وجه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة أمس الجمعة، رسالة بمناسبة الذكرى الرابعة والخمسين لاندلاع ثورة أول نوفمبر .1954 يتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل يعتلي نوفمبر تاريخنا كنجم قطبي فالق يشمخ في مداره كل سنة ينير سديم الكون، فيهتدي به السيارة كل إلى مستقره. فكل عام نحج بمهجنا وعقولنا إلى تلك المنارة التي تأذن من علاها الحق. وزحفت من معاقلها الحرية تطهر الأرض من إثم العبودية وتكسر أغلالها وتشحذ همم النساء والرجال وقد اعتمدت قلوبهم الصافية بفيض من الإيمان وامتلأت نفوسهم العامرة بالعزم وشدت أياديهم على بنادق التحرير لطي صفحات عكّرها عار الاحتلال بالقهر وسفك الدماء والتجهيل وكل سفاسف الانحطاط لاستعمار استيطاني جثم على قلب الوطن ما ينوء عن ثلاث عشر عقدا. فكان إعلان التحرير منذ أربع وخمسين سنة خلت مدخل صدق لشعبنا الى بوابة التاريخ تصالح مع وعيه وصالح بين عدالة قضيته ووسائل التحرير، فاستجاب له القدر وآزره الحق، واستهانت أمام عينيه التضحيات، غالب وكابد، صمد وصابر إلى أن استأثر الحسنيين شهداؤه عند ربهم يرزقون في جنات عالية يرفلون، حرية سيدة قابضة بالنواجد على مكتسباتها في وحدة لا تنفصم عراها وطن عزيز واحد وشعب كريم ماجد. أروع فعل خلاق صنعه الجزائريون أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل إذا كانت أمتنا واحدة من أعرق الأمم في الأرض ومن أشدها ابتلاء بالمحن والتحديات، فإن ثورة نوفمبر هي أخطر وأروع فعل خلاق صنعه الجزائريون، أنهى القطيعة مع التاريخ وأصّل الأجيال في ذاتها الحضارية وهيأها لأن تقود مصيرها بنفسها وتبنى على صروح هذه الثورة مشروع الدولة الحديثة الدولة التي بناها أبناؤها على أنقاد الركام والدمار الإستعماري، إننا فخورون بما تحقق في عهد استقلالنا من انجازات مادية ومعنوية اقتصادية وتربوية وصحية وما إليها. فالنظرة الموضوعية والنقدية لما تحقق بعد مرحلة سياسة الأرض المحروقة للإحتلال تثمن لا محالة الخطوة العملاقة للتطور الاجتماعي بأبعاده المتعددة ولا يدرك أمر هذه الإنجازات إلا من خلال المقارنة الرقمية لحجم الفوارق الجبارة بين المرحلتين إلا أن طموحنا وطموح أجيالنا الصاعدة تفضل أكبر من واقعنا وهو أمر موضوعي لدفع حركة التاريخ إلى الأمام والتدرج في المسار التنموي المستديم. إن استيعاب الحقيقة بكافة مكوناتها لمرحلة الاحتلال والرجوع بالحديث عنها ليس لمجرد التباهي والتغني بانتصارات شعبنا وكسره الطوق الحديدي الذي ارتهنه داخل حلبة التخلف عشرات السنين وإنما لاستخلاص الدروس واستقاء العبر لهذا الحدث الفارق الذي يجب أن يظل جذوة متقدة في الأذهان وحافزا لشحذ الارادات وقدوة في الإيثار والعزم ونكران الذات. فالنفس البشرية نزاعة الى النسيان وهو آفة قاتلة لاسيما إذا أصابت منا المرجعيات والأسس. إن تفكيك العلاقات بين الإنسان وقيمه ومآثره يحيل النسيج الاجتماعي والذهني والروحي للشعوب الى حالة اللامقاومة، فتضعف المناعة وتفتر الحماسة وتخور الارادة فتتآكل الأنساق والبنى الاجتماعية ويعتريها التخلف والتفكك واللامبالاة. مقاومة دائمة للتمسك بالذات الحضارية وشروط النهضة أيها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل وللتذكير بهذه المواعيد البارزة والمميزة ليس من باب الترف والتدبيج الانشائي الأجوف وإنما دعوة متجددة لهزهزة السواكن وتحذير من شرور الغوائل بضرورة المقاومة الدائمة من خلال التمسك بالذات الحضارية والدفاع عنها بخلق شروط النهضة. النهضة النابعة من عبقرية الأمة المبدعة والمنتجة والمخترعة التي ترنو دائما وأبدا إلى الأفضل والأرقى والأجود. فلكل عصر أمراضه وأعاصيره وهزاته ولا يمكن للأمم مقاومة الأخطار والتصدي للمحن إلا بالمغالبة والمسك بخيارات التنمية المتجددة. أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل إن الجزائر وعلى مدى السنوات الأخيرة أرست دعائم تنمية شاملة لا ينكرها إلا حاسد أو متطير متشائم النفس، فالإنجازات الشاخصة للعيان في مجال الهياكل القاعدية والطرقات والسدود والجامعات والمدارس والسكن والعمران بوجه عام والتربية والتكوين وتنشيط البحث العلمي ودعمه وتفعيل الإبداع الفني والثقافي، فضلا عن الاستقرار الذي تحظى به الجزائر، مما أكسبها مزيدا من المصداقية في الخارج كل ذلك وغيره يؤكد حقيقة التحولات الايجابية في مجال التنمية الوطنية دون صخب إعلامي أو دعاية، اعتقادا منا أنه من واجبنا المقدس خدمة شعبنا بنفس الأمانة والعزم الذي خدم به جيل نوفمبر. وعلى الرغم من صعوبة الخيارات التي أقدمنا عليها وفي مقدمتها الوئام المدني والمصالحة الوطنية الشاملة، إلا أننا صمدنا بكل ثقة وإخلاص إيمانا منا بأن هذه الخيارات وحدها كفيلة باستتباب الأمن وفرض السلم المدني وجمع كلمة الأمة وحشر المراقين التكفيريين في زاوية ضيقة وسيخسؤون بإذن الله وهي الخيارات التي تنسحب على البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، اعتقادا منا بأن التنمية هي منظومة تتكامل فيها كافة المعطيات المادية والمعنوية. تعويض الريع النفطي بالعمل المنتج وبفضل هذه الخيارات سنواجه الإعصار الإقتصادي وارتداداته لاسيما على الإقتصاديات الضعيفة للدول النامية ويبقى همنا الأكبر هو تعويض الريع النفطي بالقيمة المضافة للعمل المنتج ماديا وذهنيا وتكنولوجيا باللجوء الى خيارات أخرى في الزراعة والصناعات المتنوعة لاسيما التحويلية والإهتمام بالطاقة خارج مجال المحروقات والخدمات. وأهيب بشباتنا وشبابنا بالاندماج في هذا المسعى والتعويل على المعمل المثمر، العمل المنتج وأعمال العقل ضمن شروط إمكانيات البلاد وخيراتها والكف عن ملاحقة السراب الذي تخدعنا به فضائيات ومحطات تروج للزيف والرخاء وراء البحار. فإذا كان من باب العبرة والاعتبار الحديث عن جيل الأمس حري بنا اليوم أن نعنى بشبابنا بوصفه امتداد لسلفه حتى يعي الدرس ويتسلم المشعل ويحافظ على الودائع والمكاسب وينطلق منها في مسارات التنمية الجادة. أجواء التلاحم في ملحمة التحرير أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل وتغمرنا أنسام نوفمبر وتتراءى لخيالنا قوافل الشهداء وتتبدى لنا أجواء تلاحم شعبنا في ملحمة التحرير بشجاعة وإيثار أبتهل الى العلي عز وجل أن يتغمد شهداءنا الأبرار برحمته الواسعة وأن يوفيهم بما وعدهم به من نعيم وأن يتولى رفاقنا من المجاهدات والمجاهدين بالسعادة والهناء وطول العمر وأهنئ كافة شعبنا بهذا العيد الجليل. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار شكرا على كرم الإصغاء والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته