الجزاء الأول أياما قليلة يحيي المجتمع الدولي الذكرى السّنوية للإعلان العالمي لحقوق الانسان، الذى اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948، بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كل الشّعوب والأمم، والذي حدّد للمرة الأولى، حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالميًا. طيلة أكثر من 70 عاما مضت، تحقّقت مجموعة مهمّة من المكاسب للإنسانية، وأصبحت حقوق الإنسان بفضل الإعلان جزءًا لا يتجزّأ من القانون الدولي والعلاقات الدولية، ولكن هذه التطورات لا يمكن أن تحجب تحديات ورهانات عالم اليوم، الذي أصبح فائق السرعة من خلال عصر المعلوماتية وتطور وسائل الاتصال الحديثة كالشبكة العنكبوتية والهاتف المحمول والأقمار الصناعية، حيث غيّر الفضاء الرقمي كل جانب من جوانب الحياة، وحسّن حياتنا اليومية بشكل كبير، كما أنّ تسارع وتيرة الثورة الرقمية بشكل مثير، منح الانسان فرصة هائلة للتواصل والتقارب والتقدم لكنها بالمقابل فرضت تحديات وإشكالات عديدة باتت تشكّّل تهديدا حقيقيا للمبادئ السّامية لحقوق الانسان مثل تفاقم خطاب الكراهية والعنصرية والتحريض على العنف، ناهيك عن مخاطر أخرى تتعلق بتهديد الحق في الخصوصية، فبقدر ما تقدّمه الثورة الرقمية من مزايا فإنّها تجلب العديد من المخاطر التي تؤدى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى إلحاق الضرر بالأفراد والمجتمعات، وعلى نحو متزايد. في وقت تتصاعد فيه حدّة التوترات الجيوسياسية والأمنية العالمية، يبقى التعاون الرقمي بين الدول وإيجاد فضاء إلكتروني عالمي يعكس المعايير العالمية للسلام والأمن وحقوق الانسان والتنمية المستدامة ضروري لضمان أمنه. الثّورة الرّقمية وحقوق الإنسان..مزايا ومخاطر الجميع يدرك الفوائد الهائلة التي يوفرها عصرنا الرقميّ في كلّ مجالات الحياة وليس مجال حقوق الإنسان فقط، حيث يوفّر الأنترنت المفتوح، الوصول المبسط إلى المعلومات والمعرفة والثقافة والتعليم، بل أصبح الولوج إلى الأنترنت حقّا من حقوق الإنسان، والولوج إلى المنصات الرقمية الاجتماعية واستعمالها من أدوات ممارسة هذه الحقوق والتمتع بها، لدرجة أنّ استعمال هذه المنصات أصبح في جوهر النقاشات الحقوقية الدولية والدفع باعتبارها خدمة عمومية ومؤشرا لقياس مدى ضمان الحريات، أو كنموذج ناشئ للحريات العامة الذي يحدّد أشكالا جديدة للتعابير العمومية، لتتطوّر لفعل عمومي يسائل السياسات العمومية أو يدعو لحماية حق من الحقوق. فوسائل التواصل الاجتماعيّ والأدوات الأخرى، تساعد منظمات المجتمع المدني المختلفة على التواصل والتنامي وأداء عملها، لاسيما فيما يخص مساهمتها في جمع المعلومات وضمان عمليّات أفضل للرصد والتحليل والتوثيق من خلال مجموعة واسعة من التطبيقات بهدف استخدامها في دعم التحقيقات في مجال حقوق الإنسان أو إكمالها. فضلا عن ذلك، فإنّه يمكن للأدوات الرقميّة أن تساهم أيضًا في إطلاق إنذارات مبكرة وتنبيهات بخصوص قضايا حقوق الانسان على غرار العنف وارتفاع حدة خطابات الكراهية والتمييز وسوء المعاملة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على عناصر تشير إلى أشكال الرق المعاصر كالإتجار بالبشر والهجرة غير الآمنة، وغيرها من المؤشرات التي تشكّل إنذارًا مهمًّا لمنع وقوع العديد والمزيد من الانتهاكات من خلال استخدام تدفق البيانات والمعلومات في الوقت المناسب والتصرف السريع في نقل الاحداث صوتا وصورة، وبذلك يمكن القول أن الأدوات الرقميّة هي بمثابة شريك فعال في الدفاع عن حقوق الإنسان. كما تبرز آثارها الايجابية على الحق في الخصوصية، حيث أصبح لمستخدم وسائل الاتصال ومنتسب الوسائط الاجتماعية الجديدة إمكانية مشاركة يومياته ونشاطاته ومعاملاته وحتى اتصالاته السرية، بل تعدى ذلك إلى استخدام هذه الوسائل في جمع وتخزين المعلومات والبيانات الشخصية لأغراض متعددة، خاصة وأن كافة المعلومات المتعلقة بجميع جوانب الحياة الخاصة داخل الأجهزة الالكترونية وشبكات المعلومات يمكن جمعها وتخزينها لفترة غير محدودة، والرجوع إليها بمنتهى السرعة والسهولة، فعلى الرغم من أهمية الثورة الرقمية وما لها من آثار إيجابية سبق بيانها، إلا أن لا أحد يمكن أن ينكر الجانب المظلم لهذا الفضاءالرقمي، بالنظر إلى الآثار التي قد يخلفها على الواقع الحقيقي، ناهيك عن مخاطره العديدة التي أضحت تهدد مستقبل حقوق الانسان، وبالخصوص الحق في الخصوصية، فمع استمرار الثورة الرقمية وبروز التسارع الرهيب الذى يتيحه مجال الذكاء الاصطناعي عبر تطبيقات عديدة وجديدة، سيزداد حتما استخدام التكنولوجيا للأغراض المشروعة أو غير المشروعة، بقصد أو بغير قصد من خلال استغلال واستخدام ملفات شخصية في مختلف مجالات الحياة، وفي الاغراض المطلوبة ضمن الخوارزميات والبرمجيات التي تتميز بها أنظمة الذكاء الاصطناعي القوية والانظمة الرقمية الاخرى، التي تعمل على تحديد وتقييم وتصنيف الاشخاص، واستخلاص استنتاجات وتنبؤات طبقا للعناصر المتوفرة في البيانات المجمعة والمخزنة بصفة غير منظمة أو تعسفية وغبر عادلة، قد تشوّه سمعة شخص أو تقصي شخصا آخر دون مراعاة المبادئ السامية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان كالمساواة والحقوق غير القابلة للتصرف والكرامة المتأصّلة في الإنسان، والحق في العيش دون تمييز وممارسة الحق في المشاركة السياسية وحماية الخصوصية والصحة والحرية، وبذلك تصبح عقبة تجعل من أنظمة الذكاء الاصطناعي عاجزة عن فهم مدى تعقيد تلبية الاحتياجات البشرية. وممّا يجب الاشارة إليه في هذا الجانب، فإن سهولة عمليات التخزين والمعالجة الالكترونية وازدياد تدفق المعلومات التي تتم عبر وسائل تقنية المعلومات الحديثة، تضعف قدرة الفرد عن التحكم في تدفق المعلومات الخاصة به، إذ أصبحت المعلومات الشخصية في ظل الشبكة العالمية متوفرة، ما يؤدي إلى ازدياد التهديدات لخصوصية الناس، فقد أصبح الوصول إلى المعلومات الشخصية بصورة غير مشروعة أكثر من ذي قبل، وازدادت فرص إساءة استخدامها. كما أن سوء التنظيم والافراط في التنظيم والاساءة المعتمدة لعملية تخزين المعلومات على نطاق واسع من طرف الشركات المعنية والشركات المتخصصة، تمثل مخاطر أخرى على الحق في الخصوصية. فالكثير لا يعرف أو ليس لديه فكرة عمّن يمتلك البيانات وكيف يتم استخدامها، علاوة عن استغلالها في أغراض واضحة أو مبهمة، فإنّ الآثار المرتبطة بإساءة استخدامها كبيرة أيضا على شؤون حياة الأشخاص وسير المؤسسات. ومن جانب آخر، تمكّن التطور التكنولوجي من عولمة المعلومات والاتصالات عبر الحدود دون اعتبار للجغرافيا والسيادة، بحيث تعطى المعلومات لجهات خارجية بل وتعطى لجهات مجهولة، ما يثير إساءة استخدام المعلومات، فانتشار النقل الرقمي للمعلومات والبيانات الشّخصية أدّى إلى ظهور جرائم ماسة بسيادة الدول وبحرمة الحياة الخاصة عبر وسائل تقنية المعلومات الحديثة كالتجسس الإلكتروني، والجرائم السيبرانية أو ما يندرج في إطار ما يصطلح عليه «الحرب الإلكترونية» التي تتميز بأسلوبها الخاص، فهي تستهدف المجتمعات، وتقوم على الدعاية والدعاية المضادة، من خلال تبني استراتيجية التأثير على الإدراك الجماعي بغرض التلاعب بالرأي العام لمواطني الدولة المستهدفة، وتوجيه سلوكياتهم ونمط تفكيرهم، دون أن تعلن عن نفسها، ودون أن يكون لها عنوان واضح أو تأثير مكشوف حاملة وراءها الكثير من المخاطر، والتي قد تؤدي إلى اعتداءات جد خطيرة تؤثر سلبا على موثوقية ومصداقية المعلومات المتداولة بالفضاء الرقمي، وخصوصية بيانات الأفراد والسير الحسن للمؤسسات الاقتصادية والهيئات الحكومية والبنى التحتية الحساسة للدولة، أو من خلال انتشار الشائعات والمعلومات الخاطئة والرسائل الالكترونية المزيّفة، وتعدّد أساليب ترويج خطابات الكراهية والتحريض على العنف عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تهدّد ليس فقط الاستقرار والأمن المجتمعي الوطني فحسب بل تقوّض الاستقرار الدولي، ممّا يؤدى إلى المساس بجوهر حقوق الانسان ألا وهو الحق في الامن باعتباره حقا من الحقوق الاساسية للإنسان. وبالإضافة إلى هذه المخاطر، فإن اتساع نطاق المراقبة السيبرانية السرية يعد بمثابة أزمة عالمية ابتليت بها حقوق الانسان في عصرنا هذا، بالنظر إلى حجم الانتهاكات المرتكبة عبر برامج المراقبة غير المشروعة و تطبيقات التجسس، خاصة ما تعلق بنظام «بيغاسوس» الذي خلّف موجة من الاستياء في أرجاء المعمورة، جراء الاستهداف الممنهج للأشخاص وكيانات الدول، ليس فقط بالنظر إلى المخاطر والأضرار التي قد تلحق بالأشخاص المستهدفين بصورة غير مشروعة فحسب، بل ايضا بالنظر إلى العواقب الجسيمة التي تلحق بحقوق الانسان على الصعيد العالمي وأمن البيئة الرقمية بوجه عام، حيث تكمن هذه الخطورة حسب متخصّصين في أمن البيانات والمعلومات والخبراء في تقنيات حماية البيانات، في مهام برامج الاختراق والتجسس التي ترتكز أساسا على نقاط الضعف الأمنية في برامج تشغيل الهواتف المحمولة والمرور من خلالها إلى البيانات المخزنة في الجهاز. ولعل وقوع عديد من الشخصيات السياسية وأطياف من المجتمع المدني بما فيهم صحافيين ضحايا برامج التجسس، قد ينذر بتفشي انتهاكات حقوق الانسان على نطاق واسع يشمل مختلف الافراد في انتهاك تام لحقهم في الخصوصية. فالخصوصية، فضلا عن كونها حقّا بذاتها، تعتبر أساسا لحقوق أخرى لا يمكن التمتع الفعلي بها بدون هذه الخصوصية، وفي هذا الشأن، عبّرت مختلف المنظّمات الحقوقية الدولية غير الحكومية والمنظمات المختصة بحماية البيانات بما فيهم خبراء المعلوماتية عن قلقهم على العواقب الوخيمة التي قد يخلفها سوء تنظيم قطاع برامج التجسس وانفلاته من القيود والضوابط على حقوق الانسان لاسيما الاختراق المستمر لخصوصية الأشخاص في مختلف مناطق العالم، وذلك بسبب ما يرجع حسبهم إلى خلل في التّشريعات والقوانين المنظّمة لبيع وشراء تلك البرمجيات الحسّاسة، حيث يرى البعض أن تلك البرمجيات تسبق بخطوات الأطر التشريعية والقانونية الضابطة لتداولها واستعمالها، ويرى البعض الآخر، أنّ هذا المجال لا يتمتّع بقدر كاف من الشّفافية من حيث القوانين المنظّمة له، وهي التي تعتبر مجرّد أطر عامة غير ملزمة. فيما شدّدت في هذا الإطار، مفوضية الأممالمتحدة السّامية لحقوق الانسان على لسان ميشيل باشليت في 15 سبتمبر 2021 بمناسبة تقديم تقرير مفوضية حقوق الانسان في الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة «على الضرورة الملحة بشأن وقف بيع واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تشكّل خطرا جسيما يهدّد حقوق الانسان إلى أن يتم اعتماد الضّمانات الملائمة، ودعت أيضا إلى حظر تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي لا يمكن استخدامها بما يتماشى والقانون الدولي لحقوق الانسان». لا شك في أنّ الامكانيات الإيجابية للتكنولوجيا الرقمية هائلة، حيث تقدّم التكنولوجيا الرقمية بالفعل العديد من المزايا التي لا جدال فيها من منظور حقوق الإنسان والتنمية، فالذكاء الاصطناعي ومختلف وسائل وأدوات الفضاء الرقمي، قد تشكّل قوة وميزة تساعد المجتمعات على التغلب على بعض التحديات البارزة في عصرنا، ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الجانب المظلم لهذه الثورة الرقمية، ولا نكران مخاطرها الواضحة، وآثارها السلبية، بل الكارثية إذا ما تم استخدامها من دون إيلاء اعتبار كاف لكيفية تأثيرها على حقوق الانسان. فبدل أن تكون التكنولوجيا وأدواتها وسيلة نافعة للمجتمعات وحصنا لحماية حقوق الاشخاص وتقدمهم، باتت أداة ناقمة تطرح تحديات خطيرة ورهانات جديدة تستلزم توفير الإمكانيات لمواجهتها دوليا ووطنيا، وفي نفس الوقت تفرض جملة من الواجبات والمسؤوليات المشتركة لضمان استخدام آمن لها بما يضمن حماية حقوق الانسان، والتمتع بها في هذا الفضاء الرقمي بدل تقويضها. ^^^ يُتبع