ينتظر أن توقع الجزائر مع الشركة الفرنسية للسيارات " رونو " خلال الأيام القليلة المقبلة اتفاقا نهائيا لإطلاق مصنع ينتج في مرحلة أولى 25 ألف سيارة سنويا . المصنع المنتظر أن يبدأ في الانتاج وسط العام 2013 يأتي بعد تجربة طويلة من الشراكة الأجنبية لم تفض لحد الساعة الى تسويق أي منتوج ذي مكون جزائري عدا ما تحقق في قطاع المحروقات بين شركة " سوناطراك " الجزائرية وشركات أمريكية وبريطانية . وظلت فرنسا تطور حضورها في قطاعات : الخدمات ، التكوين وتسيير المياه في أجواء تفاوضية ظلت دائما منتصرة للرأس المال الجزائري ولمواقف الحكومة الأكثر تشددا عند التفاوض . فما الذي تغير حتى رضيت شركة " رونو " بخيار الاستثمار في الجزائر بعد 5 سنوات من ابداء النية ، وعامين من بدء التفاوض ؟. قبل سنة خلت يأتي اتفاق الاطار بين الحكومة الجزائرية وشركة " رونو " بعد مضي عام واحد بالضبط من تاريخ انعقاد منتدى رجال الأعمال الفرنسي الجزائري في 31 ماي 2011، وهو المنتدى الذي أعقب زيارات متكررة للمبعوث الفرنسي " رافاران " الى الجزائر رفقة ممثلي شركات فرنسية وصل عددها الى 150 شركة . في تلك الفترة كانت المفاوضات بشأن اطلاق مصنع للسيارات من طراز " رونو " تشرف على عامها الأول دون أن تتمكن الأطراف المعنية من تجاوز نقاط الخلاف ، وهي نقاط ذات علاقة مباشرة بميزان القوى التجاري بين الجزائر وباريس . فللجزائر يومها أوراق قوية لصالحها منها أن الاجراءات التي اتخذتها الحكومة منذ 2009 في جانبي الشراكة الأجنبية والتجارة الخارجية قد أفرزت ضغوطا جديدة على الشركات الفرنسية التي فقدت 50 بالمائة من حصتها التاريخية في السوق الجزائرية لتستقر عند 20 بالمائة من إجمالي مشاريع الشراكة الأجنبية - ولو أنها لازالت تستحوذ على 50 بالمائة من إجمالي الشراكة مع الاتحاد الأوربي ولو برقم بسيط من الشركات لا يتعدى 450 شركة - وإذا أضفنا الى ذلك استراتيجية كل من أمريكا والصين والهند في العمق الافريقي من خلال مبادرة "فرص الشراكة الأمريكية وشمال افريقيا - نابيو " التي أطلقت من الجزائر في ديسمبر 2010 والشراكة الافريقية الهندية التي أطلقت في ماي 2011 من أديس أبابا، وقبلها الشراكة الصينية الافريقية، إذا احتسبنا ذلك كله ، فإن الطرف الفرنسي كان في مرحلة فقدان عديد النقاط على سلم الشراكة مع الجزائر . ولكن وفي نفس الوقت وفي مجال صناعة السيارات اكتسبت " رونو " ميزة تنافسية ونسبية بعد أن لامس الانتاج في فرعها بالمغرب سقف 400 ألف سيارة سنويا أي أكثر من اجمالي الطلب الجزائري على سوق السيارات بمائة ألف وحدة ، ولولا الحواجز الادارية بين البلدين المغرب والجزائر لاستغنت الشركة الفرنسية تماما عن مشروعها بالجزائر لسبب واحد يتعلق بكلفة الانتاج وموقع المصنع المغربي - الفرنسي غربي ضفاف المتوسط . هل تغيرت المعطيات اليوم ؟ نقطتان للخلاف ظلتا تقودان المفاوضات الفرنسية - الجزائرية بشأن مصنع " رونو " بالجزائر طيلة السنتين السابقتين : حجم الانتاج ، موقع المصنع . فالجزائر ظلت تراهن على ربع الطلب الداخلي أي على 75 ألف وحدة سنوية ، وعلى دعم التنمية الجهوية من خلال نشر التكنولوجيا خارج المدن الكبرى . وتمسكت " رونو " بموقع الرويبة أو وهران أو عنابة ، وأن يأخذ حجم الانتاج في الاعتبار مستوى انتاج فرع المغرب خاصة وأن تطبيع العلاقات السياسية بين المغرب والجزائر سيفضي الى الاستفادة من المزايا النسبية وباتالي إلحاق جزء من السوق الجزائري بفرع " رونو" في طنجة المغربية . وفي آخر المطاف ، يبدو أن الرأي الفرنسي هو الذي سبق . فقد افتكت " رونو " الهدفين معا : تقليص هدف الانتاج الى 25 ألف سيارة سنويا قابلة للزيادة مما يدعم القدرة التصديرية لفرع " طنجة " ، وتحويل موقع الانتاج المفترض من المنطقة الحرة " بلارة " في جيجل الى " مستغانم " مما يتماشى مع الهدف التسويقي للشركة الفرنسية في غربي المتوسط بدل الشرق . والذي أدى الى هذه النتيجة في رأيي هو تغير المعطيات السياسية والتجارية في محيط بلادنا على النحو التالي : أولا : تراجع الأهمية الاستراتيجية لاطلاق فرع " رونو " بالجزائر في آفاق تطبيع العلاقات التجارية بين الجزائر والمغرب والشروع في قطف المردودية الاقتصادية للطريق السيار شرق - غرب ، مما يخدم فرضية تحول السوق الجزائرية الى هدف تسويقي لفرع الشركة بالمغرب بدل اقامة مصنع كبير بالجزائر . ثانيا : تضاؤل فرص الشراكة الأجنبية مع كل من الهند والصين وأمريكا بسبب أزمة الديون السيادية في اليوروزون مما ضغط أكثر على الاستثمارات الداخلية في تلك الدول ورفع من نسبة العائد على الاقتراض أي على المصدر الرئيس للتمول بالنسبة لشركات صناعة السيارات مما عدل في خطط الانتاج لشركات تلك الدول للمدى المتوسط . ثالثا : اتجاهات سوق النفط نحو انحدار الأسعار تحت ضغط الركود في الدول الصناعية والصين وتراجع الوظائف في أمريكا حيث فقد خام البرنت في الأسبوع الأخير 22 دولارا لينزل الى 99 دولارا للبرميل ، ويتجه نفط خليج الأمس منذ أمس الأول الاثنين الى مستوى 80 دولارا للبرميل ، مما يعمق من عجز موازنة الحكومة الجزائرية للسنوات المقبلة وبالتالي يحد من قدرة الحكومة على حفز الطلب الداخلي الكلي بما في ذلك الطلب في سوق السيارات الذي يبلغ حاليا 300 ألف سيارة سنويا ، وهو ما يضعف من القدرة التسويقية للمنتج . رابعا : تزايد المخاوف الجيو أمنية في منطقة الساحل بعد تفاعل الوضع في شمال مالي مما يحد من التوقعات بشأن أرباح الشركات للمدى المتوسط والبعيد ، خاصة وأن الشركات الفرنسية كانت المتضرر الأول من تطورات الوضع الأمني في تونس - بعد سقوط نظام بن علي - بفقدان أكثر من 400 شركة ومعها آلاف الوظائف . حقيقة للاقتصاد حساباته كما هي السياسة ، ويبدو أن سقف طموحات " رونو " في اطلاق فرع للجزائر قد نزل ، ليواكبه سقف مطالب الحكومة الجزائرية ، ليلتقي الطرفان على اتفاق اطار يلخص لنا أقل الشروط : انتاج سنوي يبدأ من 25 ألف سيارة بدل 75 ألف . وموقع في محيط مدينة مستغانم الساحلية عوضا عن منطقة بلارة الممتدة في الداخل الجيجلي الغني بجماله .