أتذكّر بأنّه في إحدى الأصياف زوّدني أحد الزملاء بمجموعة من الكتب الصفراء، وبينما أنا أتصفحّها عثرت على مجموعة قصصية تضم روائع الأدبيات العالمية مترجمها أحد المصريين لست أذكر إسمه (لأنها ضاعت مني الآن). وأتذكّر كذلك حجم المتعة التي رافقتني طيلة الرحلة التي قرأت فيها تلك القصص، وكان ممّا شدّني أكثر قصة تدور أحداثها في أزقة روسيا القيصرية، بسيطة جدا ولكن معانيها وطرحها حضاري وإنساني، وتبعث بعدة رسائل هضمتها جيدا ولا مجال للحديث عنها هنا لأنه ليس موضوعنا...بعد نهايتها اعتقدت بأنّني كنت أقرأ رواية كبيرة وطويلة، وعرفت أن كل الفضل يعود لهذا المترجم العملاق، الذي كان يجيد الروسية ولربما قرأها بلغتها الأصلية ثم أعاد صياغتها ونسجها بالعربية...أي بالاختصار المفيد قام بترجمة المعنى وليس اللفظ (المبنى) بينما قبل هذا كنا نحن شلة من المهتمين نقرأ بعض التراجم اللبنانية في الفكر والأدب والفلسفة والسوسيولوجيا، وكنا نعاني صراحة من عدم الفهم..حتى أن زميلا لي نبّهني حين تفطّن لأمر هام وقالها لي بالحرف الواحد (إن أسوأ المترجمين العرب هم اللبنانيين)، الذين أغروّنا بالعناوين المنمقة طيلة سنين لكن المحتوى من الداخل كان دائما فارغا فضفاضا....ثم يجيء في المرتبة الثانية ويليهم المغاربة ثم السوريين الذين لهم وعليهم لكن وبدون مجاملة، فأحسن من أجاد الترجمة في الحقب الماضية هم المصريين لأنك تشعر بأنهم صادقين في الطرح ويعيدون كتابة القصص والأعمال الأخرى حسبما فهموها وليس نقلها حرفيا أي من لغة إلى لغة، بحجة أن هذا يدخل في الأمانة العلمية، بينما في الضفة الأخرى يرى هذا كثير من الملاحظين بأنه خيانة للترجمة؟ا دون أن ننسى كذلك بعض الجزائريين والتونسيين الذين وُفّقوا أيّما توفيق...لأن مشكلة الترجمة في الوطن العربي تعود وتنعكس على شخصية المترجم نفسه...أي من أدواته التي يملكها ثم يعي أين يوظفها ومتى وكيف، هذا طبعا مع امتلاكه الناصية الكبرى للغة التي ترجم منها وإليها...؟ا أما ظاهرة الترجمة التي تتم بالنقل الحرفي فهي مجرد حشو وملء للورق وتكليف مفسد للطباعة نفسها، والدليل تلك الملايين من العناوين التي نراها اليوم مكدّسة في المؤسسات والمكتبات العامة، حيث سادت مودة الاستفادة من أعمال وأفكار الآخر (وهذا مفيد طبعا)، لكن شريطة أن يضع كما قلنا القائم بالترجمة فكرة أنه يخاطب القارئ العربي، وليس الترجمة من أجل الترجمة فقط...زيادة على أنّ معظم الذين كانوا يقومون بعمل الترجمة كاوا يصنّفون في خانة الفرنكفونيّين أين أنّهم فعلا يجيدون اللغات الأخرى. وللأسف كانوا يجيدونها كقشور فقط، أي كلغة وقوالب جامدة دونما فهم معانيها الباطنية ونفسيات كتابها وهنا يقع أكبر مشكل لأنّه كما أشرنا وقلنا فإنّ الترجمة هي إعادة كتابة باللّغة الجديدة...وحينما لا يتحقق هذا الشرط يصبح جهد المترجم في خبر كان،والطّامة الكبرى أن القارئ العربي كذلك ينجر طواعية في هذه المفسدة الهلامية، ليضيع كل شيء وتترسخ في ذهنه أي القارىء مفاهيم خاطئة عن الكاتب الأصلي، ويصبح عنده نكرة مهما كان وزنه في الساحة العالمية، وهذا كله بسبب المترجمين العرب والعكس صحيح؟ا إذا ما نود قوله فالترجمة هي تعني قارئا جيدا للنصوص الأصلية ومتفهّم لألغازها ومعانيها الجوهرية قبل أن يكتبها باللغة الثانية، والتي كذلك وجب أن يكون متقنا لها لأنّه صراحة هناك مترجمين عرب لا يحسنون اللغة العربية نفسها؟ا وكيفية إتقان البلاغة وإيصال المعاني والغايات المرادة للقراء..وكأنّهم يترجمون لقارئ من ضفة أخرى؟ا أمّا إذا وضع القارئ الأصلي في الحسبان مع كل تبسيط وتيسير، فإنّ ترجماتهم هذه تُتوج كجهود مضنية، وترفع من جهة نوع هذا الأدب وشأنه عاليا..وإلا ما الفائدة من تلك الهلهلة التي القصد منها هو الجري وراء الأسماء والعناوين البرّاقة...لذلك وكما قلنا فإنّ الكثير من المترجمين لازالوا يعانون من عقدة الآخر، أي الغرب المتفوق في جميع المجالات لذلك تجد هذا التعالي واضحا على أرض الواقع، بل ينعكس بالسلب على مستقبل حوار الثقافات والحضارات، وكأنّهم يقدّمون خدمة مجانية للكاتب الأصلي أو لتلك الدار والمؤسسة ولربما تلك الدولة.