على أمل تشييد دولة حق وقانون تصون كرامته وتعلي كبرياءه قام المواطن العربي بشل الساحات والشوارع، مصرا على إسقاط قادة تفردوا بالسلطة عقودا من الزمن وسخروها لخدمة مصالحهم ومن حاذاهم من الزبانية، وإرضاء حكومات القوى الدولية الكبرى قصد الحصول على صكوك الغفران والمكوث في سدة الحكم سنين طويلة. لكن آمال مفجري الثورات التي لقبت بمسميات عديدة أكثرها استهلاكا “الربيع العربي” تعطلت مباشرة بعد أن شيعت كل حاكم من هؤلاء إلى زاوية مظلمة من تاريخ أمته، ولم تحمل مرحلة ما بعد الثورة أي مؤشرات تدل على أن إرادة الشعب تسير بخطى واثقة إلى التجسيد ما عدا تنظيم انتخابات وصفت بالنزيهة على أكثر من صعيد في مصر وتونس، أوجدت من اختارهم الصندوق أمام تحديات كبرى لمقاومة عوامل التعطيل والإفشال الداخلي والخارجي. وبرزت بعد كل هذه المدة على نجاح أولى الثورات مخاوف جمة على مستقبلها وأهدافها التي رسمتها نية الشعب في إحقاق العدالة والقانون وفرض حقوق الإنسان وإقامة مشروع وطني نهضوي يؤمن للإنسان العادي رغيف الخبز ويقلل من الأرقام المذهلة لأعداد الفقراء ومنه الامتداد لسواد تنمية شاملة، للارتقاء بالدولة إلى مصاف طموحات مواطنيها. نجمت هذه المخاوف من ممارسات النخب السياسية التي نصبت نفسها قائدة لحركة التحرر من الأنظمة المستبدة وسرعان ما تفرق صفها بمجرد انطلاق السباق إلى كراسي المجالس التأسيسية والشعب وكرسي الرئاسة، وانحصر الاهتمام كله على من يخلف النظام البائد فيما تم تهميش باقي الحوائج الاقتصادية والاجتماعية التي لازلت مخالبها تنهش المواطن، وهذا ما يحدث في البلدان التي انتهجت طريق التغيير السلمي (تونس، مصر، اليمن)، أين ظهرت ديمقراطية هشة وغير مستقرة، ما تفتأ تذكر ببعض ممارسات النظام السابق، بل والأدهى أنها خلفت حالة من اليأس في نفوس الكثير من التواقين إلى واقع أفضل، وهو ما كشفته بعض الاستطلاعات حين اعتبرت فئة واسعة أن العهد السابق أفضل من الحالي الذي تسوده الفوضى والخلافات الناجمة عن صراعات التشكيلات السياسية ذات الاتجاهات الإسلامية والعلمانية والوطنية والقومية التي تتغنى كلها بالثورة وأهدافها، وتطالب بحقها في السلطة، ولما مالت الكفة إلى الإسلاميين الذين يعتقدون أن الزمن أنصفهم، طفى الى السطح نقاش حاد في الداخل والخارج على ممارساتهم، وعلى تشعب مذاهب ورغبتهم في جعل الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع، ولم يتوان حينها أراء المحللين الغربيين وخاصة الإسرائيليين بوصف هذا الحراك بالربيع الإسلامي وكانت مطية لتدويل الشؤون الداخلية للبلدان المعنية. وإن كانت الطبقة السياسية الجديدة التي اختارها الشعب تهوّن من حالة الفوضى والانفلات الأمني والنزاعات المذهبية، كون الأمر لا يعدو سوى أن يكون ارتدادات تقتضيها كل مرحلة انتقالية، واتهامهم لفلول النظام السابق التي مازالت تسيطر على أغلب المؤسسات وبقيت متجدرة في الواقع الاجتماعي، إلا أن الاهتمام بدواليب الحكم فقط وعدم إبداء الاستعداد الكافي للتكفل بالانشغالات السريعة للمواطن العادي لم يشفع لها لدى القاعدة الشعبية التي سحبت من تحتها بساط الثقة، ووصول محمد مرسي إلى رئاسة مصر بأقل ربع أصوات الناخبين وتقارب نسبته مع نسبة منافسيه أحمد شفيق كان نتيجة لإنقسام الشارع المصري الذي وجد نفسه مخيرا بين أحد رموز حسني مبارك أو مرشح جماعة الإخوان التي لم يقنع أداؤها في مجلس الشعب ونجاح بعض الآراء المؤثرة في اعتبار الجماعة ممثلة لشريحة من المجتمع المصري وليس كل أطياف مصر، فحتم خيار المقاطعة لأغلب الناخبين. وسيجد الرئيس المصري نفسه أمام خزينة مفلسة ونسبة بطالة عالية وفقر مدقع في مختلف المحافظات وعداء غربي معلن من الداخل الإسرائيلي، الذي ينتظر ما تسفر عنه ضغوط التمويلات المالية الأمريكية للجيش المصري وقدرتها على تحديد الخطوط الحمراء التي تكفل مصالحها أمريكا والأمن القومي للإبنة المدللة. أما حالة ليبيا بعد مقتل الزعيم، فهي الأسوء على الإطلاق ووجد الشعب الليبي نفسه منقسما إلى طوائف قبلية وشعب دينية ومليشيات مسلحة وفوضى عارمة لم يستطع المجلس الوطني الانتقالي فرض سيطرته وإحقاق مصالحة وطنية تلم الشمل الليبي، فالمنظمات الحقوقية التي اتهمت نظام القذافي بارتكاب جرائم حرب ضد شعبه وساندت قدوم الناتو الذي حسم المعركة وانتهت مهمته بمجرد عودة حقول المحروقات على ضخ البترول، سجلت تجاوزات عدة وخروقات لحقوق الإنسان وحسب الإحصائيات المتوفرة لديها، فإن هناك أكثر من 10 آلاف معتقل في ظروف غير إنسانية لدى الميلشيات، لكنها لم تحرك ساكنا ولا حتى الأممالمتحدة التي أصبحت بنود الديمقراطية والحرية في مواثيقها ذريعة للتدخل المباشر أو غير المباشر في شؤون الدول الضعيفة وعلى الخصوص العربية التي تتمركز فيها كل الحروب والصراعات والفتن منذ زمن بعيد. وتحولت ليبيا إلى دولة فاشلة بامتياز بعد أن حاولت قطع خطوة إلى الأمام، فتراجعت بخطوات إلى الوراء ولم ينفع التحالف مع الشيطان لإسقاط الزعيم الذي تحول في لمح البصر إلى الشيطان الأكبر منذ أول يوم لاشتعال التظاهرات في بن غازي، وتحولت الثورة بالسلاح إلى حرب أهلية لتصبح قبلية طائفية بعد وصول القادة الجدد إلى الحكم. إن المواطن العربي لم يعد ذلك الضعيف الذي له ألف حق وحق ولا يصر على حقه، بل أصبح كالنمر الجريح يبطش بكل من تخول له نفسه العبث بحاجته في العيش الكريم وفي كنف الدولة الديمقراطية ذات السيادة، لكن أطراف عديدة وجدت الطريق إلى الالتفاف على مطالبه وتعطيل مسعاه نحو التغير فالديمقراطية العربية لا يمكن أن تخرق الثوابت الغربية، والخوف كله من الفتنة الداخلية وعدم قدرة من آلت إليهم السلطة على تخطي العقبات التي تواجههم. الإرادة الشعبية العربية في التغيير الديمقراطي نالت كل الإجلال والتقدير من العدو قبل الصديق، لكن اختطاف ثورتها إلى وجهة غير معلومة أبقى المواطن العربي دائما هو الضحية الذي يدفع روحه، في سبيل ربيع لم يظهر له أثر لغاية اللحظة إلا على الفضائيات ذات الأجندة المضبوطة، وبدأ يدب الى اليأس في نفسيته في انتظار ربيع لا بد له أن يتجلى.