الأحداث السياسية الدولية المتسارعة لا ينبغي أن تحجب عن الأعين الأزمة المالية الحادة والمؤلمة التي تعصف باقتصاديات اليونان، إلى درجة الانهيار الكامل نظرا لما خلّفته من آثار سلبية على الجوانب الإجتماعية خاصة. وعليه لا يجب أن ننسى أو نتناسى عمّا يجري في اليونان، وهذا عندما وصل هذا البلد إلى حافة الإفلاس، ولم تشفع له أي جهة خاصة الأوروبية منها التي تطالبه يوميا بتعميق الإلتزام في تطبيق البرنامج التقشفي. وبظرة متفحّصة إلى التعهدات “المفروضة” على اليونان من قبل ما يسمى بالترويكا الدولية، نستشف حجم المأساة التي يريد البعض أن يدرجها تحت عنوان “الاقتصاد”. هذا غير صحيح، ومجرد فخ وقع فيه هذا البلد، وأصبح بموجبه مصفدا لا يتمتّع بأيّ هامش للحركة والقرار. نقول هذا من باب أنّ الملف اليوناني يريد البعض أن يدحرجه إلى المراتب الأخيرة، بحكم المستجدات على الصعيد العالمي كالمسألة الإيرانية والسورية، إلاّ أنّه لا يعقل أبدا أن نتغاضى الطرف عمّا يجري في اليونان لأنّه النموذج الحي، والعيّنة الملموسة لمدى “وحشية” المؤسسات المالية الدولية التي لا ترحم أي طرف عندما يتعلق ببلد يعاني ضائقة مالية، وبدلا من مساعدته على تجاوز محنته تركته يتخبّط في حلول غير نابعة بتاتا من قناعة حكومته. ولأول وهلة يتّضح بأنّ البرنامج التقشفي المطروح على اليونان قد يسبّب لهذا البلد مشاكل عويصة، من بينها زعزعة السلم الاجتماعي وضرب الاستقرار العام، وإلاّ كيف يفسّر المطالبة بإلغاء أي زيادة تلقائية في المرتبات والتوفير في ميزانية الدولة من خلال تخفيض نسبة العجز وفق سقف محدّد مسبقا يتبع مسار منح القروض وآجالها. بالإضافة إلى تخفيض نفقات قطاعي الصحة والدفاع، ومحو 500 منصب لعمداء البلديات، وتقليص ما نسبته 10 ٪ من مرتّبات المواطنين، والاستمرار في برنامج خوصصة القطاع العمومي، وعرض مؤسساته للبيع، وشطب 15 ألف موظف حكومي، زيادة على التصرف في الحد الأدنى من الأجور، وعلاوات التقاعد. هذه المحاور الكبرى لما يسمى بخريطة الطريق، التي أعدّت لحكومة لوكاس بابا ديموس قصد الخروج من دائرة الأزمة الحالية التي تعصف ببلده. ولا يسعنا هنا إلاّ القول بأنّ ما يسمى بالترويكا الدولية أغلقت عن القيادة اليونانية باب تسيير البلد وفق التصور الذي جاءت به، إثر إزاحة رئيس الوزراء السابق بابا ندريو عندما أراد استفتاء الشعب اليوناني في كل القرارات المزمع أن يتّخذها كردّ على الضغوط الأوروبية خاصة. وقد كلّفه ذلك ترك منصبه كونه أدرك أنّ الأمور ليست بالشيء الهيّن والسهل، بل أنّ المسألة تتعلّق بمصير شعب لا يقدم على أيّ “إجراء” دون معرفة رأيه، ناهيك عن التماطل الذي سجّل بخصوص الإعانة المالية المقدّرة ب 130 مليار أورو، لم تسرح إلاّ بعد أن قبل ووافق بابا ديموس وكل أطياف المشهد الحزبي على ما جاءت به الترويكا. من هنا كان المنعطف الحاسم في مسيرة اليونان. والنقاش اليوم يجب أن يتجاوز إطاره التقني، لينتقل إلى تلك القراءة السياسية المبنية على الولوج في خلفيات إبقاء بلد تحت وطأة إجراءات سميت بالتقشفية، في حين أنها مسّت صميم سيادة بلد بأكمله وضع تحت المجهر، والمتابعة الصارمة لكيفية التصرف في سياسته الاقتصادية. وفي هذا الشأن، اقترح البعض أن ينتدب مسؤول أو خبير مالي أوروبي لمراقبة الميزانية اليونانية وكيفية إعدادها.وأولى الملاحظات التي تستدعي أن يقف عندها المتتّبعون هي أنّ حكومة بابا ديموس أمام جبهات مفتوحة لا بداية ولا نهاية لها، هناك الجبهة الخارجية وهي حزمة من الالتزامات صادرة عن صندوق النقد الدولي والدوائر المالية الأوروبية، والدائنين الخواص...هؤلاء منحوا قرضا لهذا البلد، لكن في المقابل أرفقوه بتدابير صارمة وضمانات معينة في حالة لم يف الغرض المطلوب منه، فهناك بدائل استعجالية أخرى. أمّا الجبهة الداخلية فهي الأخطر، يكفي فقط إطلالة أولية على تلك الإجراءات الواردة في برنامج التقشف لتتأكد بأنّ كل القطاعات الحيوية في اليونان توجد تحت طائلة القرار الخارجي، ولا يمكن لهذا البلد أن يتصرّف في أي مسعى تنموي يريد أن يبادر بتحريكه، كل شيء خاضع لأمزجة الأوساط المالية الخارجية، والأخطر هنا هو أنّه مع مرور الوقت يشعر اليونانيون بأنّهم عرضة لسلوكات مخيفة تنعكس على أوضاعهم الاجتماعية. والمؤشّرات الحالية توحي بأنّ الأيام القادمة ستكون صعبة جدا على اليونان، كونه يواجه وضعا معقّدا للغاية، ولم يجد من “يواسي حالته” المحرجة. كل الجهات تشدّد عليه الخناق وتطالبه بإنجاز المستحيل، وهو في حالة يرثى لها لا يحوز على أي عنصر يسمح له بتغيير أوضاعه باتجاه الأفضل، حتى وإن منحوا له “أموال قارون”، فإنّه من المستحيل الانتقال إلى آفاق رحبة وواعدة. تحت كل هذا الضغط المتواصل منذ السنة الماضية عندما اهتزّت منظومته المالية بشكل مفاجئ، وقد حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكنه لم يستطع نظرا للرفض القاطع الصادر عن المجموعة الأوروبية، التي هدّدته بفصله من عضوية منطقة الأورو إن أراد أن يستنير بالحلول الداخلية، وهو الآن رهين نصائح وأوامر ساركوزي وميركل، ومراقبة دقيقة للمؤسسات المالية الأوروبية.