الجزء الثاني والأخير أياما قليلة يحيي المجتمع الدولي الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الانسان، الذى اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كل الشعوب والأمم، والذي حدّد للمرة الأولى، حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالميًا. طيلة أكثر من 70عاما مضت، تحققت مجموعة مهمة من المكاسب للإنسانية وأصبحت حقوق الإنسان بفضل الإعلان جزءًا لا يتجزأ من القانون الدولي والعلاقات الدولية، ولكن هذه التطورات لا يمكن أن تحجب تحديات ورهانات عالم اليوم، الذي أصبح فائق السرعة من خلال عصر المعلوماتية وتطور وسائل الاتصال الحديثة كالشبكة العنكبوتية والهاتف المحمول والاقمار الصناعية. التحديات الرقمية وحقوق الإنسان إن التدبير الناجع لممارسة الحقوق والحريات في الفضاء الرقمي يستوجب الحرص على التكييف المستمر لطرق وأساليب هذا التدبير في إطار من التعاون بين مختلف الأطراف دولا ومنظمات، دوليا وإقليميا، وذلك من أجل تأطير الاستعمال السليم لهذه التكنولوجيا، والعمل على إرساء ما أكدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 68 والمجلس الدولي لحقوق الإنسان في دورته 26: «أن ما ينطبق على حقوق الإنسان من حيث ممارستها وضمان التمتع بها خارج الفضاء الرقمي، ينطبق عليها كذلك داخل هذا الفضاء»، كما يستوجب الإدراك أنه بقدر ما تمكّن هذه التكنولوجيات من تيسير الولوج إلى مختلف أنواع حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، المحمية بمقتضى معاهدات حقوق الإنسان الدولية، بقدر ما يمكن أن يتحول استعمالها إلى أداة لانتهاك منظومة الحقوق والمساس بالنظام العام. وبالأخص التأثيرات التي قد تفرزها مخاطر سوء استخدام التطور الحاصل في أدوات العالم الرقمي، على غرار انتشار الاخبار الزائفة والدعاية على الانترنت، اللذان يؤديان إلى التضليل وانتهاك حقوق الانسان والحياة الخاصة، فالتضليل كفيل بان يمس، سواء كان متعمدا أو غير متعمد، قيما عالمية مثل الديمقراطية ذات الصلة بالانتخابات والشأن العام والتأثير على اختيارات الناخبين أو المشاركة السياسية أو ممارسة حق من حقوق الإنسان إلى غير ذلك من التهديدات. هذه الحقوق حظيت باهتمام الهيئات والمنظمات الدولية، انطلاقا من إيمانها العميق وتأكيدها المستمر على وجوب احترام حقوق الانسان وإقامة شروط افضل للحياة في جميع ارجاء الكرة الارضية، غير ان التساؤل المطروح، ما هي الخطوات الكفيلة لحماية هذه الحقوق مع التحديات الرقمية المعاصرة وسبل تعزيزها في ضوء التطور التكنولوجي؟. فبالرغم من الاهتمام الذي حظيت به حقوق الإنسان من طرف المجموعة الدولية والتي تبلورت بصدور العديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي تعبر عن التزام الدول باحترامها لخصوصية الأفراد، على غرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص: «لا يجوز أن يتعرض أحد للتدخل التعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو بحملات على شرفه وسمعته ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات»، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي نص على ضرورة عدم التدخل بشكل تعسفي أو غير قانوني في خصوصيات الشخص وأسرته وحرمة مسكنه وسرية مراسلاته والحفاظ على سمعته وشرفه، إلى جانب العديد من المؤتمرات التي دعت إلى المحافظة على الخصوصية، إلا أن الملاحظ على هذه الاتفاقيات والمؤتمرات بالرغم من حمايتها للحياة الخاصة بصورتها التقليدية، فإنها لم تعالج مسألة حماية الحياة الخاصة مع نشوء وتطوّر التكنولوجيا المعلوماتية وأثرها على هذا الحق، خاصة بعد الانتهاكات التي أصبح يتعرض لها بصفة متزايدة وخطيرة، بسبب التطورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة، وكنتيجة لذلك، اثيرت نقاشات دولية وإقليمية وظهرت العديد من التوجهات الدولية بما فيها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة وإسهامات مجلس حقوق الانسان والمقرّر المعنى بحماية الحق في الخصوصية، تصب في اتجاه عام يسود المجتمع العالمي على أن الوضع الحقوقي الجديد يقتضى احتراما لحق الخصوصية وتوفير الحماية اللازمة له في ظل التحديات الرقمية المعاصرة، وذلك في إطار معالجة التحديات القانونية والفنية والتنظيمية المتعلّقة بالأمن السبراني على الصعيد العالمي والإقليمي والوطني، كما تعتبر أن الحقوق الرقمية الجديدة هي نفس الحقوق التي يتمتع بها الناس يتعين حمايتها ايضا في الفضاء الرقمي. ومن التحديات الأخرى التي تعيق حماية حقوق الانسان في العصر الرقمي باعتبارها حقوقا عالمية، تلك الفجوة التكنولوجية بين مختلف الدول، حيث لا تزال العديد من الدول متخلفة عن الاستفادة من حيث الانتشار وقيمة التكلفة والاستعمال وخدمات الثورة الرقمية مقارنة بالدول الرائدة في هذا المجال باعتبار الثورة التكنولوجية ظاهرة عالمية هذا من جهة، ومن جهة أخرى تطرح مخاطر اتساع نطاق المراقبة وجمع البيانات الضخمة وتخزينها وتعاظم إشكالات استخدام التكنولوجية وادواتها الذكية من حيث نقص في التنظيم أو إفراط في التنظيم وسوء استخدام متعمّد، اسئلة عديدة حول المسؤولية في معالجة هذه المخاطر المتعددة والمعقدة التي تتجاوز الثقافات والحدود الوطنية والسلطات القضائية، سوآء كان ذلك بالنسبة للدول المستخدمة وهى التي تتحمل المسؤولية الاساسية لحماية حقوق الانسان و ملزمة بالوفاء بالتزاماتها الذاتية المتعلقة بحقوق الانسان او بالنسبة للقطاع الخاص الممثل في الشركات المصممة لهذه الادوات التي تجمع البيانات وتجرى المراقبة بالإضافة إلى صيانة الانظمة، حيث تخزن المعلومات، وذلك استنادا لأحكام معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان التي تنص على اعتبار كل من الشركات المنتجة والدول المستعملة لهذه الانظمة غير المشروعة متواطئة في انتهاك حقوق الانسان وعليها أن تتحمل مسؤولياتها كاملة، خاصة في الحالات المستهدفة غير المشروعة على وجه الخصوص. في حين تنصّ مبادئ الأممالمتحدة التوجيهية بشان الاعمال التجارية وحقوق الانسان على معيار عالمي ملزم للتعامل مع تأثير الاعمال التجارية على حقوق الانسان و يجدر تطبيقه بكل حزم عند تطوير الانظمة الرقمية وسائر معملاتها. ومما لاشك فيه أيضا، أن الجهود العالمية قد سعت طويلا في سبيل ترسيخ الضمانات والأليات الرامية إلى معالجة إشكالات حقوق الانسان في الفضاء الرقمي، من خلال العديد من التوصيات والقرارات والمبادئ التوجيهية والارشادية، وبالرغم ذلك، فإن التطورات التكنولوجية المتلاحقة ادت إلى بروز موجات متصاعدة من الجدل على كافة المستويات وبصفة خاصة على المستوى القانوني، ناهيك عن تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية والأمنية وضرورة تحقيق التوازن بين الشواغل الامنية و قضايا حقوق الانسان، حيث اصبحت تلك الجهود لا تشكّل بحدّ ذاتها حصنا قويًّا امام حجم التحديات و الرهانات التي يواجهها المجتمع الدولي. فالمجتمع الدولي الواعي بكل هذه التحديات، اصبح في امس الحاجة لفرض المزيد من الضوابط والقيود المنظمة لهذا المجال المريب، خاصة في حالاته غير المشروعة، والعمل على الحد من المخاطر التي تتربص بحقوق الانسان بصفة عامة وبالحق في الخصوصية بصفة خاصة، ولتحقيق ذلك، فإنه مطالب بتعزيز التعاون والشراكة من اجل العمل على تنظيم مستقبل حقوق الانسان في ظل العصر الرقمي، من خلال تطوير الاطار القانوني لحماية حقوق الانسان وإعادة هيكلة المنظومة الرقمية لتحقيق الشفافية الدولية واستعمال التكنولوجيا بشكل إيجابي وضمان سلامة المستعملين من الجرائم الإلكترونية وحفظ بيناتهم من القرصنة من خلال وضع مبادئ توجيهية واضحة بشأن التزامات الدول وكذلك بشان مسؤوليات الشركات وحثها على حماية وتطوير حقوق الانسان بدل تقويضها. إن احترام هذه الحقوق سريع التغير، يقتضى فضاء يعكس إيجاد موقف قانوني عالمي للدفاع وتعزيز حماية حقوق الإنسان العالمية والتمتع بها في الفضاء الرقمي بما يتوافق العديد من المبادئ الأساسية مثل الشفافية والحوكمة والمساءلة والرقابة وذلك لضمان والتأكد من أن الثورة الرقمية تخدم الناس وليس العكس. فإذا كانت العولمة طغت على العالم، فإن المجموعة الدولية تحتاج ايضا إلى حلول لمواجهة التحديات الرهيبة التي تفرضها التكنولوجية الرقمية، حيث تسلط مقاربة حقوق الانسان الضوء على جوانب عديدة من حيث الحق في الخصوصية وتعميق التميز وعدم المساواة. الجزائر والتحدي الرقمي لحقوق الانسان فالتطور التكنولوجي أرسى اسسا جديدة لما يعرف بالفضاء الرقمي، استطاعت من خلاله الدول والشعوب، التواصل والتخاطب مباشرة وتحقيق التقدم في مختلف الميادين، إلا أن الاستخدام المفرط لتكنولوجيا الاتصالات والانتشار المذهل للمعلومات(ثورة المعلومات)، ضاعف من نسبة الاختراقات ووسائل التجسس وخلف العديد من التجاوزات. وأمام هذا الخطر المتعدد (جرائم الكترونية،ارهاب إلكتروني وحروبإلكترونية)، لجأ صناع القرار في مختلف بلدان العالم، لاسيما الدول الكبرى إلى إطلاق الإنذارلإعادة بناء حواجز تقنية لمنع هذه الهجمات )الأمن السيبراني (خاصة وأن عمليات الاختراق و الابتزاز بلغت مستويات من شأنها المساس بالأمن الوطني، القومي والعالمي. فالجزائر، حسب الخبراء من بين الدول أكثر استهدافا بمثل هذه الاختراقات و الهجمات الإلكترونية، لا سيما في الفترة الاخيرة، حيث شهدت بلادنا هجمات متتالية عن طريق محتويات عدائية تم نشرها عبر مواقع الانترنت، إذ تعد المواقع إلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي والادوات الأخرى من أهم «الاسلحة» المستخدمة في مثل هذه الجرائم او بما اصطلح عليه «بحروب الجيل الرابع و الخامس»، الامر الذي يعطى الحق للدولة الدفاع المشروع عن حقوقها السيادية والرد على الجهات المعادية التي تشن حملات وهجمات متعددة الابعاد. إن التحدي البارز اليوم، هو المواجهة الذى سببته عواصف التضليل والدسائس في هذه المرحلة والتي تتطلب اليقظة وحشد، الطاقات لدرء الخطر والمحافظة على امن واستقرار الوطن، ذلك أن الجبهة الداخلية المتينة ووعى وشعور المواطن بالمسؤولية يسهمان في تحصين الوطن. ومما لا شك فيه ان الفضاء الرقمي في تطور سريع وتوسّع مستمر. مع اتساع نطاق التقنيات الرقمية وتجلياتها بشكل متزايد في جوانب حياة المجتمع وبروز ظاهرة الأخبار الزائفة التي قد يصل مداها إلى المساس بجوهر حقوق الإنسان، يعد بمثابة سلاح ذو حدين. وذلك باعتبار الأدوات الرقمية والوسائط الاجتماعية مصدر نقل المعلومة، إذ أصبحت قوة متناسبة التطورات ومتلاحقة التأثيرات حيث ساهمت التطبيقات الجديدة مثل فايسبوك وتويتر.. في دعم التوجهات المتمردة في المنطقة العربية خلال ما يعرف بالثورات العربية بشكل مثير ما ادى إلى دمار و ماسي كثيرة و عدم استقرار. فالجزائر كغيرها من الدول ليست عن منأى هذه التحديات والرهانات القائمة التي تقتضى الحرص الدائم على التكيف مع التحولات السريعة لهذا الفضاء وتوفير الحلول الناجعة واللازمة سواء الاستباقية او العلاجية لمسألة مواجهة أخطار الأمن السيبرانى وامن الاشخاص وخصوصياتهم، وذلك بهدف تعزيز الأمن السيبرانى وحماية المصالح الحيوية للدولة وامنها الوطني والبنى التحتية والقطاعات ذات الأولوية (كالأنشطة الحكومية والخدمات)، وفي نفس الوقت من أجل الحفاظ على المكتسيات المحققة في مجال حقوق الإنسان والحقوق الأساسية للمواطنين وتعزيزها. كما إن توفير مناخ التحول الرقمي في الجزائر، يعد تحديا أساسيا لواقع اليوم، بل فحسب فإنه يمثل ايضا رهان المستقبل الذى يتعين على الجميع ان يدرك اهميته في هذه المرحلة، و يعي جيدا ما تفرضه من واجبات و مسؤوليات مشتركة، ولذلك فإن تحقيقه يقف على مدى الاستجابة لمتطلبات بناء و صون سيادة سيبرانية للدولة على فضائها الإلكتروني، وتأمين الشبكة الافتراضية تكريساً لسيادة الدولة على مجال الرقمنة. وانطلاقا من دور الجزائر المحوري إقليما ودوليا وترسيخا لمبادئها السامية المكرسة في الدستور بتمسكها بالسلم وحقوق الانسان والتنمية، اصبح من الضروري تجسيد ذلك كله على الصعيد الدولي من خلال تعزيز التعاون مع الدول والمنظمات المعنية لإيجاد الحلول لمختلف الاشكالات والمساهمة في تطوير الاطار القانوني الدولي من اجل الوصول إلى فضاء يضمن ان تخدم التكنولوجيا الرقمية بشكل افضل حقوق الاشخاص و تدعم مسعى تحقيق اهداف التنمية المستدامة. اما بالنسبة للتحديات الاخرى وأبرزها مسألة تكييف حرية التعبير مع الثورة التكنولوجية الرقمية وتأطيرها على منصات التواصل الاجتماعي والإنترنت، يتضح جليا ان الامر يقتضى مجموعة من الاجراءات (العملية التنظيمية و التحسيسية) على غرار الإجراءات التنظيمية لإطار الشركات الرقمية المتعددة الجنسيات كالشركات الممثلة لمنصات التواصل الاجتماعي بغرض حماية المعلومات والبيانات العمومية والحياة الخاصة للجزائريين وإنتاج محتوى رقمي وطني ووضع إجراءات عملية للحدّ ومحاربة مختلف الحملات المتعلقة بخطابات الكراهية والعنصرية والاخبار المزيفة وحملات التغليط، كما يجب تطوير الفكر النقدي لدى الشباب والأجيال الناشئة وتعميم التربية الإعلامية والحملات التوعية والتحسيسية بمخاطر الفضاء السبيرانى واكتساب قدرات تفكيك الخطابات في أشكالها الجديدة، كسبيل انجع كفيل بالحد من التجاوزات المتسترة تحت غطاء حرية التعبير و حرية الاعلام، وذلك حفاظا على حرية التعبير الحقيقية المكرسة للديمقراطية الحقة. غير ان تجسيدها و التكيف مع مقتضياتها، لا يتحقق إلا في إطار توسيع الشراكة الوطنية وتوحيد تنسيق الجهود بين مختلف الفاعلين و ذلك من اجل البحث عن مختلف الاشكالات التي يفرزها التطور التكنولوجي وفي مقدمتها تهديد وانتهاك ما يتمتع به الافراد من حقوق وحريات أساسية وكذا البحث عن الحلول الناجعة والمسؤولة لمعالجتها في إطار الاستخدام الامثل والقانوني لنظم المعلومات والاتصالات الحديثة خدمة للمجتمع والمصلحة العامة وحفاظا على المصالح العليا للوطن.