وها أنتَ سرٌّ (قدّسَ الله سرَّه) وحسبكَ في التاريخ أنك (قائد) كل شيء يولد صغيرا ليكبر إلا الموت فإنه يولد كبيرا ليصغر، هكذا تقول الحكمة العربية، وهي تبدع في توصيف الموت توصيفا يلامس حالة ارتفاع وعي الإنسان وهو يصحو على ميلاد الصرخة الفاصلة بين مغادر لدار الدنيا ومشيع له مازال له بعض من النصيب في هذه الدار. الحق في توصيف العرب لحالة الموت - كحالة وجودية ثابتة - يغفل جانب العلامة الفارقة في موت الإنسان، وهي تلك التي تتصل بكمية الفراغ التي يحدثها الميت لدى مشيعيه، فليس الأموات سواء فيما يخلّفونه من أثر يترتب عليه تقدير حجم المصاب بفقدانهم، فتلك حكمة الله أن جعلت من أمر الناس في الناس أحوال ومراتب تحدّدها المسؤوليات التي كلفهم الله بها، فإن أقاموها على الوجه المطلوب، أقام لهم الله المقام الذي يستحقونه، وجعل من أمرهم بين الورى مثلا. بموازاة هذا لا يصعب على المتأمل إدراك جانب ثان أغفله توصيف العرب لحالة الموت لما جعلوها تولد كبيرة ثم تصغر، إذ بعض الموت يولد كبيرا وسيظل كبيرا على مدار عدد من الأجيال، ذلك إذا كان الميت ممن أقام الله لهم مقام صدق، وجعلهم في منزلة الأحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما أتاهم ربهم، ويأتي في مقام ذلك الشهداء والصديقون والصالحون ممن جعل الله لهم في حياتهم قدم صدق، فساروا بين الناس بالحسنى حتى إذا أتاهم الموت، أتى الأمة التي ينتمون إليها مصابا جللا، يهز الأنفاس هزا، ويفجر فيها منابع كثيفة من الوجع والألم الذي لا شفاء منه إلا السلوى بقوله تعالى: «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»[1] يحدث أن توافق نازلة الموت التي تلم بركن من أركان الأمة، أو مصباحا من مصابيحها التي ظلت تنير الدرب لأبنائها السالكين نشاطا كثيفا في الالتفاف حول المصاب، وتركيزا على درجة عالية من الاهتمام بالمصاب، وتكثيفا شديدا للشهادات الحسنة في الميت عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:»أذكروا محاسن موتاكم»، انفلاتا غزيرا للرثائيات التي يوقّعها الشعراء من مشارب متنوعة، يغرف كل شاعر منها بما أتاه حظه، وطاوعه قلبه في ترجمة حالة الوجع، والإغراق في تعديد الصفات المادية للمرثي، والتفصيل في تعداد فضائله الخلقية، في خطاب متعدد الأبعاد الفكرية والنفسية والخلقية والاجتماعية والتاريخية التي لا تهمل في تنوعها الوظيفة الجمالية التي تجعل من النص سمفونية متناغمة تتماشى مع منحنى الألم، أو مع حدة الموت لحظة ميلاده، أو تتماهى مع مخيال استشراف قادم الأيام، حيث لا يكون للمرثي فيها أي حضور مادي. لقد كانت تلك هي التقاسيم النفسية للصورة، وهي تنكشف أمام الشاشات الباكية على رحيل قطب من أقطاب الأمة، وواحد من أهم ركائزها، ألا وهو القائد الشهم الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، المجاهد سليل المجاهدين والشهداء، الفريق أحمد ڨايد صالح، الذي توفاه الله، صباحية الاثنين 23 ديسمبر 2019، مخلفا وراءه زلزالا هزّ أوساط شعب أحبه، لما فيه من همة ووطنية وحِلم وثبات، في وقت كان أغلب الجزائريين يتوّجسون خوفا من انفلات الوضع السياسي في البلاد إلى ما لا يحمد عقباه، وقد كانت خطاباته - التي ألفناها دوريا - تبدّد ظلمة الخوف في الشعب، وتطمئنه على نفسه وعياله وماله، مؤكدة على أن هذا الوطن في أياد أمينة، داعية إلى التسلّح بدروع الإيمان بالله والوطن، مقدمة صوره مشرقة لمستقبل واعد، ووطن قوي بقوى سواعد أبنائه المخلصين. صرخة رثائية تجاوزت حدود الجغرافيا نتج عن هذه التقاسيم ميلاد صرخة رثائية كبرى تجاوزت الحدود الجغرافية للجزائر إلى حدودها اللّغوية والدينية والتاريخية، كما أفرزت نوعا خاصا من العلاقات يتجاوز البعد المادي إلى ما هو باطني من القضايا التي تتقاطع في مستويات متقدمة من الوعي الفكري والإيماني والتاريخي، حيث أصبح فعل الرثاء مسألة تتجاوز الانفعال العاطفي إلى ما هو تأكيد على قداسة المبدأ ونقاء الرؤية وشرف الطريق الذي ظلت ثلة من الأمة عليه مرابطة عليه، «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» ]2[ المتتبع للمرثيات التي كتبت في المجاهد أحمد ڨايد صالح، وقد تم تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي، ليقف على موضوعات متعدّدة تتقاطع فيما بينها لتشكل مفهوما وطنيا وإنسانيا شاملا، يستمد أفكاره من المواقف المقدّسة والثابتة في أبعادها الوطنية والتاريخية والإيمانية، التي جعلت من مسيرة الراحل ومواقفه ورؤيته فضاء ينسجم داخله السواد الأعظم من الجزائريين، الذين هتفوا بما هتف، وتفاعلوا مع صرخاته التي ظلت تزرع الحياة في الذات الجمعية لأمة عاشت تقاسمه الهم، وتبايعه على أن يكون ممثلها... في مسرح التأكيد على قدسية القضية التي وجدنا من أجلها. تفصح القراءة المتأنية للمرثيات على توافق يكاد يكون تاما بين الشعراء وهم يوّقعون في حركة ارتدادية صنعها حدث الوفاة على عدد من الصفات والمواقف التي ميزت شخصية الراحل أحمد ڨايد صالح، والتي يقابلها القبول لدى الآخرين الذين يعون حجم المسؤولية جيدا، ويستشعرون قداسة الموقف بقوة، ضمن سلمية هرمية تتربع ]الجزائر/ الوطن[ على عرشها، تليها قضايا من قبيل «نوفمبر، الجهاد ضد الفرنسيين، الأوراس، العروبة، الحرب ضد الصهاينة، الشجاعة، البطولة، الصبر، الحلم ...الإيمان ..» كركائز يقوم عليها البناء العام . وعلى ذلك أصبح حدث الوفاة في المسار الرثائي العام للقصائد، يكتسي صفة عامة تقدم المناسبة على أنها مصيبة وطن اسمه الجزائر . يقول الشاعر التونسي الحضري المحمودي]3[ تَبْكِي الجَزائرُ قَائِدًا منْ أُسْدِهَا وعَلى البَوَاسِلِ تحْزَنُ الأوطان موقف الشاعر الحضري لا يختلف عن موقف الشاعر السوري سمير أحمد تشتوش في اعتبار المناسبة مصيبة وطن، إلا أنه يتجاوزها إلى تشكيل أعلى يجعل الراحل في موقع محوري ضمن ثنائية تقابلية بين كونين يتماثلان في الأهمية، وهما الكون الأرضي المتمثل في الجزائر والكون السماوي المتمثل في الجنة التي أعدها الرحمن لعباده. وإن كانت روح الشاعر ترى أن سفر الراحل للكون السماوي نتيجة للتلهف والشوق الحاصل، فإن المضمر في خطابه هو حالة الاحتجاج الخافت على هذا الانتقال غير المبرّر توفر التماثل بين المقدس الأرضي الذي هو الجزائر التي تصّر على بقاء أحمد ڨايد صالح، والمقدس السماوي الذي هو الجنة التي يريدها الراحل]4[: يا فارساً ترك الجزائر وارتقى نحو السماء إلى الجنان تلهفا أبكيتني وتركتني متألماً أشكو ابتعادك والفؤاد تخطَّف والواضح في موقف الشاعرين أنهما تمثلا الموت بما هو صورة فجائعية تحل بالأوطان لما تفقد قائدا، غير أن هذه الصورة تتخذا - عند شعراء آخرين - أشكالا أخرى، كلها تنصب في بناء الصورة الكلية لهذه الحال، كما يظهر مع الشاعر محمد مرزوقي الذي نقل ]الوطن/الجزائر[ من السياق التاريخي والجغرافي إلى سياق الرفعة وسمو المقام على طريقة الملوك المرصعة رؤوسهم بتيجان الرفعة والملكية]5[ تَاجُ الجَزَائِرِ أَنْتَ.. طِينَةُ خَلْقِهَا وَبُطُولَةُ الأَحْرَارِ مِنْكَ تزانُ والظاهر هنا أن الشاعر محمد مرزوقي قد أدرج الموقف ضمن رؤية تضع شخصية الراحل أحمد ڨايد صالح في وضع تشريفي رفيع يتمثل في أنه تاج للجزائر وتاج لعزّتها ورفعتها، بل ونجده يتجاوز ذلك في ذات الشطر أن جعل الراحل سر خلقها الأول، في تأكيد على عظمة العلاقة بين الراحل والجزائر تأكيدا يقود إلى أن أي توصيف لهذه العلاقة سيظل دون الاكتمال، وهذا ما نتج عنه ارتفاع شديد في مستوى الصدمة إلى درجة الغيبوبة، يقول الشاعر بلقاسم عقبي]6[: فِي أَعْيُنٍ نَامتْ بِهَا الأَحْزَانُ وَتَفَتَّتْ مِنْ حَرِّهَا الأَبْدَانُ لَمَّا اسْتَفَاقَتْ عَنْ فِرَاقِ عَظِيمِهَا وَتَهَيَّأْتْ فِي ضَمِّهِ الأَكْفَانُ أَسَدٌ تَرَجَّلَ صَهْوَةً فِي عِزِّهِ وَالشَّعْبُ مِنْ أَخْبَارِهِ حَيْرَانُ لَمَّا الجَزَائِرُ زَيَّنَتْ أَفْرَاحَهَا يَا فَجْأَةً أَلْقَتْ بِهَا الأَزْمَانُ استدعاء التاريخ في الرثاء قضية رئيسة، ذلك أن للمرثي محطات ومواقف، وأعمار الرجال تقاس بالمواقف، كما تقاس بالأعمال التي يقدمونها للأمة، وكذلك تقاس أعمار الشعوب، وفي جملة الرثائيات التي بين أيدينا يظهر هذا الاستدعاء بارزا بقوة عند كل الشعراء، فها هو الشاعر محمد مرزوقي يربط الموقف بثورة التحرير المباركة أول نوفمبر 54، حيث يصف الراحل أحمد ڨايد صالح بطلقة العمل التحرري الذي قام بها المجاهدون الثائرون، وهي الطلقة التي عمرت على مدار عقود من الزمن]چ7[: يَا طَلْقَةَ الثُّوَّارِ مِنْ نُوفَمْبَرٍ قَدْ جِئْتَ مَدًّا مِنْ أَشَاوِسَ كَانُوا تحيل المتابعة لمدونة الرثائيات التي كتبت في الراحل أحمد ڨايد صالح تركيز بعض الشعراء على الجانب التاريخي للراحل المتصل بتاريخ الجزائر المجيد، وربما يعود مبرر ذلك إلى مسيرته التي تتميز بخصوبة معطاء وكثافة شديدة بقضايا النضال التي وقعها الراحل بحضوره في ميادين الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، حيث لبى النداء وهو في ريعان طفولته لما دعاه الواجب الوطني، ليلتحق بصفوف المجاهدين في العام 1956، و تشهد له بذلك الكثير من الصفحات المشرقة من تاريخنا المجيد. لتحقيق هذه الوظيفة التعبيرية لجأ بعض الشعراء إلى الاستعانة بالرمز الثوري كالأوراس بكل ما يعنيه من كثافة في مدونة التاريخ الجزائري، وهي الكثافة التي تنكشف على مرونة كبيرة في تصوير هول الصدمة التي وقعها أحمد ڨايد صالح برحيله....يقول الشاعر فريد مرازقة القيسي]8[. أَصِيلٌ مِنَ الأورَاسِ والجُودُ طَبْعُهُ أَبِيٌّ ولَمْ يَعْرِفْ دَنِيءَ التَّطَبُّعِ شَهَامَتُهُ فَاقَتْ حُدُودَ شَهَامَةٍ ولَمْ يَكُ تَبَّاعًا خَسِيسًا ويَتْبَعِ مَوَاقِفُهُ لمْ تَلقَ يَوْمًا تَغَيُّرًا ويَشْهَدُ ذَا التَّارِيخُ أَنْ لَمْ يُزعْزَعِ إلى أن يقول: حَنَانَيْكَ يَا (أَوْرَاسُ) واسِ ومُدَّنِي بصَبْرٍ عَلَى فَقْدِ الفَرِيقِ بِمَصْرَعِ واذا كان الشاعر مرازقة القيسي ربط عظمة الأوراس بمواقف وشهامة الراحل أحمد ڨايد صالح، فإن الشاعر محمد جربوعة يحوّل هذه العظمة إلى روح سارية في المكان النابض بكل مجد وعز وافتخار فيهمس فيها ملتمسا العذر، لأن داوم الحال من المحال، ولأن الإنسان محدود ولا بد من الرحيل]9[: أوراسُ، أعرفُ أنّ المشتكى جللُ لكنْ أعزيكَ، فاصبرْ أيها الجبلُ أوراسُ، دعه قليلا .. إنه تعِبٌ ولم ينم سنةً .. حتى أتى الأجلُ شكلت الحرب التحررية المباركة ضد الاستدمار الفرنسي المرجع الأكبر في تشكيل مواقف الراحل أحمد ڨايد صالح، الذي ظل يتخذ منها راية في مشواره الحياتي، مما انعكس ذلك بصورة واضحة في سلسلة الرثائيات التي بين أيدينا، حيث تبرز وجهة الشعراء في الإفصاح عنها بوضوح تام، كل بحسب ذوقه وأنفاسه الشعرية، فها هو الشاعر الحضري محمودي يحملها من الدائرة الوطن الواحد إلى مستوى آخر تنصب فيه القومية كقيمة تسعى لأن تهيمن على النص]10[.
إيضاحات: 40 يوما مرّت على رحيل فقيد الجزائر، الفريق أحمد ڤايد صالح، الذي توفاه الله صباح، الاثنين 23 ديسمبر 2019، مخلفا وراءه زلزالا هزّ أوساط شعب أحبه، لما فيه من همة ووطنية وحِلم وثبات، في وقت كان أغلب الجزائريين يتوّجسون خوفا من انفلات الوضع السياسي في البلاد إلى ما لا يحمد عقباه. كانت خطاباته الدورية تبدّد ظلمة الخوف في الشعب، وتطمئنه على نفسه وعياله وماله، مؤكدة على أن هذا الوطن في أياد أمينة. في أربعينية القائد وقفة تأمل ورصد مسيرة نضالية تحت عنوان: «بكائية كعبة الشهداء» تنشرها «الشعب» على حلقتين. التحرير