مرت سنة على اندلاع "ثورة الكرامة" في تونس، التي أطلقت شرارة ثورات الربيع العربي وما أعقبته من تغيّرات عميقة على أكثر من صعيد شملت عددا لا بأس به من البلدان العربية في شمال إفريقيا ومنطقة غرب آسيا. ولئن توحدت شعارات ومطالب تلك الثورات، فقد اختلفت مسارات التغيير من بلد إلى آخر، كما تنوعت طرق الاحتجاج من الاعتصام والتظاهر السلمي إلى النزاع المسلّح والتمرّد العسكري. للحديث عن هذه التغييرات العميقة، سنة بعد انطلاق تلك الاحتجاجات، أجرت "سويس انفو" هذا الحوار مع الدكتور محمد محمود ولد محمّدو، الأستاذ الزائر بالمعهد العالي للدراسات الدولية ودراسات التنمية بجنيف، ومدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمركز السياسات الأمنية بجنيف، وكاتب له العديد من الدراسات والكتب على وجه الخصوص الحرب الصليبية المضادة، وهجمات 11 سبتمبر وتغيّر وجه العالم. وفي ما يلي نص الحوار: عام بالضبط يفصلنا عن بداية الإنتفاضات التي عاشتها العديد من البلدان العربية. هل ما شهدته المنطقة هي ثورات شعبية بالمعنى العلمي للكلمة، أم ان الأمر يتعلّق بانتفاضات، يمكن أن تشهد الاوضاع فيها عودة إلى الوراء؟ محمد محمود ولد محمّدو: لقد تكرّر كثيرا طرح السؤال حول حقيقة هذه التغيّرات خلال العام المنصرم، مما جعل الدارسين ينشغلون بالبحث عن الدلالات ويكادون يغفلون عن البعد الأساسي لتلك التطوّرات، وهو أنه وفي فترة لا تكاد تتجاوز بضعة أسابيع تقريبا، تمت إعادة تشكّل كاملة للعناصر الأساسية المحددة في رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع في بلدان شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط. أما إذا تجاوزنا هذا المعطى الأساسي، فعلينا أن نأخذ مسافة من الأحداث، وأن ننظر إليها في تنوّعها واختلافها من بلد إلى آخر، بين ثورة وطنية بكل ما في الكلمة من معنى انخرط فيها الشعب التونسي بتلقائية، وانتفاضة توحدت فيها جهود الشعب المصري، سرعان ما أرادت إعادة انتاج ما شهدته تونس، ولكن النجاح كان نسبيا، ويظل حتى الآن مستقبل الثورة المصرية يلفه الغموض، لكن المصريين نجحوا رغم ذلك في إجبار أحد عتاة الدكتاتورية في التنازل عن السلطة. وأما في ليبيا، فقد تحوّلت انتفاضة شعبية انطلقت من شرق البلاد إلى ثورة مسلحة عمت كل الجهات، ولم تنجح في إسقاط دكتاتور آخر إلا بدعم ومساندة تدخّل عسكري أجنبي. ناهيك عن أوضاع أخرى أشدّ تعقيدا في اليمن، والبحرين، وسوريا. وبصفة عامة، لا يمكننا الحديث عن ربيع عربي هكذا بإطلاق. الكرامة والحرية والعدالة، كانت من بين أبرز المطالب والشعارات التي رفعها الشباب الثائر في كل من تونس وليبيا ومصر. هل تتجه هذه البلدان إلى تحقيق تلك المطالب، وإلى انجازها في الواقع؟ محمد محمود ولد محمّدو: لقد أشرت إلى هذه الشعارات، وهي من بين شعارات أخرى كثيرة رفعتها هذه الثورات، وهي تدلّ على الهوية الاجتماعية الحقيقية لهذه الانتفاضات. إنها ثورات للمطالبة باحترام حقوق الإنسان قبل كل شيء. فالكرامة، التي هي قيمة إنسانية أساسية هي التي دفعت محمّد البوعزيزي إلى القيام بفعل يبدو في ظاهره عملا يائسا، لكن عمله أوضح في النهاية أن الأنظمة الشمولية تقود إلى مأزق إذا ما جوبهت آليات الاضطهاد والظلم التي تمارسها برفض المواطن المدافع عن حقه في الوجود، وليس بدوافع الحسابات السياسية البراغماتية.
وبهذا المعنى، فثورات الربيع العربي هي في الأساس تشكل قطيعة مع نظام لم يعد بمقدوره ادعاء القدرة على قيادة هذه الشعوب بعد أن تآكلت شرعيته ومصداقيته. لكن في الآن نفسه، لن تكون عملية الانتقال هذه سهلة، وسوف يتطلّب تجسيد افكارها في الواقع بذل جهود مضنية. حتى الآن نشهد تحقيق تقدّم نسبيا في مأسسة هذه المطالب والشعارات في تونس،.وتظل مصر مسرحا لانتهاك هذه الحقوق من حين لآخر، وأمّا ليبيا فهي مدعوة إلى وضع الآليات الدستورية المناسبة لإنجاز نقلة حقيقية. في كل المحطات الانتخابية التي شهدتها بلدان ثورات الربيع العربي حتى الآن، حصدت الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية غالبية المقاعد. هل يشكّل هذا خطرا على مكاسب التحديث في هذه المجتمعات؟ محمد محمود ولد محمّدو: لا أعتقد ذلك. من جهة ليس هناك أي تعارض بين المواطنة والتقوى أو نظافة اليد. ومن جهة أخرى، فالتحليلات التي تربط بين الربيع العربي والخوف من التيارات الإسلامية هي رؤى تفتقر إلى القدرة على الإلمام بتعقيدات المشهد السياسي الجديد الذي هو بصدد التشكل في هذه البقعة من العالم. والحركات التي فازت في هذه الانتخابات هي أحزاب منظمة علنية وتعمل في الشرعية، وقادت حملاتها الدعائية في أجواء تنافسية وتعددية. وكان الاقتراع شفافا وتحت أنظار المراقبين الدوليين. فضلا عن ذلك، فقد كان الناخبون واعين بخيارهم وفضلوا هذه الأحزاب الإسلامية. ومحاولة محاكمة هذه الحركات مسبقا وعلى النوايا هو شكل من أشكال عدم التسامح باسم قيم التسامح نفسها. الترحيب بالديمقراطية في بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط إلا إذا كانت نتائجها مستنسخة للديمقراطية الغربية هي محاولة لتأبيد التبعية التي سمحت باستمرار الديكتاتورية في هذه المنطقة من العالم. وأشير في الأخير إلى أن المشروع السياسي والاجتماعي للحركات الإسلامية لا يمكن الحكم عليه إلا بعد اعطائه الفرصة لكي يطبّق في ظل تجربة سياسية تحكمها انتخابات شرعية. لقد اختار الناخبون هذه الأحزاب في أوّل تجربة ديمقراطية حقيقية يشهدها العالم العربي، فليثبتوا جدارتهم ان استطاعوا، وليحترموا اللعبة الديمقراطية. وهذا من شأنه أن يسمح بتعزيز الطابع المدني للنظام الجديد الذي ورث الأنظمة الاستبدادية، و بتجاوز الفزّاعة الإسلامية التي تم توظيفها من جهات عديدة لفترة طويلة. دعا المفكّر المغربي المرحوم محمّد عابد الجابري منذ التسعينات من القرن الماضي إلى تشكيل كتلة تاريخية تقود عملية التحوّل في العالم العربي. هل حان الوقت لبناء هذه الكتلة؟ محمد محمود ولد محمّدو: بنفس الشكل أيضا دعا منصف المرزوقي، المناضل المعروف من أجل حقوق الأنسان، والذي أصبح اليوم رئيسا لتونس، إلى ما كان يسميه "استقلالا ثانيا"، وسعد الدين إبراهيم، عالم الاجتماع المصري، الذي كان بدوره ينشط في هذا الإتجاه. وفي الحقيقة بذل الكثير من المناضلين العرب جهودا كبيرة في التسعينات من أجل الإنفتاح السياسي، وهذه الجهود الماضية حتى وإن لم تحقق مرادها في تلك الفترة، فإنه لا يمكن نسيانها لأن هذه الثورات الحالية لم تأت من فراغ. وأعتقد أن تسارع الجهود الهادفة إلى تصعيد الاحتجاج ضد الأنظمة الفاقدة للشرعية قد أدى بنا إلى تجاوز تلك الدعوات والمبادرات. ما هي احتمالات نجاح هذه الكتلة، في حالة قيامها، في صياغة عقد اجتماعي جديد لتنظيم حياة هذه المجتمعات؟؟ محمد محمود ولد محمّدو: العقد الإجتماعي الجديد هو آخذ في الظهور والتشكل بالفعل. لكن يتم تحقيقه على مستوى وطني في المقام الأوّل، وأعتقد شخصيا أن هذا هو الإطار المناسب له. لان من شأن ذلك أن يوفّر مرتكزات واقعية وفي سياقها، وتضع المشروعات المناسبة لتحقيق الديمقراطية. والتنسيقيات الإقليمية والتي تتجلى بشكل واضح من خلال شبكات التواصل الاجتماعي لعبت دورا إيجابيا هاما في "الثورات الإلكترونية"، وقد تحوّلت مع الوقت إلى روابط اجتماعية ضاغطة في كل بلد من هذه البلدان التي تشهد تحوّلا. عملية التنسيق الإقليمي هذه كانت مطلوبة منذ عدة سنوات من أجل خلق ظروف مناسبة للتغيير. هذا على الرغم من اقتناعي بأنه قد حان الوقت لتركيز الجهود محليا على توفير شروط الممارسة الديمقراطية لكي تصبح واقعا ملموسا قابل للاستمرارية. ومن جديد، هذا الامر ليس سهلا، فالثورات تتطلب بذل جهود، والإستفادة من التجارب الأخرى. هل سيحتفظ الشباب والمجتمع المدني بدور حيوي خلال مرحلة البناء بعد ان أديا دورا رئيسيا في انجاح الانتفاضات، أم أنهما سيهمّشان بعد أن أُفرزت الشرعيات واستقرت؟ محمد محمود ولد محمّدو: لدينا مثاليْن متعارضيْن فيما يتعلّق بهذا السؤال المهم. في تونس، حيث اقتنعت الأغلبية بالثورة، انسحب الشعب نوعا ما، وأصبح يعبّر عن تطلعاته من خلال القنوات والمؤسسات الديمقراطية التي تشكلت او التي بصدد التشكل: عبر الإقتراع، والمظاهرات، ونشاط المواطنين على المستوى البلدي، والحوار وتدافع الأفكار... أما في مصر، حيث يستمرّ الحراك الثوري، تتواصل الاحتجاجات الشعبية، والبعض يرفض اختيارات الإدارة العسكرية للمرحلة الإنتقالية، وتعبّر هذه الشريحة عن قناعاتها من خلال تصعيد المواجهة مع قوى الامن والشرطة العسكرية بإستخدام أساليب ثورية. وهذا ما يدفعنا إلى القول أنه لا سبيل إلى تحويل الاحتجاجات الثورية إلى حراك ونشاط يقوم به المواطنون ضمن ضوابط عملية ديمقراطية متدرجة إلا بعد تحقيق الإصلاحات الاساسية التي تنادي بها تلك الإنتفاضات. ماذا عن النظام الإقليمي المرتقب في المنطقة العربية؟ وما مصير الجامعة العربية في ضوء ذلك؟ محمد محمود ولد محمّدو: نتج عن ثورات الربيع العربي أثريْن بالغيْن على مستوى العلاقات الإقليمية. أوّلا وصول قيادات حكومية جديدة في كل من تونس وليبيا ومصر، وقد تلتحق بها اليمين وسوريا، مما سيؤدي في السنوات القادمة إلى إعادة تشكيل مشهد العالم العربي، لأن الفاعلين الجدد ليسوا مجبرين على إعادة العمل بالتحالفات القديمة، ويمكن ان ينشؤوا تحالفات جديدة تتماشى وتوجهاتهم المبنية على أعادة تقييمهم للتحالفات الموجودة أصلا من قبل وصولهم إلى سدّة القرار. ولابد من العودة إلى الستينات من القرن الماضي مباشرة بعد الاستقلال للوقوف على مرحلة تاريخية شهدت تغّيرات عميقة وجذرية مشابهة لما يحدث اليوم.على المستوى الإقليمي العربي دائما، لا يزال المشهد في بداية تشكله، وهناك حركية ومرونة كبيريْن تطبعان حاليا العلاقة بين البلدان العربية. أما بشأن العلاقة مع بلدان الإقليم، التي ليست بلدانا عربية، كإيران وتركيا وإسرائيل، فقد تأثرت هي الأخرى بشكل كبير بثورات الربيع العربي فزاد نفوذ تركيا، وأصبحت إسرائيل ضعيفة ومذهولة من الديمقراطيات العربية، وكذلك تراجع النفوذ الإيراني مع إعادة توزيع الأوراق على المستوى الإقليمي، على الرغم من صعوبة رصد هذا التراجع بسبب الغموض الذي يحيط بالنظام الإيراني، خاصة وأن هذه الثورات العربية قد اعادت على الأذهان "الثورة الخضراء" التي شهدتها إيران خلال عام 2009. أما بالنسبة للجامعة العربية، فلا أرى حتى الآن حدوث تغييرات عميقة في طريقة عملها، فالمبادرة التي اتخذتها بشأن ليبيا، جاءت في الحقيقة بمبادرة من مجلس بلدان التعاون الخليجي، وأما بالنسبة للملف السوري، فقد طغى على موقف الجامعة التردد والغموض. أي شكل سوف تتخذه العلاقات بين العالم العربي والبلدان الغربية بعد استقرار الأوضاع في المنطقة؟ محمد محمود ولد محمّدو: الربيع العربي كان سلسلة من الأحداث المحلية في الأساس. والانتفاضات لم تكن موجّهة ضد الغرب، بل كانت ردود أفعال ذاتية ناتجة عن مأزق الأنظمة التسلطية في العالم العربي. والهدف من هذه التغيّرات، إذا ما وجدت طريقها إلى التحقيق، هي قبل كل شيء، إرساء آليات للتمثيل الديمقراطي تكون التعبير السياسي لوضع شرعي مستقر. وهذا ما جعل العلاقة بالغرب منذ انطلاق أحداث الربيع العربي أمرا ثانويا. هذا من دون ان نغفل أن العلاقة التي كانت تربط بين الأنظمة البوليسية السابقة في كل من تونس ومصر مع البلدان الغربية كانت علاقة قائمة على الزبونية، ومن المنطقي ان نرى في رفض تلك الأنظمة رفضا لتلك العلاقة غير السوية بشكل صريح أو ضمني. ويعني هذا أنه من الآن فصاعدا المطلوب تأسيس علاقة شراكة بناءة تقوم على احترام سيادة جميع الأطراف. ولابد من الإقرار بأن الأمور لم تصل بعدُ إلى هذا المستوى المنشود من المعاملة بالمثل، والحق في الإختلاف، ومراعاة المصالح المشروعة لكلا الجانبيْن. ولتحقيق ذلك لابد من مراجعات عميقة لعلاقاتنا في الماضي، خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة.