سلاح «العقوبات» يدّمر الدول ويُثقل كاهل الاقتصاد العالمي في ظل ارتفاع كلفة استخدام الولاياتالمتحدة قوّتها العسكرية لمواجهة ما تعتبره تحدّيات وتهديدات لمصالحها وأمنها القومي، وكذلك للأمن والاستقرار الدوليين، قرّرت الإدارة الأمريكية الحالية تبني خيارات غير عسكرية هدفها الأساسي ردع الخصوم والمنافسين، فكانت العقوبات الاقتصادية العنوان البارز لسياسة ترامب، وهي تأتي في مرتبة دُنيا للقوة الصلدة، وفي مرتبة عليا للقوة الناعمة. لقد أعطت إدارة دونالد ترامب الأولوية لخيار العقوبات الاقتصادية، وتبنتها ضدّ عدّة دول و أفراد، ولم تكتف بذلك بل أشعلتها حربا تجارية ضارية ضدّ الصين دون الالتفات الى نتائجها السلبية على الاقتصاد العالمي. «الشعب» اختارت اليوم أن تقف مع الدكتور وهبي زكرياء، أستاذ العلوم السياسية ورئيس قسم الدراسات الدولية، بجامعة الجزائر 3، عند الحروب التجارية وسياسة العقوبات التي تتبناها إدارة ترامب، لنتعرّف على كنهها ومدى خطورتها على الاقتصاد العالمي. « الشعب» منذ مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولاياتالمتحدةالأمريكية وهو يلوّح بعصا العقوبات الاقتصادية ضد هذه الدولة والأخرى، فما تعريفكم لسياسة العقوبات الاقتصادية، ولماذا وقع اختيار ترامب عليها؟ الدكتور وهبي زكرياء: تعد العقوبات الاقتصادية إحدى أدوات السياسة الدولية، وهي من أهم أنواع السياسات التي تمارسها القوى الكبرى، للتأثير على العديد من الأنظمة السياسية التي ترتبط معها بمصالح مشتركة، أما بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية، فهي توليها أهمية إستراتجية كونها تدخل ضمن سياستها الخارجية خاصة الجانب المتعلق بالحمائية التجارية التي أعلن عنها الرئيس دونالد ترامب، وقد حاول هذا الأخير تجسيد ذلك، انطلاقا من مبدأ المصلحة الاقتصادية الامريكية وتحمل في مضمونها الجانب الردعي من أجل الوصول إلى مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية وتغيير مواقف بعض الدول بما لا يتعارض والمصالح الحيوية التجارية الامريكية. إن اعتماد دونالد ترامب العقوبات الاقتصادية نابع من اعتباره كرجل أعمال في الأصل، وبالتالي فهي تدخل ضمن فلسفته الاقتصادية التي تعتبر من ركائز سياسته في الحكم بالإضافة إلى الالتزام الذي قطعه أثناء حملته الانتخابية بتحقيق ذلك من خلال عودة أمريكا إلى مركزها الطبيعي الذي كرّسه شعاره في الانتخابات « لنجعل أمريكا عظيمة من جديد « ومن هنا نعتبر أن ترامب يجسد شرطي الحركة الاقتصادية في العالم. العقوبات بديل للخيارات العسكرية المكلّفة
- ترامب راهن على الحروب التجارية لا العسكرية لإدراكه بأنها ربما تكون أكثر فعالية، فما تأثيرات فرض عقوبات اقتصادية على دولة ما ؟ إن المراهنة على الجانب التجاري الاقتصادي، نابع من رؤية ترامب القائمة على أن بلاده في علاقاتها الأمنية وتحالفاتها العسكرية الموروثة منذ الحرب الباردة، أصبحت تشكل عبئا على الجانب الاقتصادي في ضوء تجاوز الدين العام للناتج الإجمالي القومي، وبالتالي اختار انتهاج العقوبات الاقتصادية كاستراتيجية بديلة لاستخدام التدخل العسكري المباشر أو الدخول في حرب عسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات، خاصة بعد تجربة كل من العراق و أفغانستان التي جعلت أمريكا في معضلة أمنية نتيجة الخسائر المادية والمعنوية التي منيت بها. أما فرض عقوبات اقتصادية على أيّ دولة، فله انعكاسات كبيرة على الحركة الاقتصادية المرتبطة بميزان الصادرات والواردات، وكذلك الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر، بالإضافة على حركية رؤوس الأموال، وعلى سبيل المثال ما تعرضت له ايران من عقوبات اقتصادية من طرف الولاياتالمتحدةالامريكية على مستوى البنك المركزي الإيراني، وصادرات النفط وتجميد الأموال التي تدخل للدولة مع فرض عقوبات على الخدمات المرتبطة بالنشاطات المتمثلة في حجز عملة الدولار الأمريكي وفرض حصار على المعادن الثمينة مثل الذهب، كما شملت العقوبات قطاع الصناعة. - لا شك أن عصا العقوبات التي رفعها ترامب ضد بعض الدول هدفها تغيير أنظمتها والإستراتيجية، كما حددها هو جعل الشعوب تنتفض ضد قادتها، ما تعليقكم؟ في الحقيقة إن هذه السياسات الاقتصادية هي من أجل معاقبة بعض الأنظمة المسماة في استراتيجية الامن القومي الأمريكي المعادية أو دول محور الشر، وهي سياسات قديمة برزت مثلا ضد ليبيا عام 1978 وضد نظام كوبا بقيادة فيدال كاسترو والنظام الإيراني الإسلامي منذ عام 1979 إلى غاية اليوم، وضد العراق في منتصف التسعينات إلى غاية الغزو الأمريكي في 2003، واستخدمت الإدارات المتعاقبة في الولاياتالمتحدةالامريكية أدوات ووسائل مختلفة للعقوبات الاقتصادية من اجل تغيير بعض الأنظمة أو إسقاطها مما خلق فوضى دولية وأزمات إنسانية نتيجة الحروب المشتعلة بمنطقة الشرق الأوسط أو ببعض المناطق في افريقيا، لذا فأمريكا سعت إلى الأحادية الدولية بشتى الوسائل وخاصة القوة بكلّ أنواعها. الرّدع لتحقيق مكاسب للاقتصاد الأمريكي - قد نسلم باستهداف عقوبات ترامب لدول صغيرة، لكننا نرى بأن سوط عقوباته يطال حتى الدول الكبرى بحجم الصين وروسيا، فمن أين يستمد ترامب هذه الجرأة وما الأسباب الحقيقية في استهداف مثل هذه الدول؟ إن جرأة ترامب برزت أثناء حملته الانتخابية من خلال الشعارات التي رفعها، حيث اتضحت معالم فلسفته المختلفة نوعا ما عن سابقيه عندما صرّح بشكل مباشر عن إعادة النظر في موضوع التجارة من خلال الحصول على مكاسب فعلية للاقتصاد الأمريكي، وعبّر في كثير من المواقف عن معارضته لاتفاقيات التجارة الحرة والتهديد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية وأعاد النظر في اتفاقية المناخ بالإضافة إلى فرض رسوم حمائية بنسبة 45% على البضائع الصينية و 35% على البضائع المستوردة من المكسيك، وهنا تتضح رغبته في فرض حصار على السلع المستوردة بشكل يجعل من بلاده المتحكم في السوق الخارجي، ولم يتردد ترامب في التأكيد على قدرة الولاياتالمتحدةالأمريكية في الدخول في حرب تجارية والخروج منها منتصرة، وهنا إشارة واضحة للصين وروسيا ودول الإتحاد الأوروبي، كما لمّح الى استخدام بلاده لنفوذها الاقتصادي وللأدوات النقدية لفرض شروطها على الآخرين.
- أكيد أن الحرب التجارية التي أطلقها ترامب لها تداعياتها على الاقتصاد العالمي ككل، ما تعليقكم وما منفعة أمريكا من ورائها؟ نحن اليوم نعيش في قرية صغيرة نتيجة للتحوّلات البينية والهيكلية التي عرفها العالم، وبالتالي أي حركة أو تغيير في الهرم يكون له انعكاسات كبيرة، لذا فسياسة ترامب القائمة على الحرب التجارية لها انعكاسات كبيرة على الاقتصاد العالمي، من خلال الرسوم الحمائية للواردات التي تبنتها واشنطن على السلع الواردة من الصين والتي قدرت بحوالي 482 مليار دولار، وألمانيا والمكسيك بحوالي 30 مليار دولارا، وهذا ما يشكل خرقا لاتفاقيات التجارة الحرة، وتهديدا للتجارة الدولية، كما أن مثل هذه السّلوكات تؤدي إلى استعار الحرب التجارية بين الصين و أمريكا وهذا ما رأيناه في قضية المتعامل الهاتفي الصيني «هواوي «، كذلك إن مثل هذه السلوكات التجارية تؤدي في كثير من الأحيان إلى تدهور معدلات النمو التجاري العالمي،ولها انعكاس على قضايا أخرى مثل الهجرة واللجوء والأمن على مستوى العالم. إذن، هناك علاقة مترابطة بين الاقتصاد والسياسة فكل يقع في جانب يؤثر على الجانب الآخر. - العقوبات الاقتصادية وإن كانت تستهدف الأنظمة أو القيادات الحاكمة، فمن يدفع ثمنها الباهظ هي الشعوب المغلوبة على أمرها، أين موقع حماية حقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب من كل هذا؟ موضوع حقوق الإنسان ما هو إلا فزاعة يستعملها الغرب كورقة لتمرير مشاريعه الاستعمارية على مستوى العالم، ودليل ذلك، التدخلات العسكرية التي قامت بها الدول الغربية بمعية الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلف الناتو والتي تم توظيف ملف حقوق الإنسان فيها مثل ما حدث في العراق وليبيا وأفغانستان والنتيجة يعلمها الجميع، وهو خراب كبير لحق بهذه الدول على جميع المستويات ( اقتصادية، سياسية، اجتماعية ..) وأزمات دموية غرقت فيها، باختصار هناك ازدواجية في المعايير تطبّق على المستوى الدولي، فيما يتعلق بملفات حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية. الحرب التجارية ضد الصين هدفها كبح تطوّرها المتنامي
- ماذا عن المواجهة التجارية بين الصينوأمريكا والتي نراها تأخذ أبعادا خطيرة من خلال تأجيج الوضع في هونغ كونغ، والذي أراه ورقة ضغط في إطار هذه المواجهة؟ المواجهة بين الصينوأمريكا، بدأت منذ أن ترشح ترامب للانتخابات الرئاسية، من خلال تصريحه، بأن بكين تمارس التجارة بطرق غير قانونية وغير عادلة وترتكب سرقات في مجال حقوق الملكية الفكرية، أما الصين، فتصوّرها قائم على رؤية أن أمريكا تعمل على كبح نهوضها وتطورها على المستوى العالمي، لذا فالمواجهة مشتعلة بينهما خاصة بعد أن أجّجها ترامب بقرار فرض رسوم حمائية على السلع الصينية ودعوته للشركات الامريكية للانسحاب من الصين، ونسجّل ان هناك اختلافات بين الطرفين على مستوى بعض القضايا، مثل الدعم الأمريكي لقضية تايوان وكذلك قضايا حقوق الانسان، بالإضافة إلى مواجهات غير مباشرة في بحر الصين الجنوبي وعلى مستوى توسيع النفوذ الاستراتيجي في العالم، لذا تبقى المواجهة مستمرة بين الطرفين.