دعا الدكتور عبد الغني بن الشيخ أستاذ محاضر بجامعة المسيلة في حديث ل”الشعب” المؤسسات المعنية بالثقافة إلى التنقيب عن الطاقات الإبداعية في الجزائر، ورعايتها بالمتابعة والنقد والتشجيع، طريق خلق فضاءات للمنافسة الأدبية الجدية، وقال إن المثقف في الجزائر لا يحظى بالمكانة التي تليق به، بداية من الوسط الاجتماعي الذي لا يوليه معنويا تلك المنزلة الرفيعة التي كان يوليها جيل الستينيات والسبعينيات للمثقفين ورجال العلم، وانتهاءً بالمعنيين بشأنه في مجال الثقافة والأدب الذين لا يولونه اهتماما إلا في المناسبات الرسمية عادة، مؤكدا أن ما ينقص الأدب الجزائري هو التفاعل الأدبي الحقيقي مع ما يُكتب وما ينشر، قائلا: “إن النص في غياب القارئ والناقد فاقد للحياة”.. تزخر الجزائر بنخبة من الأدباء والمثقفين، كمطلع ومهتم بالأدب، هل ترى أن الواقع الأدبي الراهن في الجزائر يسمح بالنهوض بهذا الميدان؟ يصعب تقييم واقع الأدب الجزائري بنظرة موضوعية أكاديمية في غياب حركة نقدية متفاعلة مسايرة للإبداع الأدبي الجزائري ولتطوّراته ومستجداته، وحتى ما ينجز من بحوث أكاديمية في هذا الإطار، يظل عادة حبيس رفوف مكتبات الجامعة وأرشيفها، إضافة إلى أن تلك البحوث غالبا ما تسلّط الضوء على نصوص بعينها، لأدباء معينين ذاع صيتهم الأدبي في الجزائر وخارجها، ولا تحفل كثيرا بالتجارب الأدبية الجديدة ولا تسعى إلى التعريف بها بما فيه كفاية، يضاف إليه غياب مجلات أدبية دورية متخصصة، ومن ثمّ، فإن الحكم على ظاهرة الواقع الأدبي في الجزائر قد يجعلنا نجحف في حق تجارب أدبية كثيرة تستحق الدراسة والمتابعة، وقد لاحظت من خلال متابعتي لما ينشره الجيل الجديد من نصوص، ومن خلال احتكاكي ببعض الأدباء شعراء وروائيين، أنهم لا يقلون شأنا في مستواهم الأدبي عن أدباء البلدان العربية الأخرى الذين فرضوا حضورهم على الساحة العربية، بوجود حركة نقدية فاعلة ساهمت في إبراز إبداعهم الأدبي، لكن المشكلة عندنا كما اعتقد ترتبط بمشكلات النشر وآليات التواصل، وغياب المتابعة المستديمة وثقافة القراءة، إذْ يلاحظ أنّ النشاط الأدبي عندنا مرتبط بشكل عام بالمناسبات التي تتيحها بعض الملتقيات والندوات، أما المتابعة فهي إما متقطّعة أو جزئية، لا تحيط بالتجارب الأدبية الجديدة، بشكل يُسَهِّل على الباحث الأكاديمي تقييم الحركة الأدبية بشكل موضوعي، لذا، فإنّ ما يمكنني تقديمه حول واقع الأدب الراهن في الجزائر لا يعدو أن يكون مجرّد انطباعات شخصية، مردّها قراءاتي واحتكاكي بالأدب الجزائري، وهو ما يمكن أن ألخّصه بالقول: إن ثروة الأدب عندنا لا تقل أهمية في جانبها المعنوي عن ثروة البترول في جانبه المادي وهي ثروة لا تزال مادة خام، ينبغي استثمارها نقديا وأكاديميا، ومثلما حرصت شركات البترول على التنقيب والبحث عن آبار جديدة لخدمة الاقتصاد الوطني وتعزيز قدراتنا المالية، على المؤسسات المعنية بالثقافة من جانبها أن تنقب عن الطاقات الإبداعية عندنا، وتحسن رعايتها بالمتابعة والنقد والتشجيع، بخلق فضاءات للمنافسة الأدبية الجدية يؤطرها المختصون والباحثون، بعيدا عن التهميش وأجواء المجاملة والجوائز الرمزية التي لا تسمن ولا تغني، ورغم كل ما يبدو من مظاهر شبه ركود تميّز الحركة النقدية في الجزائر، فإنني ألمس انتعاشا إبداعيا مشجّعا يحتاج فحسب إلى رعاية ومتابعة دائمتين. وهل ترى أن الأديب في الجزائر يحوز على كامل حقوقه وتوفر له الإمكانيات اللازمة للنهوض بالأدب وإعطائه مكانته الخاصة به؟ بصفة عامة،المثقف عندنا بما في ذلك الأديب لا يحظى كما أظن بالمكانة التي تليق به، بداية من الوسط الاجتماعي الذي لا يوليه معنويا تلك المنزلة الرفيعة التي كان يوليها جيل الستينيات والسبعينيات للمثقفين ورجال العلم، وانتهاءً بالمعنيين بشأنه في مجال الثقافة والأدب الذين لا يولونه اهتماما إلا في المناسبات الرسمية عادة، وكما أنه لا يحظى بالرعاية المعنوية فإنه شبه محروم من الرعاية المادية، فهو حين يداهمه المرض العضال أو تنزل به نائبة من نوائب الدهر يجد نفسه وحيدا معزولا، يواجه مصيره المحتوم بلا معين “إلا ما رحم ربي”، وذلك بحسب شهادة المثقفين والفنانين أنفسهم، استنادا إلى ما تطلعنا عليه الصحف ووسائل الإعلام بين الحين والآخر، وهي ليست حالة جزائرية خاصة وإنما حالة عربية عامة تتفاوت درجاتها من بلد عربي إلى آخر، وهو ما يدفع غالبا بنخبة الأدباء والمثقفين للأسف إلى الهجرة بلا رجعة. بحكم متابعتك واطلاعك على الأدب العربي المعاصر ما الذي وجدته في هذا الأخير ولم تجده في الأدب الجزائري خاصة؟ من وجهة نظري الأكاديمية الشخصية لا أجد اختلافا كبيرا بين ما يكتبه الأدباء في البلدان العربية وما يكتبه أدباء الجزائر، وذلك من حيث الطرائق والتقنيات والأساليب السردية والشعرية، مع اختلاف في درجات مستوى الإبداع والأداء بين أديب وآخر، وهذا يرتبط بالخبرة والتجربة والممارسة والاحتكاك، فلا يمكن منطقيا أن نقارن بين تجربة شاعر كأدونيس الذي لا يزال منذ أكثر من خمسين سنة خلت يكتب الشعر وينظّر له وبين شاعر جزائري من الجيل الجديد بدأ يكتب الشعر منذ عشر أو عشرين سنة، وقل ذلك عن الرواية والمسرح، إلا أن الخصوصية تكمن في الموضوعات المرتبطة بواقع الجزائر نفسه والأحداث التي مرت بها، إذْ برز بشكل لافت “موضوع العنف الدموي” كموضوع رئيسي في الرواية الجزائرية في التسعينيات من القرن الماضي، ثم بدأت مركزيته تتراجع باستتباب الأمن في الجزائر، وما عرفته من تحولات اجتماعية وثقافية بعد ذلك، وبالنظر إلى المراتب والجوائز المُشرِّفة التي يتحصل عليها أدباء الجزائر شعراء وروائيون وقصاصون في المحافل العربية والدولية بين الحين والآخر، فهذا دليل على أننا نملك نخبة أدبية، لا تقل شأنا عن النخبة الأدبية في البلدان العربية الأخرى. ألا ترى أن ما يُنَظّمُ في الجزائر من تظاهرات خاصة بالأدب من أمسيات ولقاءات كافٍ لإعطاء الأديب مكانته، وهل هي دليل على أن القائمين على رأس الثقافة يولون اهتماما بهذا المجال ؟ التظاهرات والمحافل الأدبية كالأمسيات الأدبية والملتقيات والمعارض فضاءات مهمّة للغاية، تسمح للأديب بإبراز طاقاته الإبداعية كما تسمح للأكاديميين والنقاد بمتابعة الإنتاج الإبداعي وتقييمه، وكلّما تنوّعت تلك التظاهرات وتعدّدت، زاد ذلك من نشاط حركية الإبداع والنقد، وبالنظر إلى ما يقام هنا وهناك في ربوع الجزائر من تظاهرات وملتقيات أدبية في الجامعات والمراكز الثقافية وغيرها، فهذه علامة على الاهتمام بالشأن الأدبي، لكننا نبقى في حاجة إلى آليات جديدة في تنظيم تلك التظاهرات وتفعيلها، فالتنسيق بين الجامعات والمراكز الثقافية في هذا المجال على سبيل المثال يكاد يكون منعدما، فقد يحدث أن يُقامَ ملتقى في جامعة جزائرية دون أن يكون للأساتذة والباحثين المختصين في جامعات جزائرية أخرى علم بذلك، في زمن توجّهه التكنولوجيا الإلكترونية الرقمية، يفترض فيه أن تكون مشكلة التواصل والإعلام قد حُلّتْ تماما، والمسؤولية هنا لا تقع على القائمين بالملتقى أنفسهم، بقدر ما هي مسؤولية مشتركة تتحمّل وزرها أطرافٌ عديدة، بمن فيهم المسؤولون عن الشأن الثقافي نفسه، وهنا أتساءل لِمَ لا تُخصّص مثلا مجلةٌ أو دورية تضبط جداول ومحاور الملتقيات والنشاطات الأدبية على مستوى الوطن، ويخصص لها موقع رسمي على الإنترنيت أو توزّع على الجامعات والمراكز الثقافية كما هو معمول به في كثير من الدول المتقدمة، فيتسنى للأساتذة والطلبة والمبدعين وعامة المهتمين بالأدب، بالإطلاع عليها والمساهمة في نشاطاتها وحضور فعالياتها، ومن ثمّ تفعيلها بما هو أفضل. وهل تمكنت الجزائر من إنجاب جيل جديد من الأدباء الشباب، والذين بإمكانهم حمل مشعل جيل الثورة التحريرية والسنوات التي تلتها والتي عرفت شخصيات ما تزال إلى اليوم تسطر لها اسما وسط عمالقة الأدب في العالم العربي على وجه الخصوص؟ الأجيال برأيي كما يقال تتواصل ولا تتماثل، فلكل جيل ظروفه وثقافته وأسلوبه ومشكلاته وطموحاته، وما يميّز الجيل الجديد ويجعلني متفائلا بقدراته، هو أنه لا يتنكّر للتضحيات العظيمة التي قدّمها جيل الثورة التحريرية بكل فئاته، ومن خلال تواصله بماضيه، نراه يسعى جاهدا إلى استيعاب أحداثه وتجاوز ما ينبغي تجاوزه، بما يتماشى وروح العصر وظروفه وتقلباته، ونحن حين نعاين أدب الجيل الجديد من الروائيين على سبيل المثال، نلاحظ دوما حضور الثورة التحريرية كموضوع تواصلٍ بين الحاضر والماضي بشكل أو آخر وهذا من شأنه المساهمة في تخليد وقائع ثورة التحرير المباركة أدبيا، وقد سبق لي وأن أشرت في حوار سابق إلى أن الأحداث التاريخية لثورتنا المجيدة لم تستثمر بما فيه كفاية في أدبنا الجزائري الراهن، بالنظر إلى ما تزخر به من تضحيات عظيمة وأحداث وحقائق كثيرة، إذا ما تمّ استثمارها أدبيا وفنيا بطريقة أفضل، فسيكون للرواية والسينما الجزائرية شأن آخر. في اعتقادك ما الذي يعيق الجزائر في النهوض بأدبها، وما هي حسب تصورك الإستراتيجية الكفيلة بانتهاجها لإعطائه مكانته الخاصة به؟ باعتقادي ليس ثمة ما ينقصنا للنهوض بالأدب واستثمار الطاقات الأدبية الجزائرية، فلا أحد يمكنه أن ينكر ما تحوزه الجزائر من أدباء ومبدعين وباحثين، أما ما ينقصنا كما أظن هو التفاعل الأدبي الحقيقي مع ما يُكتب وما ينشر، فالنص في غياب القارئ والناقد نصُّ ميت فاقد للحياة أو على حد تعبير أمبرتو إيكو “النّص آلة كسولة ينبغي على القارئ تفعيلها” ونحن للأسف نعاني من غياب المجلات الأدبية والدوريات المتخصصة المسايرة للحركة الأدبية، كما نعاني من مشكلات النشر والتوزيع ومشكل العزوف عن “القراءة” وانحسارها لدى فئة معينة محدودة تهتم بالأدب الجزائري، وللخروج من هذا الوضع أرى أن فتح فضاءات رقمية إلكترونية، وتشجيع الأدباء والباحثين على الإبداع والتفاعل بنشر أعمالهم بما في ذلك البحوث الأكاديمية، كرسائل الماجستير والدكتوراه وتخصيص جوائز قيّمة للأعمال المتميّزة، يرعى شؤونها متخصصون في مجال الأدب من الباحثين والأكاديميين، كل ذلك من شأنه أن يغيّر من المشهد الأدبي الراهن نحو ما هو أفضل وأرقى. كلمة أخيرة؟ لا يسعني في هذا المقام الكريم إلا أن أقدّم شكري الخاص لجريدة “الشعب” التي فتحت لي ولزملائي الأكاديميين وللمبدعين هذا الفضاء الأدبي الثقافي، لإبداء الرأي حول واقع المشهد الثقافي الجزائري والمساهمة في تفعيله، ولكونه صورة مكبرة لهويتنا وثقافتنا، أرى أنه ينبغي علينا جميعا جعله في أبهى صورة ممكنة وهذا أقل ما يمكن تقديمه.