إطلاق عملية رقابية وطنية حول النشاطات الطبية وشبه الطبية    يجسد إرادة الدولة في تحقيق تنمية متكاملة في جنوب البلاد    ملك النرويج يتسلم أوراق اعتماد سفير فلسطين    ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على غزة    مقتل مسؤول سامي في هيئة الأركان العامة    الجزائر حاضرة في موعد القاهرة    بالذكرى ال63 لتأسيس المحكمة الدستورية التركية، بلحاج:    بيع أضاحي العيد ابتداء من الفاتح مايو المقبل, بالولايات ال58    المرأة تزاحم الرجل في أسواق مواد البناء    الدبلوماسية الجزائرية أعادت بناء الثقة مع الشركاء الدوليين    الاستفادة من التكنولوجيا الصينية في تصنيع الخلايا الشمسية    النخبة الوطنية تراهن على التاج القاري    15 بلدا عربيا حاضرا في موعد ألعاب القوى بوهران    التوقيع بإسطنبول على مذكرة تفاهم بين المحكمة الدستورية الجزائرية ونظيرتها التركية    مزيان يدعو إلى الارتقاء بالمحتوى واعتماد لغة إعلامية هادئة    مداخيل الخزينة ترتفع ب 17 بالمائة في 2024    وزير الاتصال يفتتح اليوم لقاء جهويا للإعلاميين بورقلة    رئيسة المرصد الوطني للمجتمع المدني تستقبل ممثلين عن المنظمة الوطنية للطلبة الجزائريين    إبراهيم مازة يستعد للانضمام إلى بايرن ليفركوزن    اجتماع لجنة تحضير معرض التجارة البينية الإفريقية    متابعة التحضيرات لإحياء اليوم الوطني للذاكرة    رئيسة مرصد المجتمع المدني تستقبل ممثلي الجمعيات    الكسكسي غذاء صحي متكامل صديق الرياضيين والرجيم    60 طفلًا من 5 ولايات في احتفالية بقسنطينة    وكالات سياحية وصفحات فايسبوكية تطلق عروضا ترويجية    انطلاق فعاليات الطبعة الخامسة لحملة التنظيف الكبرى لأحياء وبلديات الجزائر العاصمة    الجزائر وبراغ تعزّزان التعاون السينمائي    ختام سيمفوني على أوتار النمسا وإيطاليا    لابدّ من قراءة الآخر لمجابهة الثقافة الغربية وهيمنتها    قانون جديد للتكوين المهني    استقبال حاشد للرئيس    المجلس الشعبي الوطني : تدشين معرض تكريما لصديق الجزائر اليوغسلافي زدرافكو بيكار    رئيس الجمهورية يدشن ويعاين مشاريع استراتيجية ببشار : "ممنوع علينا رهن السيادة الوطنية.. "    تنصيب اللجنة المكلفة بمراجعة قانون الإجراءات المدنية والإدارية    توقيع عقدين مع شركة سعودية لتصدير منتجات فلاحية وغذائية جزائرية    عطاف يوقع باسم الحكومة الجزائرية على سجل التعازي إثر وفاة البابا فرنسيس    الأغواط : الدعوة إلى إنشاء فرق بحث متخصصة في تحقيق ونشر المخطوطات الصوفية    سيدي بلعباس : توعية مرضى السكري بأهمية إتباع نمط حياة صحي    عبد الحميد بورايو, مسيرة في خدمة التراث الأمازيغي    انتفاضة ريغة: صفحة منسية من سجل المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي    الرابطة الثانية هواة: نجم بن عكنون لترسيم الصعود, اتحاد الحراش للحفاظ على الصدارة    النرويج تنتقد صمت الدول الغربية تجاه جرائم الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في غزة    نشطاء أوروبيون يتظاهرون في بروكسل تنديدا بالإبادة الصهيونية في غزة    تصفيات كأس العالم للإناث لأقل من 17 سنة: فتيات الخضر من اجل التدارك ورد الاعتبار    جمباز (كأس العالم): الجزائر حاضرة في موعد القاهرة بخمسة رياضيين    الصناعة العسكرية.. آفاق واعدة    وزير الثقافة يُعزّي أسرة بادي لالة    250 شركة أوروبية مهتمة بالاستثمار في الجزائر    بلمهدي يحثّ على التجنّد    حج 2025: برمجة فتح الرحلات عبر "البوابة الجزائرية للحج" وتطبيق "ركب الحجيج"    هدّاف بالفطرة..أمين شياخة يخطف الأنظار ويريح بيتكوفيتش    رقمنة القطاع ستضمن وفرة الأدوية    تحدي "البراسيتامول" خطر قاتل    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في طبيعة العلاقة وجدليتها
نشر في الشعب يوم 07 - 07 - 2021

يشتد سؤال المشترك بين التاريخي والأدبي، في كثير من المواقف والتحولات، فإذا كان الأدب باعتباره شكلا من أشكال التعبير الإنساني والذي يعكس وجدان الإنسان وأفكاره وهواجسه بأرقى الأساليب الكتابية وهو أحد الألوان التّعبيريّة والإنسانيّة التي تحتوي على الجماليّات الخياليّة والتّصويريّة، باستخدامه اللغة استخدامًا خاصًّا تختلف عن استخدامها في الحياة اليومية والعلمية والأدب على فنِّ الأدب التخيلي الإبداعي، والكتابة التخيلية هي التي تصدر من الخيال فلا تطابق الواقع، فإن التاريخ هو الماضي والأحداث، كما هو موصوف في الوثائق المكتوبة، وهو مصطلح شامل يتعلق بالأحداث الماضية، بالإضافة إلى الذاكرة...
داخل هذه الجدلية، بين ارتباطات التاريخ بالأدب وانفصاله أو بين التشابك العضوي بين موضوعاته وأحداثه والأسئلة التي تثار حول هذه القضايا، إرتأت «الشعب» بسط سؤال هذه العلاقة بين الأدب والتاريخ من خلال إثارة أسئلة من قبيل:
هل يمكن الحديث عن نوع من الارتباط الجدلي بين الأدب والتاريخ؟ وإلى أي مدى يمكننا رصد التشابك بين موضوعية التاريخ وتخيلية الأدب؟ هل يمكننا اعتبار موضوع الذاكرة داخل جدلية التاريخ والأدب بوصفها فعلا انتقائيا داخل الكتابة الأدبية، أم أنها تعبير عن موقف من التاريخ نفسه؟
نحاول الإجابة على هذه الإشكالية مع مجموعة من الباحثين الجزائريين.
الدكتورة حياة مختار أم السعد (جامعة الجزائر 2)
الذاكرة لحل الأزمات وتصفية الحضور الاستعماري
إن مسألة توظيف التاريخ في الأعمال الأدبية عرفت شيوعا وتراكما متزايدا، بحسب الكثير من الدراسات، في بداية الألفية الثالثة. ولعل المفسرين الذين طرحوا مقاصد هذا التوظيف ركزوا على مسألة جد مهمة اقترنت بالتحولات التي مست العالم أجمع. فالدخول في مجالات اقتصادية جد متوحشة وذيوع الإمبريالية الفجة، وانقشاع فترة الحروب التي ألهبت العالم لفترات جد ممتدة، والسقوط في شراك كذبة العولمة، والعالم قرية، ولّد العديد من القضايا تعلقت بذاكرة الشعوب وهوياتها المقهورة، تلك التي بقيت تحت نيران الاستعمار، ممّا شوّه بنيتها المعرفية والهوياتية والتاريخية، وإن كانت كتب التاريخ دونت هذه الفترات بالتواريخ والعقود والاتفاقيات، ويبقى الأدب هو الوحيد القادر على الغوص في ثنايا الذات بحثا عن الأصوات التي أخرجها التاريخ الرسمي من حيز الوجود، وهُمشت عنوة من قبل المهيمنين.
تحاول بعض الكتابة الأدبية العربية الواعية، أن تفتح أشرعتها التخيلية على موضوعات أكثر التزاما بالواقع العربي، هذا الواقع المتعدد المتشظي الذي يتخبط في مشاكل لا حد لها، بسبب الويلات التي تكبدها ولايزال جراء الاستعمار بكل أنواعه وبمختلف أزمنته، فانجر الأدب وراء التاريخ ليعين الذات الدؤوبة المحرجة بالخيبات للوصول لحلول تلهمها للخروج من خيباتها، وفك حصار أسئلة كثيرة تقلقها، فأينعت نصوص مهمة تؤرخ بدورها لقلق الإنسان العربي المعاصر إزاء مسائل تمس تاريخه وهويته وثقافته وذاكرته.
وإذا ألقينا إطلالة على عدد من الروايات العربية الملتزمة بقضايا الأمة، نلحظ حضورا بارزا لما سماه لوكاتش «رواية تاريخية»، يستحضر فيها الروائي أحداثا تاريخية تمتزج بالتخييل، حين يختار شخصيات بسيطة ينقل من خلالها أوجاع مراحل تاريخية بعينها ليجعل الأحداث أقرب إلى الواقع، يستفز من خلالها القارئ ليعود مسائلا لتاريخه وحاضره. كثيرة هي الأعمال الأدبية التي نراها جديرة بالاهتمام، لأنها تصنع من الذاكرة الجماعية تاريخا يعادل في عمقه التاريخ الرسمي. فما التاريخ، بحسب بول ريكور، إلا سرديات تقنع القارئ بمصداقيتها، لأنها تركز على التواريخ والأحداث، وهي أحداث في الأصل منتقاة بحسب وجهة نظر المؤرخ وظرفه التاريخي وولاءاته الرمزية.
ما يهمنا في هذا السياق، هو حديثنا عن التاريخ وحضوره الجدلي مع الذاكرة والأدب، خاصة عندما يتعلق الأمر بتاريخ الجزائر. ففي ظل التوترات الحالية، أصبحت حروب الذاكرة ملحة لحل أزمات الحاضر وتصفية الحضور الاستعماري وهو ليس بالأمر الهين طبعا. وبات اللجوء للتاريخ، قراءة ومساءلة وتوظيفا، أكثر إلحاحا، فالتزمت بعض الكتابات الأدبية الواعية وخاصة منها الرواية على حمل مشاق تنوير القارئ بواقعه وتاريخيه، واستعمل التخييل ممزوجا بأحداث تاريخية منتقاة بحثا عن إجابات لأسئلة ملحة.
فمن يقرأ رواية آسيا جبار «المرأة بدون ضريح La femme sans sépulture»، يلحظ حضور أصوات عديدة تحاول لملمة التاريخ والذاكرة وتفاصيل الزمان والمكان، لتنسج صورة «زوليخة» البطلة الشهيدة، التي اقتنعت في مقتبل عمرها بضرورة مواجهة الاستعمار الفرنسي الغاشم. تقدم لنا «آسيا جبار» صورة عن الشهيدة «زوليخة Zoulikha Oudai»، محاولة سماع صوتها في كل الأحياء التي جاورتها ومع الشخصيات التي عرفتها، دافعة النسيان خارج دائرة حكيها، لأن شخصية مثل شخصية «زوليخة» لابد أن تبقى خالدة تَتَذكرُها الأجيال لأنها تركت فلذات كبدها، وصعدت إلى الواجب دون رجعة، عُذبت ونُكل بها ولم يعثر على رفاتها، ألا يحق للتاريخ أن يصمد أمام ذكراها..؟
آمنت «أسيا جبار» أن التاريخ يقدم سنوات الميلاد والوفاة وعدد الأولاد والشهداء وصورهم، لكنه لن يعيد صوت «زوليخة» إلى الحياة، لهذا قررت الروائية لملمة شتات الذكريات لتخلد حضور زوليخة في ذاكرة الجزائر وتاريخها، وتخلد معها مفهوم الشهيد وتعيدها سرديا إلى عالمنا الذي ألف النسيان، وأصبح يتذكر الشهداء في الأعياد الوطنية وينساهم في سائر الأيام. وإن كانت آسيا جبار عاشت الاستعمار والثورة والاستقلال، نجد قلما فذا يكتب من جيل الشباب عن تاريخ الجزائر تحت نير الاستعمار الفرنسي. فالروائية ياسمينة صالح، في «بحر الصمت»، تكتب الثورة والألم وكأن تاريخ القذارة الاستعمارية أرخى سدوله على عمق العلاقات الإنسانية في الجزائر، جعلت ياسمينة من ذاكرة بطلها تأريخا للذات المتأزمة الموؤودة في لا شرعية الوجود الاستعماري. وفي سياق آخر، يكتب سعيد خطيبي روايته «أربعون عاما في انتظار إيزابيلا» ومنح صوتا مهيمنا لبطل النص وهو «جوزيف رينيشار» أسير ذاكرته وواقعه. تبنى سعيد خطيبي رؤية جوزيف، فلم يعد قادرا على رؤية الكثير من الحقائق، ربما لأنه لم يعش الثورة ولم يدرك أنّ الكتابة عن حقبة تاريخية ولو في رواية تخيلية هو بناء لوعي، يدخل ضمن تأسيس أدب قومي يعكس ثقافة وطنية تستلهم التاريخ لتفهم المعيش، وبالتالي غابت هذه الأبجديات وانحلت في مركزية غربية نقلتها زاوية نظر جوزيف إلى الواقع الجزائري، لماذا يا ترى تبنى سعيد خطيبي رؤية جوزيف لعالمه وسقط في شراك عوالم جاهزة يستهجنها كل من شهد الثورة أو قرأ عنها؟
سكت سعيد خطيبي عن مضمرات أخرى، أهمها عدم قدرة «جوزيف» الاندماج مع الجزائريين، وهذه من مخلفات الاستعمار. فنظرة الجزائريين إلى الفرنسيين مستمدة من الفترة الكولونيالية، التي رغم امتدادها لم يستطع الفرنسيون أبدا الاندماج مع الجزائريين أو تكلم لغتهم، فهذا من بين مخلفات الاستعمار المتوارثة، فليس على جوزيف أن يستغرب من نظرة الآخرين له، لماذا لم يتبنّ سعيد خطيبي رؤية تنطلق من وعيه الذاتي لخطابه حتى وإن عكس محتوى خطابه رؤية أحادية الجانب، فهي هنا قاصرة عن دمج آفاق التنوع الذي شهدته الفترة؟
الدكتور أحمد زعزاع (جامعة البليدة)
إدخال التاريخ إلى الأدب لم يكن يوما بريئا
هذا السؤال يفتح أفق الإجابة على مفهوم أساسي هو التاريخ، ويسائل حدود العلاقة التي يمكن أن ينشئها مع مفاهيم مجاورة كالواقع والماضي. فما هو التاريخ؟ هل هو الحدث المنتهي في الزمن المتصل بالماضي؟ هل هو الحدث الجمعي الذي يشكل منعرجا في لحظة زمنية معينة من حياة أمة أو واقع مجتمع أو شعب ما؟ هل يمكن عدّ التاريخ من جهة أخرى، مجموع لحظات أحداث فردية معزولة في اجتماعها صنعت مسمى التاريخ؟ كل ما سبق هو إمكانات تحقق للمفهوم العام للتاريخ تجتمع في إحالتها على الفاعل الأساس فيه وهو الإنسان الذي يتواجد ضمن نطاق مجتمعي.
إن ما سبق يجعل الإنسان بؤرة ارتداد كل المعارف، أدبا وتاريخا وفكرا، من جهة، ومن جهة أخرى يجعل المفهوم الاعتباري السابق للتاريخ وثيق الصلة بمسمى الواقع في لحظة زمنية معينة ترتد إلى الماضي غالبا، وهو ما يفتح باب العلاقة بين الواقع والأدب، والتي تتحدد في صورتها الجدلية تحت سؤال من يصنع الآخر؟ هل الأدب يصنع الواقع أم أن الواقع هو الذي يصوغ مادة تشكيل الأدب؟ وبعملية استبدال رياضية نجد أنفسنا نعود من جديد إلى حدود العلاقة التي يمكن أن تتشكل بين مفهومي الأدب والتاريخ. فإذا كان الأديب إبن بيئته والأدب نتاج هذه البيئة، فهل سيكون نتاج تاريخ هذه البيئة أو بالمصطلح الأدل نتاج تاريخ المكان. وهو ما يجعلنا في الأخير نصل إلى القول بأن العلاقة بين الأدب والتاريخ هي من طبيعة جدلية، تجعل الأدب نتاج استيعاب وتأويل مختلف من قبل الأديب للحظة التاريخية.
إذا جارينا التعريف الذي يعدّ التاريخ مجموع الأحداث التي يتدخل الإنسان كفرد ضمن جماعة في تشكيلها أو تتشكّل بما يتجاوز قدرة تدخله أحيانا، وتمتد بالصلة إلى الماضي في حدوده القريبة والبعيدة، فإن الموضوعية التوثيقية لكل ذلك يفترض طرائق وأشكال رصد وتسجيل خاصة، وهو الدور المنوط بالمؤرخ أن يقوم به. وبالتالي، فإن أفق التأويل يغيب إلى حد كبير لحظة توثيق الحدث التاريخي أو تقديم الشخصية التاريخية مثلا، وتحل محله صرامة علمية ومنهجية مشروطة بأدوات قراءة يمتلكها المؤرخ باعتباره متخصصا، وهو ما يصطلح عليه بالموضوعية التاريخية.
إن استحضار أي جنس خارج أدبي إلى الأدب، أو محاولة دمج أفق معرفة مختلف مع مادة الأدب، يخضع لقصدية الروائي أو الأديب بشكل من الأشكال، ولا يمكن عد العلاقة بين اللحظة التاريخية المستحضرة وبين تقديمها أدبيا علاقة اعتباطية، بل هي تخضع لعملية تأويل خاصة من قبل الأديب أو الروائي. وعملية التأويل تلك تمر عبر وسائط بطبيعة الحال يشتغل بواسطتها الأديب أو الروائي، تدور في دائرتي الاستحضار والاستبعاد، أو الجذب والإقصاء. فالذاكرة عند الروائي مثلا، وبهذه الصورة، يمكنه اختزالها في أبعاد معينة وإغفال أخرى بما يخدم مقصديته، وما يجعل الذاكرة في الآن نفسه ذاكرات متعددة. فالتبئير على حدث معين أو لحظة تاريخية معينة أو جانب معين في شخصية تاريخية مثلا، كل ذلك مرتبط بإرادة التحكم في الذاكرة وصناعتها وفق مقصديات معينة يرتئيها الروائي. لكن هل يعني هذا غياب الموضوعية عن مادة التخييل الأدبي التاريخي؟ هذا يجرنا إلى مقدار التحيز الذي يمكن أن يتلبس بشخصية الروائي أو الأديب في تصويره للحدث التاريخي. لذلك، فإن عملية إدخال التاريخ إلى الأدب لم تكن يوما بريئة. هي عملية إيديولوجية بامتياز، سواء ظهر ذلك بصورة مباشرة أو كان مضمرا.
الدكتور عبد الحميد بورايو (جامعة الجزائر)
الكاتب يخضع لإيديولوجيته وانحيازاته
الارتباط بين التاريخ والأدب عضوي؛ فالأديب يبدع لأنه كائن متموقع في التاريخ؛ فهو يُعبر عن المرحلة التي يعيشها، ويمثل عصره وحياته وأفكار الجيل الذي ينتمي إليه. وقد كان هدف الدراسات الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين اكتشاف هذه العلاقة، ومن هنا جاء اهتمامها المبالغ فيه أحيانا ببيئة الأديب وتاريخ حياته والمؤثرات الخارجيّة في نِتاجه الأدبي، إلى درجة أنها أهملت شكل النص وبنيته، مما ولّد تيّارا منهجيّا مضادًّا هو البنيوية، ساد في النصف الثاني من القرن العشرين، وما زالت تطبيقاته جارية حتى اليوم. انتقد هذا التيار الإفراط في العناية بما هو خارج النص، والمقصود به هنا هو البيئة والتاريخ، وإهمال خصائص النص وعناصره الشكليّة، لهذا يُقال بأن البنيويّة تخلّت عن التاريخ.
هذا بالنسبة للأدب عامة في علاقته بالتاريخ. وإذا ما فحصنا الأعمال الأدبية التي تتخذ من التاريخ موضوعا لها، سنجد أنفسنا أمام إشكالات أخرى غير تلك التي أشرنا إليها قبل قليل، والتي طرحتها البنيويّة. فما مدى هامش حرية الأديب وهو يعالج الظاهرة التاريخية؟ ما هو القدر من التخييل والقدر من التاريخ في عمل معيّن؟ وهل يصدق على الأعمال الشعرية ما يصدق على الأعمال الروائيّة والمسرحيّة؟
طبعا، هناك اختلاف في تعامل الشعر مع التاريخ. قد يسعى الشعر أحيانا لتأريخ الوقائع، مثلما حدث مع الشعر الشفهيّ الجزائري طيلة قرون، لما قام الشاعر بدور المؤرخ، في مجتمع يفتقد للكتابة التاريخية الرسميّة، فنظم الشعراء القصائد في تسجيل الوقائع التاريخية في عصرهم مثل بن خلوف والمنداسي وبن قيطون ومحمد بلخير إلخ... غير أننا لابدّ أن نلاحظ بأنّ الشاعر وهو يؤرخ يعبر عن موقف ملحمي غير موضوعي؛ فيحمّل الشعر رؤية قومه للتاريخ وعواطفهم وإيديولوجيتهم.
أما الرواية، باعتبارها فنّا ينحو نحو التصوير الموضوعي للمجتمع، خاصة بعد ظهور الروايات الحواريّة التي تسعى للتعبير عن الاختلاف في الرؤية للواقع الاجتماعيّ وللوجود البشريّ، فإن علاقة الرواية بالتاريخ تختلف عن علاقة الشعر به، وخاصة بالنسبة لنوع فرعيّ يسمّيه الدارسون «الرواية التاريخيّة». في هذه الحالة يصبح الفنّ الروائي أداة من أجل تقديم الحقيقة التاريخية الموضوعيّة، وهي أداة تخييلية تعيد تشكيل التاريخ من أجل الإقناع بموقف معيّن منه، تسعى لأن تكون أمينة في تقديم التاريخ، غير أنّ هذه الأمانة تظلّ نسبية، إذ أنّ الكاتب وهو يسائل الذاكرة التاريخيّة يخضع لإيديولوجيته وانحيازاته الاجتماعيّة والسياسيّة وقناعاته الفكرية والوجوديّة.
الدكتورة شهرزاد توفوتي (جامعة بومرداس)
الكتاب أضفى على الاستعمار طابع المقاومة الثقافية

الكتابة عموما مجاز للحياة وللواقع، فالقيم الجمالية لأي عمل أدبي تكمن في لعبه الدلالي ومجازاته. وفي سبيل تحقيق هذا المأرب الجمالي، يعتمد الكاتب حيلا واستراتيجيات بلاغية عدة.
يستدعي فعل الكتابة الإبداعية التاريخ في شكل وطن مسلوب أو هوية ممزقة، فيحتاج إلى مخيلة بتداعياتها الثقافية والاجتماعية والدينية القديمة، كما يحتاج إلى ذاكرة تسترجع من خلالها صور الأنا في علاقتها بالآخر.
تأتي الكتابة الروائية لتجسد تلك العلاقة الجدلية بالتاريخ فيمتزج الماضي بالحاضر فتصبح الكتابة بمثابة استراتيجية سردية تعيد تنصيص التاريخ من حيث هو لحظة تأمل واعتراف ومواجهة.
فالقصص، كما يرى إدوارد سعيد، هي الوسيلة التي تستخدمها الشعوب المستعمَرة لتأكيد هويتها أمام أشكال الإمبريالية كافة. وما الأمم إلا سرديات ومرويات تراكمت عبر مسارات تاريخية شتى حفظتها الذاكرة الجمعية للأمم والشعوب.
انطلاقا من علاقة السردي بالتاريخي، فإنّ التاريخ السياسي للمجتمع الجزائري مشحون بالأحداث والانكسارات والعلامات السياسية الحاسمة منذ 1830 إلى 1962، لأنّه عانى طويلا من وطأة الاستعمار الفرنسي. لقد صاغت أقلام الكتاب الجزائريين قصص كفاح الشعب الجزائري، وكانت القومية والهوية واللغة والذاكرة قاسما مشتركا بين الكتاب، فالعلاقة بينها تشكل علاقة تضافر وجدل مستمر، وهي مفاهيم تؤكّد بطرائق سردية وجمالية مختلفة، الانتماء إلى الوطن أو التراث.
إنّ وجودنا لا ينفصل عن تلك الصورة المتخيّلة التي نمنحها لذواتنا، فعبر القصص الخاصة ببيئتنا المحلية التي كتبتها زهور ونيسي وآسيا جبار ومالك حداد ومحمد ديب وغيرهم، أضفى هؤلاء الكتاب الجزائريون على تجربة الاستعمار طابع الرفض والمقاومة الثقافية بعيدا عن سلطة الخرائط والجغرافيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.