الأمازيغية إعلاميا بدلا من البربرية، وهو ما حدث، وفرض تعبير "الأمازيغية نفسه على الجميع بعد أن كان محصور الاستعمال على نخبة من المتخصصين، وأصبحت الصفة هي المستعملة حتى خارج حدود الجزائر، والفضل يرجع للشاذلي بن جديد. وأعود إلى سياق المذكرات التي تناول فيها عمّي الطاهر أحداث تمرد صائفة 1962 ليصل إلى جريمة الغزو المغربي فيقول: مع أن الهجوم المغربي على الجزائر كان يهدد الوحدة الترابية للبلاد إلا أن حسين آيت أحمد لم يوقف معارضته المسلحة مثلما فعل العقيد محند أولحاج والعقيد شعباني (ص 77) ويتناول الطاهر الزبيري أول شنآن حقيقي مع بن بلة، وذكر بتعليق الرئيس الحاد في "الكرملين" على نكتة قالها تتعلق بماريشالات الاتحاد السوفيتي قائلا : ربما كان جيشنا يحتاج "ماريشالات ( ص 88) قال فيها بن بله أنه من حسن الحظ أن الوقت لم يعد صالحا لاستعمال الموسى (التي كانت تستعمل في الثورة لإعدام الخونة والمتآمرين)، ويعلق عمي الطاهر قائلا: شعرت أن بلة وغيره من زعماء الثورة في الخارج لم يكونوا يقدرون حق التقدير جهادنا في الداخل وتضحياتنا من أجل (استرجاع) استقلال الجزائر (ص 89). ويستعرض عمّي الطاهر مبررات 19 جوان 1965، فيقول بأن بن بلة : "سعى إلى تجميع مختلف السلطات بين يديه، فهو إلى جانب كونه رئيسا للجمهورية فقد اضطر وزير الداخلية أحمد مدغري للاستقالة بعدما نزع من يده صلاحية الأمن والولاة، كما تولى وزارة المالية ووزارة الإعلام ومنصب الأمين العام للحزب (بعد أن اضطر محمد خيضر إلى الفرار) فضلا عن كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأصبح يجمع الصلاحيات من حوله، ويقلص من نفوذ حلفائه في السلطة"(..) وأصبح يتصرف كزعيم ثوري (..) متناسيا مبدأ القيادة الجماعية الذي سنه المفجرون الأوائل للثورة (ص 99). ولم يكن بو مدين ينظر بعين الرضا إلى سياسة بن بلة الانفرادية في اتخاذ القرارات وتجميع السلطات، خاصة وأن بن بلة لم يكن يستشيره في الكثير من القرارات السياسية (..) بل صار يهمشه حتى في المسائل العسكرية (..) حتى يُقلّص من نفوذه في الدولة، وبعدها لا يعلم أحد ماذا سيحدث (ص 101) ومما زاد الشكوك في هذا الشأن انفراد بن بلة في تحضير المؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني في 1964 بدون إشراك بو مدين وكبار الضباط في اختيار مندوبي المؤتمر وأعضاء اللجنة المركزية للحزب (..) وهذا ما دفع بو مدين وقائد أحمد وعبد العزيز بو تفليقة وشريف بلقاسم وأحمد مدغري إلى تقديم استقالتهم الجماعية (..) ورفض بن بلة قبول استقالتهم قبل انعقاد المؤتمر خشية أن تفجر هذه الاستقالات الخلافات بين المندوبين فتصعب السيطرة على الوضع (..) لذلك سعى إلى امتصاص غضب العسكريين بتعيين بو مدين وشعباني وأنا (الزبيري) وعلي منجلي في المكتب السياسي للحزب (ص 102) ويقول عمي الطاهر : بدأت ألاحظ أن بن بلة يتخذ قراراته بدون الرجوع إلى المكتب السياسي الذي كنت عضوا فيه، بل ولا يستشير الحكومة ولا الجيش في بعض المسائل الحساسة، وكان يتصرف كزعيم ثوري ملهم، ورغم محاولة بن بلة تقليص نفوذ بو مدين في الجيش (..) وإخضاع قوات الأمن والشرطة والولاة لسلطته المباشرة، بل وتشكيل ميليشيات بقيادة محمود قنز ونائبه جمال قنان (المؤرخ المعروف) للوقوف إلى صفه في حالة وقوع أي مواجهة بينه وبين بو مدين، إلا أن هذا الأخير ظل الرقم الأصعب في معادلة الجيش (ص 103) ويقول قائد الأركان الأسبق بأن "بن بلة كان يعتقد بأنني في صفه في صراعه الخفي ضد بومدين (..) لذلك أراد أن يتحالف معي مرحليا، ولكنني لم أكن أثق فيه كل الثقة، بعدما رأيت انفراده بالسلطة (..) وكان يريدني، بصفتي قائدا للأركان، أن أقف في وجه بو مدين، وقال : كن إلى جانبي وخاطيك (ص 105). وسعى الرئيس إلى استقطاب جماعة *وجدة* لإضعاف بو مدين، لكنه لم يُفلح في ذلك، فبو تفليقة ظل وفيا لبومدين وكذلك قايد أحمد ومدغري وشريف بلقاسم، لذلك سعى بن بلة إلى إقصاء الأطراف من أجل إضعاف المركز (..) وفي الوقت الذي ذهب فيه بو مدين وحده إلى القاهرة في ماي 1965 للإعداد لإنشاء المجلس الأعلى للدفاع المشترك، طبقا لمقررات القمة العربية الأولى، استدعى بن بلة بو تفليقة، بصفته وزيرا للخارجية، وأبلغه قراره بإلغاء وزارة الخارجية وتحويله هو للعمل معه في الرئاسة (..) وأصبح في حكم المؤكد أن بن بلة يريد أن *يُزيحنا جميعا* كما قال بو مدين، فحتى شريف بلقاسم وزير الإرشاد القومي قام بن بلة بتقليص صلاحياته وانتزع قطاع الإعلام من وزارته وجعله من صلاحيات الرئيس (ص 107/108)