رغم أن الجميع كان يتوقع استخدام روسيا لحق النقض لإجهاض مشروع القرار الذي تقدمت به المجموعة الغربية والجامعة العربية أمام مجلس الأمن لحل الأزمة السورية، إلا أن وقع الصدمة التي أحدثتها النطحة الروسية كان شديدا خاصة على الدول التي تبنت قضية تنحية الرئيس السوري بشار الأسد، وعملت طول الأشهر الماضية على دعم المعارضة والأخذ بيدها قصد إنجاح ثورتها وتتويجها بنهاية سعيدة مماثلة لنهايات الثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية. لقد آثار “الفيتو” الروسي موجة استنكار كبيرة وتهاطلت الإدانات والاتهامات وتباينت بين من يحمّل موسكو مسؤولية دم الشعب السوري الذي سيتفنن بشار الأسد في إراقته دون أن يتمكن أحد من وقف فظائعه التي ترقى إلى جرائم ضد الانسانية، وبين من يأسف للسقوط الأخلاقي الروسي الذي يمنح الضوء الأخضر لدمشق لتصعيد الوضع وتأزيمه ويضع الشعب السوري وحيدا أعزلا أمام رصاص الجيش والأمن والشبيحة، وبين من يعتبر “الفيتو” في مجملها تفويضا للأسد بمواصلة حرب الإبادة التي حصدت خلال ما يقارب السنة ستة آلاف قتيل ومئات الآلاف من المصابين والمعتقلين والمهجرين والنازحين. روسيا: مشروع القرار العربي الغربي لم يكن ليحل الأزمة السورية وبعيدا عن الصدمة التي شكلها الموقف الروسي وردود الفعل المنددة وسيل الاتهامات التي بلغت درجتها إتهام موسكو بمساعدة الديكتاتوريات وحماية الطغاة، فإن هذه الأخيرة استنكرت من جهتها التحامل الغربي والعربي ضدها، وتساءلت في قرارة نفسها، لماذا لم تحدث مثل هذه الضجة على رزمة “الفيتوهات” التي ناطحت بها أمريكا الإرادة الدولية قبل أن تؤكد معارضتها لمشروع القرار الذي طرح للتصويت في مجلس الأمن الدولي، مرتبط بعدة عوامل وأسباب، لعلّ أهمها أن المشروع في أساسه لم يكن يسعى إلى حل الأزمة السورية حلا عادلا منصفا، وإنما كان يقضي بتنحية الرئيس بشار الأسد، وهي سابقة لا يمكن الموافقة عليها بأي شكل من الأشكال.. كما أن المشروع كما تضيف لم يعكس الأوضاع في سوريا على حقيقتها، إذ أنه تجاهل وتستر على العنف الذي تمارسه المجموعات المسلحة التي تهاجم مؤسسات الدولة والمدن وحتى المدنيين لتوريط النظام والإدعاء بأنه من يقتل شعبه. ومعلوم أن مشروع القرار العربي الغربي الذي قوضه فيتو روسيا والصين كان يدعو إلى تنحي الرئيس السوري بشار الأسد، وتسليم سلطته إلى نائبه تماما كما دعت إليه المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية. ولم تكتف روسيا بمعارضة مشروع القرار الغربي العربي، بل طرحت بديلا يحث على الوقف الفوري للعنف في سوريا أيا كان مصدره والدخول في حوار شامل ودعم جهود بعثة المراقبة العربية بعد إعادة تفعيلها، ودفع النظام لمسار الاصلاحات، ودعت إلى وقف تزويد المسلحين والمتطرفين بالسلاح، واستنكرت تعمد تجاهل الجميع لهذه القضية. إذ لم يدحض أحد كما قالت توريد السلاح إلى المجموعات المسلحة التي تسعى للاستيلاء على السلطة في سوريا بالقوة، في حين تبنت العديد من الدول رزمة عقوبات ضد النظام تشمل وقف تزويده بالسلاح. لكن المشروع الروسي لقي رفضا تاما رغم أنه لم يتوان عن إدانة العنف الواسع وانتهاكات حقوق الانسان من قبل السلطات الروسية، طبعا لأنه طالب جميع الأطراف في سوريا بما فيها المعارضة المسلحة بوقف العنف.. قراءات في الموقف الروسي إذا كانت “الفيتو” الروسي قد أثار الكثير من التنديد والاستنكار، فإنه في المقابل فتح شهية المراقبين والمحليين للبحث عن تفسير للموقف الروسي من الأزمة السورية وعن شرح منطقي للدعم الواضح الذي تبديه موسكو للأسد والتي سبق لها وأن استعملت حق النقض في 5 أكتوبر الماضي لإحباط مشروع قرار عقابي ضده. وإذا كانت بعض القراءات تحصر دوافع الموقف الروسي في عامل المحافظة على مصالحها الاقتصادية والجيواستراتيجية والعسكرية، فإن قراءات أخرى تعتبر موقف روسيا من الأزمة السورية، يعكس بوضوح تمسكها وإصرارها على استعادة دورها المؤثر على الساحة الدولية كما كانت في عهد الاتحاد السوفياتي العملاق، وعزمها على إعادة بناء الثنائية القطبية حتى تعيد بعض التوازن للعالم وتكبح جماح الأحادية القطبية. ويقول العديد من المراقبين، أن روسيا التي لا تخفي دعمها لنظام الأسد والتي جعلت من حق النقص جدارا منيعا لحمايته، لا تفعل ذلك من أجل سواد عيونه، بل حرصا على مصالحها في سوريا وتمكسها بنفوذها في هذه الدولة العربية التي ظلت حلقتها منذ العهد السوفياتي، وخوفا من أن ينسف الذي سيأتي بعد الأسد برج الشراكة الذي بثته في سوريا. وبلغة الأرقام وبميزات الربح والخسارة كما يضيف هؤلاء، فإن روسيا مجبرة على حماية نظام الأسد لأنه يشتري منها السلاح والمعدات العسكرية، ويفتح لها أبواب الاستثمار واسعة إذ بلغت 20 مليار دولار، كما تقدر الصادرات الروسية إلى سوريا وفق بيانات سنة 2010 مليارين ومائة ألف دولار، ومعلوم أن موسكو وقعت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي إتفاقية مع دمشق أسقطت من خلالها 75٪ من ديون سوريا للاتحاد السوفياتي السابق والنسبة المتبقية حولتها إلى استثمارات في أرض الشام. كما تتولى روسيا العديد من مشاريع البنى التحتية في قطاع الغاز والنفط السوريين وأيضا بناء محطة نووية. الحفاظ على القاعدة العسكرية بطرطوس وبالإضافة إلى المصالح الاقتصادية التي تتمسك بها ولا تريد التفريط فيها بالمجازفة بقبول تغيير النظام في دمشق، تتمسك موسكو أكثر كما تشير العديد من القراءات بمصالحها العسكرية في سوريا، والتي تتمثل في حجم مبيعاتها من الأسلحة والعتاد العسكري، وقد إزداد الطلب السوري على الأسلحة الروسية مع قرارات الحظر التي أقرتها العديد من الدول الغربية من السنة الأخيرة على النظام السوري لإرغامه على التنحي، كما تتمسك روسيا أكثر بقاعدتها العسكرية في ميناء طرطوس، وهي القاعدة الوحيدة للأسطول الروسي خارج الأراضي الروسية، وسقوط نظام الأسد الحليف قد ينهي الوجود العسكري الروسي ويصيب نفوذه من مفصل. بين المقايضة والابتزاز وفي حين تربط القراءات السابقة الموقف الروسي الداعم لنظام الأسد يحرص موسكو على صيانة مصالحها ونفوذها في هذه الدولة الحليفة، فإن قراءات أخرى تعتقد بأن روسيا تلعب على الحبلين، وتستغل ما يجري في بلاد الشام لخدمة أهدافها وتحقيق مآربها، حيث تعتبر حسب هذه القراءات المستفيد الأكبر من تمديد عمر الأزمة السورية وإجهاض مشاريع حلها حتى تبيع الأسد كميات ضخمة من السلاح وتحقق مكاسب مالية ضخمة، كما أن إصرارها على مناطحة الإدارة الدولية كما تضيف هذه القراءات، إنما هي مواقف استعراضية مبنية على مبدأ الإبتزاز والمقايضة لتحقيق أهداف أكبر وأهم، كالدخول إلى منظمة التجارة العالمية وما تجنيه من وراء ذلك، أو لمنع أمريكا من بناء درعها الصاروخية في حديقتها الخلفية، ودليل هؤلاء، أن موسكو غالبا ما تعارض القرارات الدولية في البداية لكنها في النهاية تؤيدها أو تلتزم الصمت، كما فعلت عندما أيدت القرار رقم: 1973 الذي قضي بضرب ليبيا، وعدم تحركها الجدي لمنع إحتلال العراق. نحو إعادة الثنائية القطبية وبعيدا عن المتحاملين المشككين في نزاهة ومصداقية الموقف الروسي، هناك من يتمسك بدافع آخر يعتبره محركا لحرص موسكو على الوقوف بوجه مشروع تنحية الرئيس السوري، وهذا الدافع يتجسد في معركة البحث عن دور عالمي وإثبات أنها عضو فاعل وموثر على الساحة الدولية، ومسعى حثيث لترميم التآكل الذي لحق بصورتها كدولة قوية لها وزنها على المستوى الدولي. ومن خلال ذلك مسعى لإعادة الثنائية القطبية ومحاربة هيمنة القطب الواحد، وإنهاء المرحلة التي أصبحت فيها ملحقة بالقرار السياسي الأمريكي بعد أن استعادت عافيتها الإقتصادية ومكانتها الاستراتيجية. ولا يمكن أن نختم القراءات المختلفة المتعلقة بالموقف الروسي من الأزمة السورية، دون ذكر القراءة التي تشير إلى أن بوتين تمسك بموقفه دون تنازلات أمام الضغط الغربي والعربي حتى لا يبدو سياسيا ضعيفا في عيون الناخبين قبل أسابيع من الرئاسيات التي يعتقد بأن تنحيتها في جيبه. ومهما اختلفت الرؤى حول حل الأزمة السورية ومهما تصادمت وجهات النظر، فالوضع الذي يعيشه الشعب السوري يحتم على الدول الصامتة، أن تأخذ زمام المبادرة وأن تبحث عن حلول أخرى مبنية على جمع الفرقاء في سوريا حول طاولة مفاوضات للبحث عن مخرج يحفظ الدم السوري ويصون وحدة سوريا وإمكانياتها بعيدا عن لغة السلاح والشقاق التي ستطيل أمد الأزمة ومعها قوائم الضحايا.