أكد كمال شاعو، أستاذ تاريخ الحضارات، أن أعمال الفنانين المستشرقين اتسمت بجمالية فنية عالية أثارت انتباه كل المهتمين، موضحا أن الاحتلال الفرنسي راهن عليهم لنشر الأفكار الاستعمارية وتسهيل عملية السيطرة على السكان، مشيرا إلى أن القليل من هؤلاء الفنانين من كانت نيتهم رسم واقع الجزائريين دون تشويه وتحريف، داعيا المختصين إلى تحليل وتقديم قراءاتهم الفنية لهذه الأعمال ونشرها، حتى يتمكن الجميع من التعرف على خلفياتها والمغزى من رسمها. قمتم ببحث عن الفنانين المستشرقين الذين كان لهم تواجد في فترة معينة من تاريخ الجزائر، كيف جاءتكم فكرة البحث والاهتمام بأعمال المستشرقين؟ اهتمامي بفن المستشرقين يعود إلى السنوات الأولى التي قضيتها في المدرسة العليا للفنون الجميلة منذ 1983، بحيث أثارت أعمالهم الفنية المختلفة انتباهي وإعجابي، أين كان هناك من الرسامين بالمدرسة من كانوا يهتمون بهذه الأعمال، فانتابني شعور بالدهشة لجمالية تلك اللوحات والرسومات جعلتني ابحث واغوص في دواخل تلك الأعمال، من حيث المواضيع والأدوات المستعملة وسر اختيار الألوان، هذا الاهتمام سمح لي في الأخير باكتشاف أمور كثيرة، تخفيها تلك اللوحات التي أنجزها فنانون أجانب عايشوا فترة عصيبة من تاريخ الجزائر تحت نير الاحتلال الفرنسي، وتوصلت في الأخير إلى استنتاج عام بعد دراسات معمقة في تاريخ تلك الفترة، بان هذه الأعمال التي كان يقوم بها مستشرقون لم تكن سوى شكل من أشكال الاستعمار، أي أن لها دوافع وأهداف رسمتها سياسة المحتل خطط لها خدمة للاستيطان، الذي كان احد أولويات الإدارة الاستعمارية في منتصف القرن 19، ثم محاولة طمس الهوية الجزائرية وجر السكان إلى صفهم. عندها تساءلت عن درجة تفطن السكان لهذه المخططات آنذاك، وسر اهتمام هؤلاء الفنانين بالعادات والتقاليد الجزائرية، الذي استمر مدة قرن أي إلى غاية 1930 أنتجوا عدة لوحات ورسومات كان لها صدى عالمي. ما هو الغرض الأساسي من بحثكم هذا؟ تلك الأعمال كانت تحمل رسائل معينة تستدعي تعمقا وتحليلا، وهذا هو غرضي من البحث الذي قمت به، فقليلون آنذاك كانوا يعلمون أن الاستعمار اتخذه كوسيلة دعاية لفكره واستمالة السكان وجعلهم ينسلخون عن هويتهم، إذ وللوهلة الأولى عندما تأملت لوحات للمستشرق “إتيان ديني” وآخرين نالت إنتباهي، لأنها تميزت بجمالية وجاذبية تشد الناظر إليها عبر ألوان وأشكال تحاكي الطبيعة وفيها جمالية، لكن عند تمعني فيها أكثر لاحظت أن هناك مغالطات عديدة وان الكثير منها رسمت من طرف فنانين نيتهم كانت سيئة مغطاة بغطاء الشكل واللون الجذاب. حسب بحثكم ما هي الأشياء التي ركز عليها المستشرقون في استمالة السكان؟ حاولت فرنسا منذ أن وطأت أقدامها ارض الجزائر 1830 اجتثاث الهوية والشخصية الوطنية عبر خطة محددة، بدءا بالقضاء على اللغة ثم المظهر والملبس لاستبدال هذه الأزياء المحلية بأخرى غير محتشمة، إذ عملت فرنسا جاهدة للقضاء على عاداتنا وتقاليدنا ثم حاولت بعد ذلك أن تؤثر على السكان من خلال الفن بصفة عامة والتشكيلي بصفة خاصة، عبر أعمال في فن المنمنمات، الخزف والزخرفة بأنماط جديدة عرفت خاصة في فترة الحاكم العام الفرنسي “شارل جونار”، في السنوات الأولى من القرن العشرين وبالتحديد بين 1906 “ 1907، وهنالك بعض الأعمال مازالت شاهدة إلى اليوم على تركيز الفرنسيين على الفن التشكيلي، ومنها الزخرفة الإسلامية، وهذا ما نجده مثلا في بعض البنايات التي بقيت إلى يومنا محافظة على زخرفتها القديمة، كالبريد المركزي هذه البناية التي تضم منحوتات إسلامية أندلسية تؤكد مدى درجة تأثر المستشرقين بالزخرفة الإسلامية. وهل كل الفنانين المستشرقين الذين تواجدوا بالجزائر فرنسيون؟ اغلبهم فرنسيون الذين عملوا فيما بعد على جذب فنانين جزائريين إلى صفهم وبمساعدة بعض الفنانين الأوروبيين، الذين عايشوا تلك الفترة ومنهم فنانون بارزون، وكلهم تأثروا بسحر وطبيعة الجزائر وعادات سكانها واعترفوا بجمالية الفن الإسلامي، لكنهم كانوا ينجزون أعمال تبرز وتظهر الاستعلائية التي كانوا يتميزون بها من باب أنهم أكثر تحضرا، وان فنهم أحسن والتركيز في لوحاتهم على سلبية وضعف العربي المسلم، لزرع الشك وتسهيل السيطرة على السكان واستمر الحال إلى غاية الاستقلال سنة 1962. قلتم أن الاستعمار الفرنسي راهن على المستشرقين لتسهيل السيطرة وبسط النفوذ، هل كل أعمالهم كانت تخدم هذه السياسة؟ ليس كل أعمال المستشرقين الفنية كانت سلبية، فحسب البحث الذي قمت به توصلت إلى أن هناك مستشرقين فرنسيين أو من جنسيات أوروبية أخرى من أنجزوا أعمال واقعية وموضوعية، رسموا واقع السكان وطبيعة البلد دون تحريف أو تشويه، لكنها كانت قليلة بالمقارنة مع تلك الأعمال الفنية التي تخدم الوجود الفرنسي بالجزائر، وهي واضحة وظاهرة تستلزم فقط نوع من التأمل والتدقيق فيها للتأكد أنها مغالطات للباس الجزائريات والجزائريين ولعاداتهم وتقاليدهم بصفة عامة. ما هي الأشياء التي تميز هؤلاء الفنانين؟ كل الفنانين والرسامين المستشرقين كانوا يتقنون اللغة العربية والفارسية وتعمقوا في البحث عن كل ما له علاقة بالإسلام، مع التركيز على معرفة السلبيات الموجودة في المجتمعات العربية والإسلامية ومنهم المجتمع الجزائري، الذي وضعوه تحت المجهر ودرسوا تفكيره وارتحلوا في عدة مناطق من الوطن، للتعرف على كل كبيرة وصغيرة تخص الحياة اليومية للسكان والتدقيق في كل شئ، ويركزون كما قلت على نقاط الضعف والسلبيات لوضع الجزائري في صورة غير مشرفة، خاصة فيما يتعلق باللباس والسلوكيات العامة. وفي بعض الأحيان يمزجون العادات والتقاليد الجزائرية بأخرى شرقية، كالتركية مثلا بلوحات كأنها بطاقات بريدية تعتبر دعوة لزيارة الجزائر، ومن ثم استيطانها أي بمعنى أدق التشجيع على الاستيطان، كتصوير مثلا المرأة الجزائرية غير محتشمة في وضع غير لائق من قبيل ترغيب الفرنسيين بصفة خاصة والأوروبيين للقيام بزيارة مناطق الجزائر، إذ كانوا يلعبون على وتر العادات والتقاليد والدين ومقومات الشخصية الوطنية الجزائرية. كيف بدأت علاقتهم بالجزائر؟ اغلبهم رافقوا الجيش الفرنسي في غزوه للجزائر في 1830 وهنالك من جاء للجزائر فيما بعد عندما اطلعوا على المشاريع الثقافية التي تريد فرنسا تجسيدها في مناطق معينة، ومنهم من لم يزر الجزائر ولو مرة واحدة، ولكنهم قاموا بانجاز لوحات استشراقية حسب مذاقهم وميولاتهم الشرقية، وحسب ما اطلعوا عليه في مختلف المحافل والمعارض في فرنسا، كما أن هنالك لوحات أعيد رسمها عدة مرات مثل لوحة “نساء الجزائر” ل”دو لا كروا” أعاد رسمها عدة فنانين آخرين في قوالب جديدة، ونالت شهرة كبيرة عندما عرضت في معرض دولي بباريس، ركزوا فيها على المرأة الجزائرية رسموها في أوضاع مخزية. وهناك من ولدوا بالجزائر أي بعد أن استوطنت عائلات فرنسية الجزائر، وهناك من كان ينتقل بين الجزائروفرنسا خاصة في فصل الصيف وكان الجنوب وجهتهم المفضلة في فصل الشتاء، وهناك من المستشرقين من ترك الرسم وتحول إلى الكتابة. حدثنا عن مرحلة ما بعد 1930؟ بعد 1930 تخلى الفنانون عن الأعمال الواقعية وأصبح الفن التجريدي هو السائد، أي ان الاستشراق الفني الذي يعتمد على الواقعية ويحاكي الطبيعة من حيث الألوان والمواضيع والمضمون اندثر بعد ذلك. هذه المرحلة عرفت ظهور وبروز عدة فنانين جزائريين تتلمذوا على يد فرنسيين، من بينهم مستشرقون وبقيت نفس السياسة المنتهجة من قبل الاحتلال باستخدام الفن التشكيلي كوسيلة للتأثير على السكان، وحتى الفنانين الجزائريين الذين برزوا آنذاك لم يكون أحرار في انجاز أعمال، تصور مثلا همجية الاستعمار وجرائمه المتواصلة في حق الجزائريين، إذ مورست عليهم ضغوط حتى لا يستخدمون الفن التشكيلي لمواجهة الاحتلال، فمدرسة الفنون الجميلة آنذاك كانت تحت إدارة فرنسية والذين التحقوا بها تتلمذوا على يد أساتذة فرنسيين، وكان مسؤولو هذه المدرسة يجرون فحصا دقيقا على الملتحقين بها، ولا يسمح لمن يشتبه فيهم بمناهضة الاستعمار بالدخول والالتحاق بالمدرسة، لان معاداة الاستعمار ورسم لوحات فاضحة لممارساته كانت خطا احمر بالنسبة للإدارة الاستعمارية. قراءة هذه الأعمال هل تتطلب جهد معين؟ هي أعمال واقعية بمجرد التأمل فيها والتمعن في رسوماتها يمكن التحقق من معانيها، والأشياء التي تخفيها والأهداف التي يسعى من خلالها المستشرقون الوصول إليها، لان هؤلاء الفنانين ميزاتهم الخاصة التعامل مع ما هو واقعي أي محاكاة الطبيعة عن طريق الصورة واللون بأشكال ومواضيع مختلفة وذات مدلولات ومضامين، تعكس ما اكتشفه الفنان داخل محيطه. مثل لوحة “إتيان دينيه” التي صور فيها المرأة النايلية، فمن يشاهد تلك اللوحة سيعرف مباشرة أنها للنايلية بلباسها التقليدي المعروف للعام والخاص وهي تؤدي رقصة من رقصات أولاد نايل. بالمقابل الفن التجريدي تتميز أعمال فنانيه بكونها أشكال ورسومات مبهمة، لا يُعطى لها القالب اللوني الذي يظهر جليا للعين المجردة. هذه أعمال مازالت موجودة لحد الآن، هل ترون ان اللوحات التي عمد فنانوها تشويه عاداتنا وتقاليدنا يجب التخلص منها؟ بالعكس لابد من المحافظة عليها، وأنا أطالب كل المهتمين والباحثين بالقيام بتحليل فني لهذه اللوحات لمعرفة المبهم والخفي فيها، والتي قد تعطينا فكرة عن المراحل التي ميزت تلك الفترة ثم نشرها لكي تتعرف عليها كل الأجيال، فتلك الأعمال تبقى شاهدة عن فترة تاريخية مليئة بالتضحيات ضد الاستعمار، وهي تعبر بصدق عن استعمال المستدمر لكل الوسائل المتاحة، بما فيها الفن التشكيلي لطمس الهوية الوطنية، ورغم تلك المحاولات بقي الجزائري محافظا ومعتزا بهويته وثقافته وتبقى تلك اللوحات مصدرا للكثير من الخبايا للمؤرخين وحتى للفنانين. وهي مازالت موجودة في عدة متاحف من الوطن منها متحف الفنون الجميلة، إذ يوجد رواق يضم أشهر لوحات المستشرقين والتي تركتها فرنسا ومنها من احتفظ بها بعض الجزائريين. ما هي رسالتكم التي تودون أن تختمون بها حوارنا هذا؟ ما أود أن أقوله هو دعوة للفنان الجزائري لكي يحافظ على رسالته النبيلة وهي خدمة الثقافة الجزائرية، بعيدا عن التأثيرات التي تأتي من هنا وهناك، وان يضع في مخيلته انه مسؤول أمام كل الجزائريين على ما يرسمه، لان نجاح كل فنان يرتبط بمدى مراعاته لخصوصيات وطنه وهذا لا يعني انغلاقه فالفن لغة عالمية والانفتاح على الآخر مهم جدا، لكن يبقى الهدف الأسمى هو الحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا ولما لا نشرها عالميا.