هل بإمكان الرواية، كتابة التاريخ بعيدا عن تهويمات الفن والخيال. أيضا هل يمكن كتابة رواية تاريخية متخففة من إرث الخيال والتخييل، وكيف تنجح الرواية في كتابة أو إعادة كتابة التاريخ؟. حول هذا الشأن يتحدث بعض الكُتاب والنقاد في ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد، ويتطرقون كلٌ من زاوية نظرته الخاصة لإشكالية فن الرواية والتاريخ، كما يتناولون بكثير من الطرح والمساءلة إشكالية التاريخ الرسمي والتاريخ المتخيل، الذي كثيرا ما يكون مُربكا ومرتبكا في المتون الروائية. اختلفت مستويات معالجة ومناقشة هذا المحور الإشكالي والذي كثيرا ما كان محل جدالات ومساءلة. استطلاع/ نوّارة لحرش عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد –جامعة سعيدة التاريخ مادة الرواية الأولى والأخيرة ولا رواية بدون تاريخ ثمة فرق بين الرواية التي تعيد كتابة التاريخ والرواية التي تستعمل التاريخ كخلفية قصصية داخل السرد لبناء أحداث تتقدم بالسرد نحو نهايته الروائية المعروفة. التاريخ مادة الرواية الأولى والأخيرة ولا رواية بدون تاريخ. ولا اختلاف في أن التاريخ يحرّك مسار بناء الرواية التي لا تتم بدونه أو من خارجه حتى ولو كان هذا التاريخ تاريخا متخيلا وليس واقعيا. في الحالة الأولى تزخر الآداب العالمية بتجارب كتابية ثرية تبسّط الأحداث التاريخية المعقدة وتحيّنها وتضفي عليها نظرة خاصة أو راهنة أو موقفية بالنظر إلى مستجدات لم تكن معروفة أثناء حدوث هذه الأحداث. ولعل الغرض الأول والأخير من هذه الكتابة الروائية هو التاريخ نفسه، أي التاريخ الذي صيغ في قالب روائي لأجل تسهيل قراءته من طرف شريحة واسعة من القراء نظرا لعدم قدرة هذه الشريحة على قراءة التاريخ كتاريخ. ربّما عوضت السينما هذا النوع من الكتابة الروائية أو تكاتفا معا وتحالفا من أجل إعادة تركيب تاريخ قديم أو حديث في مصانع العصر وبرؤية العصر وخدمة لمصالح العصر.في العالم العربي بدأ هذا النوع من الكتابة قويا مع جورجي زيدان وغيره. ولعل هذا النوع قد لعب دورا هاما في ترسيخ فن السرد في عالم القراءة المحدود واستطاع أن يخترق ذائقة عربية تطغى عليها روح الشعر والإلقاء، لكن سرعان ما خفت هذا النوع من الكتابة ليتيح المجال لفن الرواية التي تستعمل التاريخ كخلفية تتحرك داخله قصة الرواية. وما يؤسف له هو أن هذا النوع من الرواية يكاد ينعدم من المدونة السردية العربية عموما والجزائرية على الخصوص لأسباب تحتاج إلى دراسة متأنية لعل منه الخوف من الفعل التداولي للتاريخ داخل المجال السردي لأنّه مغيب في المجال التاريخي. وما نجم عن ذلك هو ضعف الفعل السينمائي لأن السينما تعتمد عادة على هذا النوع من الروايات لإعادة كتابة التاريخ سينمائيا. أمّا في الحالة الثانية فنجد أن التاريخ لا يكون هو الغاية في حد ذاته ينتهي عندها السرد وتتم داخله القصة، وإنّما هو الخلفية التي يقرأ الروائي بها ومن خلالها ما يريد توصيله للقارئ عن طريق السرد. وهو في هذه الحالة ليس غاية في حد ذاته وإنّما وسيلة لتقديم وجهة نظر عن أحداث ما جرت في فترة ما، أو تصحيح رؤية خاطئة، أو استحضار رواية مغيّبة لم تعترف بها الرواية الرسمية المفروضة أو المهيمنة. ولعله لذلك نجد أن هذا النوع من الرواية يلجأ إلى التخييل والتحايل واستعمال كلّ الممكنات الروائية فنيا من أجل تقديم بديل روائيّ لتاريخ خاطئ أو منتهك أو مغيّب. وكأنّه إنّما جاءت لإنصاف التاريخ بالتخييل وعن طريقه مما يمكن أن يتعرض له من أكاذيب.لا يمكن للسرد أن يتخلى عن هذين النوعين. وهو بحاجة إليهما بالقدر الذي هو بحاجة إلى إضافة اللمسة الجمالية الفاصلة للحادثة التاريخية من أجل إخراجها من برودة المتاحف إلى خفقان القلوب النابضة للقراء والمشاهدين. عبد الحميد ختالة/ كاتب وناقد -جامعة عباس لغرور خنشلة رغم تنّكر الرواية للتاريخ إلا أنّها لم تتخلَّ عنه الحق أنّ الفنّ بعامة هو مرآة عاكسة لحياة الشعوب، إذْ لم تنجح إلياذة هوميروس إلا عندما أرّخت بامتياز لحرب طروادة الشهيرة، وقد استمر الأدب ينمو طبيعيا من ثدي التاريخ حيث يشير تطور الرواية الغربية إلى وجود رأيين في علاقة الرواية بالتاريخ، ففي مرحلة نشأتها كانت الرواية السليل المعترف به من التاريخ، وقد اقترنت به قران وفاء –كما يرى بَلْزَاك، فركّزت على الشخصية الصانعة للتاريخ وتمسكت كثيرا بالتسلسل التراتبي للأحداث، فالرحلة في أبعاد الزمن الغائبة تخلق فنيا نوعا من العبث عن طرق تقديم أحداث وتأخير أخرى، وهي ذاتها النقطة التي تتقاطع فيها الرواية بالتاريخ، وتصبح وثيقة من وثائقه. لقد ظلّت الرواية تحترم بشدة دور التاريخ في تحريك عجلة الحكي حتى مطلع القرن العشرين الذي عرف تحولات عميقة تبدّلت معها مفاهيم كانت سائدة، مثل وَاحِدية الفرد في صنع التاريخ، وزيادة الحياة تعقيدا وتركيبا، هذه التبدّلات أوجدت لنفسها صدى في الرواية التي تغيرت نظرتها إلى التاريخ فأنكرته وألغت تفرّد الشخصية بصناعة الحدث، وكسّرت خط السيرورة التاريخية أو ما يعرف بتراتبية الزمن، ورغم هذا التنّكر من الرواية للتاريخ إلا أنها لم تتخلَّ عنه بشكل نهائي بل قل إنها احتوت معاناة التاريخ بطريقة أكثر فنية فتداخلت نصيا مع الوثيقة التاريخية المحضة مقلّلة من تحالفها التقليدي وانصياعها المعهود له. إنّ هذا التعالق بين الرواية والتاريخ لا يجعلنا بالضرورة نوحّد الرؤية والمفهوم للمؤرخ والروائي، إذ لا يقدر المؤرخ وهو يسرد أحداثا أن يكون روائيا لما يفرضه عليه التاريخ من التزام بالحقيقة، وتشبّث بالوقائع كما هي في الحياة تمليه سلطة المهنية ومنهج التاريخ معاً، كما لا يمكن للروائي أن يكون مؤرخا عندما يتوسل التخييل في سرده للأحداث، فيحذف ويزيد، ويقدم ويؤخر، فلم يكن جورجي زيدان يوما مؤرخا، وبقي على ما قدمه من خدمة للتاريخ الإسلامي روائيا، وهذا الذي يضمن لنا الفصل المفهومي بين الرواية والتاريخ رغم التواصل الكبير بينهما. إن الذي يضمن للرواية التاريخية نجاحها هو تجاوز أن يحضر التاريخ بوصفه رقعة بنفسجية تزين النص الأدبي، ولا يعدّ جسرا يعبره الروائي لاكتساب الشرعية الأدبية، بل الرجوع إلى صورة الحادثة التاريخية يمثل مرتكزا شرعيا إبداعيا نقيضا لشرعية تاريخية يمثلها الخطاب الرسمي بشكل فيه الكثير من الزيف، أو من التعتيم الذي سميناه مبدأ التحفظ، وهنا فقط يتداخل السياسي والاجتماعي والنفسي والفني والتاريخي، وتعجز أي مقاربة أخرى كيفما كانت خلفيتها عن ملامسة الإشكالية التي يطرحها النص الروائي. يقتضي تحويل السرد التاريخي إلى سرد روائي تغييرا في مجموعة من الخصائص المميزة للسرد الأول، وهذه الخصائص التي أشار إليها سعيد يقطين تتعلق بهيمنة صيغة الفعل الماضي، وسرد الأحداث بالزمن الماضي المنتهي مع مراعاة التسلسل الزمني وهيمنة ضمير الغائب. لونيس بن علي/ ناقد أدبي –جامعة بجاية كل رواية ومهما ادعت الحياد فهي منغمسة في التاريخ يعود النقاش دائما حول علاقة الرواية بالتاريخ، صحيح أنّ الموضوع قد أُشبِع دراسة وتحليلا، إلاّ أنّ البحث عن هذه العلاقة مازال مفتوحا طالما لم يتوقف الروائيون عن كتابة الروايات. ثمة علاقة بالتاريخ في كلّ رواية، وكلّ رواية، مهما ادعت بحياديتها فهي منغمسة داخل التاريخ، بل أنّ فن الرواية أوّل ما ظهر كان بوصفه فنا تاريخيا. لا أتحدّث هنا عن الرواية التاريخية، فهذه نوع مستقل له خصوصياته، لكن أتحدث عن الرواية بشكل عام. كلّ كتابة روائية هي كتابة داخل التاريخ، وبتحفيز منه، طالما أنّ الروائي كائن تاريخي بالدرجة الأولى، وطالما أنّ الحدث الروائي، حتى لو كان تخييليا، يفترض إطارا تاريخيا ما. حضور التاريخ ضروري حتى يكون للرواية معنى ما، إلا أن الاشتغال على التاريخ، وهنا أتحدث عن الرواية التاريخية، يقتضي خلق توازنات دقيقة بين التاريخي والجمالي، بين الواقعي والفني، وهذا يحتاج إلى عبقرية فذة، تكون قادرة على ابتكار الشكل الفني المناسب ليمسك بموضوع تاريخي. ستكون من وظائف الرواية، الكتابة داخل المساحات المغيّبة في التاريخ الرسمي، هو نوع من التأريخ لما لم يُؤرّخ، أو لما ظلّ مبعدا أو مكرها. ستكون الكتابة في هذه الحالة، فعلا شجاعا. لنتحدث عن تاريخ الجزائر: ما الذي كُتب عنه؟ بعض الروايات القليلة جدا. إذن لابدّ أن نطرح السؤال التالي: هل هناك ما يبرر هذا الانسحاب عن كتابة رواية تاريخية؟ تبدو المشكلة في نظري تطرح على مستويين: مستوى الرؤية الرسمية للتاريخ، حيث مارست سلطة رمزية على المخيلات، فلم تعد قادرة على اختراق مناطق الظلال في ذلك التاريخ، بسبب الحصار الإيديولوجي المضروب على التاريخ، وكأنّه غرفة سرية تحوي على كلّ الحقائق لكن مفتاحها في يد السلطة. المستوى الثاني هو المستوى الشكلي: هل تطورت الأشكال الروائية عندنا حيث تكون قادرة على إنتاج الشكل الروائي القادر على صياغة لحظة تاريخية مهمة في قالب فني يوفّر المتعة للقارئ كما يوفّر له مساحة لإعادة صياغة أسئلته التاريخية؟. عبد الحفيظ بن جلولي/ قاص وناقد لا يحضر فيها كحدث وقائعي بل ينصهر داخلها كمتخيل فعل الرّواية هو فعل خيلولة بالأساس، أي الرّواية لا تلتمس شكلها إلا إذا تأطّرت بالخيال، ولا يمكن لها أن تستمر إلا إذا استمرّ الخيال في كينونتها، فهو أصيل في بنية الرّواية باعتباره «قوّة سحرية تركيبية»، وهو «القوّة الموحِّدة المركّبة» كما يقول كوليريدج، ولأنّ الرّواية «خطاب ينتجه المجتمع» حسب محمد برادة، فهي تنبثق من مخيال اجتماعي تتضافر فيه عوامل السّوسيولوجيا والسّيكولوجيا والتّاريخ والعرف والتقاليد والموروث، لا كوحدات كمونية قارّة ومؤطرة، ولكن كوعي قابل للاندراج في فضاء التّخييل، ومن هنا فالرّواية لا تكتب الموضوعة، إنّما تحيل الموضوعة إلى الخيال عبر وسيط الفن، فالتّاريخ لا يحضر في الرّواية كحدث وقائعي، بل ينصهر داخل فضاءها كمتخيل يستفز التّاريخ الوقائعي ويعيد ترتيبه وفق متواليات «القوة السّحرية التّركيبية». إذا تخفّفت الرّواية من إرث الخيال والتّخييل خرجت عن نطاق كونها سردا روائيا، لأنّها بعناصرها الجوهرية (المكان، الزّمان والشخوص) تمثل التوازي مع عالم الواقع الذي تستمد منه مادّتها، فتتحوّل رافدا موضوعيا وتخييليا له، على أساس أنّ وعي الحكاية هو وعي بالواقع وتحوّلات السيرورة والمسارات المختلفة للمجتمع، فأن يكون الإنسان روائيا، معناه أن يتحدّد بمعايير التحوّل البنيوي في وعي التّخييل، أي أنه يصبح ممتلكا للمقدرة الفنّية التي تجعل من عالم الورق عالما ينبض بالحركة، البناء والهدم. إنّ ما يمكن أن يُبحث في سياقات التّاريخ كإعادة كتابة، أي إعادة كتابة التاريخ، ما هو سوى محاولة لإعادة تثبيت الوعي بالتّاريخ في راهنه ونقد معالمه التي يمكن أن تتحيّن وفق ما تمليه الشكلية والرّسمية، أي تكمن عملية إعادة الكتابة في استدعاء التّاريخ الرّسمي المكتوب والمقروء وترميم فجواته ونقد معطياته الثّابتة، والرّواية باعتبارها «خطاب ينتجه المجتمع»، تتأسّس ضمن هذه النّمذجة التي تحاول امتصاص معطيات الواقع الاجتماعية والتّاريخية وإعادة إنتاجها وفق محدّدات الفن والمتخيّل، وبالتّالي يمكن أن تساهم الرّواية في إمداد المؤرّخ بالجسر الواصل بين العقل التّاريخي المجرّد وعملية الرّبط بين الأحداث التي غفلها التّأريخ أو سقطت من وعي التّوثيق أو داخلها التلاعب في تركيب حدثيتها. الرّواية والتّاريخ سؤالان ممتلئان بالغواية والمنعرجات التي لا تحيل سوى إلى الاختلاف، باعتبار أنّ هامش الرّواية كسرد متخيّل يختلف عن هامش التاريخ كسرد وقائعي، وهذا ما جعل الشّاعر البولندي «يان كوت» يفرّق بين عالم المؤرّخ «بلو تارك» المسطّح، «والأبطال والتاريخ عنده موجودون جنبا إلى جنب، أما عند شكسبير فإنّ التّاريخ نفسه هو الدراما»، إذا، ما يحرّك الرّواية التّاريخية هو الدراما، أي التّخييل الذي ينفخ في الوقائع التّاريخية روح الحركة والصّراع، ومن هنا يمكن أن نتساءل حول تاريخية رواية «اسم الوردة» لأمبيرتو إيكو، الذي لم يكتب التّاريخ بقدر ما حاول أن يهدم نسقا نمطيا في التّاريخ الرّسمي وترميم فجواته انطلاقا من قناعته النّقدية في ملء الفراغات البيضاء، وواسيني لعرج في «الأمير»، بعيدا عن الاتّفاق أو الاختلاف مع رؤيته في الرّواية، لم يكتب التّاريخ بقدر ما حاول أن يروي حركته في ثنايا التّاريخ، أي الوقوف في نفس إحداثيات الأمير وهو ينسج ملحمته، وهو ما يمنح الرّوائي قدرة على استشفاف معتم الأحداث الواقعية، وهو ما يمكن أن يساهم تخييليا في رفد عملية إعادة كتابة التاريخ، ونستطيع القول بأنّ الرّواية يمكن أن تساهم في إعادة كتابة التاريخ عن طريق زحزحة الرّسمي وتفجير هامش المسكوت عنه من خلال الترسيم التّخييلي للأحداث الواقعية. محمد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي وأستاذ محاضر - جامعة بسكرة التخييل الروائي وسؤال التاريخ بداية: كيف تريد أن تكتب أيها الروائي عن الإنسان دون أن يداخل نصك تاريخ هذا الإنسان، بل كيف تتحدث عن فترة زمنية بنص يحتمل بناء زمنياً، ومكانياً، وشخصية تاريخية، ومن دون أن يكون كلامك تاريخياً، إن عناصر بناء الرواية (زمن/مكان/ شخصيات/ أحداث) هي بنيات مأخوذة عن التاريخ والواقع بالأساس، لذلك فالرواية دون تاريخ أو رؤية للعالم لا يمكن أن تكون شيئاً. كأني بك حذفت فاعلية زمنها ومكانها وشخصياتها وأحداثها وتريدها أن تكون رواية؟؟ فكيف يتسنى ذلك؟؟ إن الرواية فن يحول الزمن والمكان والأحداث إلى فضاءات حية بإعادة التمثيل، وذات رؤية بالتخييل. وهنا يأتي تعريف لوكاتش ليخبرنا بأن الرواية التاريخية: «عمل فنّي يتخذ من التاريخ مادة له، ولكنّها لا تنقل التاريخ بحرفيته، بقدر ما تصوّر رؤية الفنّان له». ويضيف محمود أمين العالم بأنّها: «تاريخ متخيّل داخل التاريخ الموضوعي». ويقصد بالتاريخ المبتدع، القراءة التخييلية للتاريخ والتموقف منه روائياً.لكن حين يقوم الروائي بكتابة تاريخ متخيل في روايته، هل يكون هنا أميناً لفن الرواية بهويته التخييلية، أم للتاريخ الذي يتمثله فيها؟ وهل هناك من إمكانية ليكون أميناً للجانبين التاريخي والتخييلي؟ يجيب جورج لوكاتش في كتابه «الرواية التاريخية» بحزم، مخاطباً الروائي التاريخي: «تخيل كما شئت لكن لا تخن التاريخ ولا تحرف أحداثه». ما يعني أن فتح المجال للتخييل الروائي للتاريخ، لا يتعارض فنياً مع حفظ الخصوصية التاريخية الممثلة. فهل هناك من روائيينا من حفظ خصوصية التاريخي في الرواية، بالرغم من تأثيثها المبتدع وحبكتها المتخيلة؟ أنماط تمظهر التاريخ في الرواية كثيرة. إذ يتمظهر التاريخ في الرواية بحسب نمط الرواية التي تتمثله، وهنا يمكن تسجيل بروز ثلاث أنماط من الرواية العربية: أولا: رواية الشخصية التاريخية. ثانيا: رواية الحدث التاريخي، ثالثا: رواية توظف التاريخ بأحداثه وشخصياته دون أن تكون تاريخية النوع والموضوع. تتميز خصوصية النوع الأول (رواية الشخصية التاريخية) بضيق هامش التخييل واتساع مجال التوثيق ومطابقات الوقائع التاريخية، نظراً لكون الشخصية التاريخية هنا جاهزة ومعروفة لدى المثقفين ورائجة لدى الرأي العام، وكلها عناصر رقابية على ما سيضيفه الروائي لهذه الشخصية الجاهزة. ولن يضيف هنا إلا التخييل الحذر. لذلك يقل هذا النمط الروائي في العالم العربي وفي الجزائر خاصة حيث لا نجد سوى رواية «الأمير» لواسيني و»الرايس» لهاجر قويدري. ويعلم المتابعون، كم الانتقادات التي تلقاها هذان النصان، بحكم وقوعهما في مضيق التخييل الخاص بهذا النوع. ويبدو تورط النصين واضحاً في مأزق السؤال الذي تطرحه هذه الرواية: ماذا سأضيف من تخييلك لشخصية جاهزة ومؤثثة مسبقًا لدى القراء؟ أما خصوصية النمط الثاني (رواية الحدث التاريخي) فتمنح هامشاً أوسع للتخييل على حساب التوثيق الوقائعي، إذ يمكن للروائي زرع ما لا نهاية من القصص الضمنية، العاطفية والاجتماعية المتخيلة في ثنايا الأحداث الموصوفة، دون أن يخترق خصوصيتها ولا إحداثياتها التاريخية المعروفة. وهذا ما تفنن فيه روائيون كثر إستهواهم هذا النمط الروائي لسعة مجال التخييل فيه، ومن بين أبرز الأقلام الروائية الجزائرية في هذا النمط نجد «الطاهر وطار» في «اللاز»، و»الشمعة والدهاليز»، و»محمد مفلاح» في «خيرة والجبال»، و»الانفجار»، و»هموم الزمن الفلاقي»، و»شعلة المايدة»، و»لحبيب السايح» في «كولونيل الزبربر»، و»إبراهيم وطار» في «مقابر الياسمين».. وغيرهم الكثير. وفي النمط الثالث (الرواية التي توظف التاريخ دون أن تكون تاريخية)، ينفتح القوس بشكل قد يشمل كلّ أنواع الرواية دون استثناء أو حصر، حيث ترحب كلّ أنماط الروائية بأي خطاب تاريخي يثري متونها. نتساءل طبعا: هل وفقت روايتنا مع التاريخ؟. عادة ما يؤدي اندماج الروائي مع الحدث أو الشخصية الروائيين، إلى تضييع مفاتيح التحكم السردي، فنجد السرد التاريخي وقد تحول إلى معول يهدم السرد الروائي. في حين نجد الكاتب مزهواً وغائصاً في تعاريج المعرفة والثقافة التاريخيتين. لذلك فالمعرفة بالتاريخ والاطلاع عليه كثقافة ليستا كافيتين لكتابة روائية للتاريخ، بل يجب اكتساب آلية تزمين الزمن، وتجسيد الشخصية ومعايشة الحدث، فنياً. فما معنى المعارف التاريخية إذا لم يفلح الكاتب في المعايشة الفنية لما يكتبه وبث الحياة في التفاصيل ونقلها في صور ومشاهد سردية أصيلة للقراء؟. عبد الحميد هيمة/ كاتب وناقد -جامعة قاصدي مرباح ورقلة المادة التاريخية مادة سردية أيضا يقول الدكتور فيصل دراج، في كتابه «الرواية وتأويل التاريخ»: «استدعى الروائي العربي المؤرخ وطرده لأكثر من سبب، فالمؤرخ يقول قولا سلطويا نافعا ولا يتقصى الصحيح، يهمش تاريخ المستضعفين، ويوغل في التهميش إلى تخوم التزوير وإعدام الحقيقة.. ولهذا يقوم الروائي العربي بتصحيح ما جاء به المؤرخ، وما امتنع عن قوله». ولذلك فإن البحث في الأوراق القديمة والكتب الصفراء لإعادة بعث الحياة فيها وتوظيفها في العمل الروائي التخييلي، يطرح أكثر من سؤال، ولعل السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه علينا منذ البداية يتمحور حول العلاقة بين الرواية والتاريخ، وبمعنى أوضح: ما طبيعة العلاقة بين التاريخ أو الخطاب المرجعي كما يسميه الدكتور محمد القاضي، والرواية التي هي خطاب تخييلي؟ إن هذا السؤال هام جدا ونحن نتحدث عن الرواية والتاريخ، لأنّه يمكن أن يشكل الخلفية النظرية لنمط الرواية التاريخية التي يمكن أن تشكل، كما يرى محمد القاضي، منطقة وسطى بين التاريخ والأدب، والذي يِؤلف بينهما أن كلا منهما خطاب سردي، إلا أن التاريخ خطاب نفعي يسعى إلى الكشف عن القوانين المتحكمة في تتابع الوقائع، في حين أن الرواية هي خطاب جمالي تقدم فيه الوظيفة الإنشائية على الوظيفة المرجعية. وهذا الذي عبر عنه الدكتور سعيد يقطين عندما قال بأن التاريخ يقوم على المطابقة، بينما تذهب الرواية نحو التخييل وهو جوهر السرد الحكائي. وإن كنا نعتقد أن «التاريخ شأنه شأن الرواية، خطاب سردي ومهما بالغنا في إسباغ البعد المرجعي عليه فإنّه يظل خطابا منجزا في مقام محدد تتحكم فيه اعتبارات شتى توجهه وتضيء مسالك قراءته، وكذا الشأن بالنسبة إلى الرواية، فهي وإن بدت خطابا تخييليا، لا تنقطع صلتها بالمرجع انقطاعا تاما»،ولكن على الروائي أن يقدم التاريخ بشكل إنساني حتى يجعله يبتعد عن الحقائق، بل إن على الروائي أن يأخذ القارئ لكي يفكر، ويحلل ويقارن بدلا من يأخذ النتائج جاهزة، وهذا الذي يصنع الفارق بين الرواية والتاريخ، وبما أن النص الأدبي هو مزيج، وتفاعل بين الواقع والمتخيل، فإنّ الدكتور عبد الله إبراهيم يدعو إلى الانتقال من مصطلح الرواية التاريخية، إلى مصطلح جديد يحقق هذا التفاعل وهو (التخيل التاريخي)، وذلك من أجل إلغاء التعارض القديم بين الواقعي والتخييلي، ومن ثم تجاوز ثنائية الرواية/ والتاريخ، وإعادة دمجها في هوية سردية جديدة، هي حد ثالث يكون نتاج تفاعل بين الواقعي والتخييلي، ومن النماذج الجيدة لهذا التفاعل بين الرواية والتاريخ أذكر على سبيل المثال رواية الدكتور عز الدين جلاوجي «حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر»، فقد سعى جلاوجي في روايته هذه إلى إعادة كتابة تاريخ المقاومة الجزائرية روائيا، ليس التاريخ الرسمي طبعا، وإنّما التاريخ المنسي التاريخ الشعبي/الشفوي. إنّ هذه الرواية إذن تقول ما لا يقوله التاريخ، إنّها إن صح التعبير تخترع تاريخها الخاص بها وهو التاريخ الخاص بطبقة المهمشين والفقراء والمحرومين. وقد سعى جلاوجي فيها إلى بعث ما ألقي عليه تراب النسيان، وراح يضخ دم الحياة في نماذج إنسانية مختلفة قد لا نجدها في التاريخ الرسمي، بل إنّه خلق شخصياته المتخيلة، وذكر أحداثا تاريخية نقلها الكاتب من مجالها التاريخي الجاف إلى مجال الإبداع والفن الرفيع، فتبرز الأحداث والشخصيات من خلال معالجته لها حية، كأنّها تعيش من جديد، ومن هنا تكمن أوجه الاختلاف بين الأديب المبدع والمؤرخ الموضوعي الذي يجب عليه أن يلتزم حرفية الحدث التاريخي ويتجرد من الذاتية، عند عرضه للأحداث والوقائع. في حين يعتمد المبدع الرؤية في تعامله مع الواقع أي نقل الواقع من خلال الذات الفردية أو الجمعية، وبذلك حوّل الكاتب أحداث المقاومات إلى مادة سردية من خلال هذا التفاعل بين الأحداث والوقائع والذات الكاتبة، وهذا التقاطع دفع الذاكرة إلى فضاء الإبداع والكتابة السردية، وبذلك تحولت المادة التاريخية إلى مادة سردية بامتياز.