يعدّ المسرح الفن الأقدر من بين الفنون التعبيرية في تصوير التجربة الإنسانية بكل جزئياتها متوسلاً وسائله المختلفة سواء أمِنْ جهة الأداء أم اللّغة، ومن أجل ذلك تبنت كلّ الثقافات البشرية فنون الأداء من أجل اِكتمال الحالة التعبيرية عن حياتها الخاصة. الحلقة الأولى يبقى فن المسرح حتى مع تطوّر مستويات التواصل البشري مرآة تعكس صورة الإنسان في فردانيته، وكذا في علاقته بالمجتمع، فهو يعبر عّن رغبات الإنسان وأفكاره، ويجسّد الواقع بكل آلامه خاصة وأنّ للمسرح القدرة على التأثير في نفوس المتلقين سواء مشاهدين أم قراء. ولعلّ من بين الجزئيات التي تُبقي الوجود البشري على هذه الأرض هو طبع التدافع بين الناس من أجل تحقيق غاياتهم المختلفة، وهذه الصّفة في الحقيقة على ما تولده من إلغاء للآخر إحقاقا للذات، وما ينتجه ذلك السلوك من بؤس في حياة الإنسان إلا أنه سنّة كونية أقرها النص القرآني في قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا} (سورة الحج - 40)، فالصّراع الذي اتخذه الفن المسرحي واحدا من أهم مقوّماته المحققة للفعل الدرامي، إنما هو في الحقيقة سنّة كونية محققة للوجود الإنساني. ومنه كان السّؤال الذي تنهض به هذه الورقة البحثية هو القراءة العمودية في مبدأ الصّراع، من خلال استفزازه بأسئلة نصية وأخرى ركحية؟ ثم لماذا الصّراع في المسرح بالذات، كما نتساءل عن أنواع الصّراع الكائنة في الفعل المسرحي؟ وهل يبقى الشرط الجمالي هو المعوّل عليه في توظيف الصراع في المسرحية؟ أم أنّ هذا الخير يشكل ضرورة ملحة لتمام الفعل الدرامي في أي عمل مسرحي؟ المسرح، صراع النّص والعرض على عكس الفنون التعبيرية جميعا يظهر في فن المسرح قطبين اثنين للعملية الإبداعية هما النص والعرض، وقد تراكمت الأفهام وأضدادها لكل قطب من قطبي الفعل المسرحي حتى صيّرت العلاقة بين النص والعرض المسرحي علاقة جدلية رغم ارتباطها ببعض، وفي هذا تقول نهاد صليحة: «لم يعرف المسرح في بداياته ذلك الصراع الذي احتدم في القرن العشرين بين مؤلف النص المسرحي ومخرج العرض، وكأن شرط وجود أحدهما هو نفي الآخر، أو ذلك الفصل التعسفي الساذج بين النص الدرامي الذي يكتب للمسرح وبين الأداء التمثيلي لهذا النص الذي يحوله إلى غرض مسرحي حي أمام الجمهور». فعالم المسرح في بداياته لم يكن يقيم فيصلا بين النص المسرحي والعرض المسرحي، ولعلّ مردّ ذلك إلى أن الممثل المسرحي قديما كان هو هو كاتب نصّه، فالنص الدرامي أو ما يكتبه ويؤلفه المؤلف المادة الأولية وهو المنطلق الأساس لعملية العرض، فالمسرح عامة هو نشاط جماعي تكاملي يتحقق من خلال اتحاد مجموعة من العناصر لتشكل الإنتاج المسرحي، حيث «كان المؤلف المسرحي في اليونان القديمة مثل أسخيلوس أو سوفوكليس أو يوربيدس كثيرا ما يتولى مسؤولية صياغة العرض المسرحي لنصه، ويتولى مهمة تنظيم العمل وتوزيعه، بل وأيضا تدريب جوق الممثلين والمنشدين والراقصين؛ أي أنّه كان مخرجًا مسرحيًا بالمعنى الحديث». لم يكن العرض المسرحي بحاجة إلى إرشادات نصيّة تحدد دور الممثل ومكملات العرض الأخرى، فهذه بكل بساطة مدمجة في العملية الإبداعية التي يضطلع بها المؤلف الممثل، إذ هو القائم على تنظيمه وتقسيمه واختيار الممثلين وتدريبهم فقط، فهو يكون مؤلفا ومخرجا في الوقت ذاته، وهنا تتذلّل أولى حالات الصراع القائمة اليوم بين النص والعرض. أسهمت الثّقافة العربية في تراكم الفهم الذي يكرس الفرق بين النص والعرض المسرحيين، كونها ثقافة تؤمن بخصوصية العملية الإبداعية حيث كانت دائما تحرص على إلحاق النص بكاتبه والعرض بمخرجه، وببعض التحفظ قد يكون هذا نتاجا للنسق الثقافي الذي كان سائدا منذ كان شعر ديوان العرب، حيث كانت الثقافة العربية تميز بين الشاعر والراوية، وقد سعى رواد المسرح في البيئة العربية إلى ربط النص بالخشبة وبالتمثيل والاتصال المباشر بالجمهور قناعةً بأن المسرح فن تمثيلي قبل أن يكون نصا أدبيا مقروءاً. ربط مارون النقاش النص بالعرض وبالتقديم على خشبة المسرح وبالتمثيل، واعتبر العرض فنا أدائيا يتطلب حضور الجمهور باعتباره هو المتلقي للعرض المسرحي، ويقوم العرض على تشخيص الأحداث والوقائع التي أوردها المؤلف في نصه المسرحي، وزاد على ذلك أن اشترط نجاح أي نص مسرحي يتحقق بجودة الرواية (المسرحية) ورونقها وبديع جمالها يتعلق ثلثه بحسن التأليف، وثلثه ببراعة المشخصين (الممثلين)، والثلث الأخير بالمحل اللائق (مكان العرض). إنّ الصّراع الأول القائم بين النص والعرض ظهر في مهد المسرح مع أرسطو الذي «فصل..النص الدرامي المكتوب عن العرض المسرحي المرئي والمسموع، ووضعه في مرتبة أعلى باعتباره أدبا يقرؤه المثقفون في أبراجهم العاجية، ويتأملونه في عزلة هادئة بعيدا عن صخب الحياة وفي مأمن من مخالطة العامة والدهماء، واعتبر العرض المسرحي لهذه النصوص عنصرا هامشيا». هل كان أرسطو فعلا يقصد التمييز بين المكتوب والمعروض في المسرح أم أن كان يهدف إلى فكرة أخرى تشكل النسق السائد في البيئة اليونانية وهو الفرق بين طبقات المجتمع، فنحن نعرف أن أشد موضع جسد طبقية المجتمع اليوناني هو المسرح في جانبه العمراني بخاصة، حيث يبدأ مدرج الجمهور بجلوس النبلاء ثم قادة الجيش ويأتي من بعدهم العامة من الناس. وهنا نجد هنا أرسطو قد ميّز النص المسرحي على حساب العرض، باعتبار أنّ قراءة النص الدرامي تنفرد به الطبقة المثقفة في أوضاع خاصة، فهم يميلون إلى الهدوء والعزلة أثناء عملية القراءة، «فالنص الدرامي عند أرسطو ليس مشروعا لغرض مسرحي يحتاج لجهد فناني المسرح حتى يتحقق ويكتمل، بل هو مؤلف أدبي لغوي مكتمل بذاته، لا يحتاج شيئا خارجه». يتعملق الصراع بين النص والعرض المسرحيين عندما نثق في المقولة التي ترى أن النص المسرحي مكتف بذاته فبمجرد قراءته تحصل عملية الفهم وتحصل المعرفة، دون الإضافات الأخرى الخاصة بالعرض المسرحي الذي هو «حالة ثقافية يعبر عنها المخرج من خلال أدواته المعرفية، والممثل الذي يجسد رؤيته على الخشبة، فضلا عن عناصر العرض الأخرى مثل: السينوغرافيا، الديكور والإضاءة والأزياء والمكياج، ولا يمكن أن تكتمل هذه الحالة ما لم يكن هناك متفرج يستقبلها». في العرض المسرحي المخرج هو المؤلف وهو الذي يضيف لمسته على النص المسرحي من خلال قراءته الخاصة، حيث أنّ «المخرج هو الذي يختار النص المسرحي أو يوافق عليه على الأقل، وهو الذي يحدد متطلبات العرض المسرحي مكان العرض، والفنانين التعبيريين من ممثلين وراقصين وموسيقيين». إنّ ممّا سبق يظهر أن مبدأ الصراع الذي سيصبح بنية داخلة نصيا يكون قد أفصح عن نفسه كقيمة راسخة في العملية الإبداعية إن على مستوى التأليف أو الإخراج، ثم سنجده قيمة تتأرجح بين الجمالي والضروري في كينونة الفعل الأدائي كلها، وسنقف عند فهم هذه القيمة وأنواعها وطرائق تفعيلها في العمل المسرحي. الصّراع Le Conflit خضع المسرح على غرار كل الفنون إلى فعل التجريب من أجل بلوغ الصورة الأمثل لهذا الفن، وإن كنت أجد بأن فعل التجريب حالة طبيعية تخضع لها كل منتجات النفس البشرية وبخاصة ما تعلق منها بالفن، كون هذه النفس في طبيعتها ميالة إلى التبديل والتغيير وتواقة إلى الحالة المثلى التي لن يصل إليها الإنسان في حالة الركود، وهو لون من ألوان الصراع التي يعيشها الإنسان حتى مع نفسه. وحتى يستقيم الأمر وجب الوقوف عند قيمة الصراع مفهوميا في إطاره المسرحي فهو أحد عناصر الحبكة الدرامية، وهو يعني تعارض الرغبات، والتصادم بين الشخصيات وبعض القوى، وقد اعترف النقد بأنه لا مسرح بلا صراع، إذ أن الفعل المسرحي لا يحتمل الهدوء ومن أجل ذلك تتكون قيمة الصراع كضرورة ملحة من تستدعي الجمالي في الدراما، وبوساطته فقط تظهر معاناة الشخصيات على المستوى الفردي والجماعي، وهو الذي يعطي مبررات مقنعة لاستقطاب اهتمام المتلقي بعامة. يكون الصّراع مؤثرا ومقنعا ويدعو إلى الاهتمام إذا بني على أساس من التوازن والتكافؤ بين أقطابه، وهنا لا نقصد بالتوازن القوة المادية، لأن شرف الشخصيات يكمن في مواجهة مصير مروع قوي وأكبر منها، وهذا الذي يصنع الصورة الكاملة للحياة على خشبة المسرح حين يصبح الصراع مواجهة نبيلة بين القوى المتضادة في عملية ارتقاء صريح عن المادي المحض إلى الإنساني الصرف. وتنمو متعة الصراع عندما تتبادل القوتين المتصارعتين المواقع في سير الحكاية، فلا قوة دائمة ولا ضعف مستمر، فيبدو أحدهما مسيطرا في لحظة ثم يصبح دافعا في لحظة أخرى، وهنا يتسع أفق التلقي لدى المشاهد في متابعتهم سيرورة هذا الانتقال في إيقاع الصراع، وعندها يحدث الانحياز من المشاهد إلى طرف من أطراف الصراع وهو انتقاء لا يحدث بالضرورة في جهة معينة لأنه يخضع لعالم الأفكار والقيم الإنسانية. تمتلئ الحياة التي نعيشها بالصراعات والمتضادات، وتختلف هذه النزاعات باختلاف المواقف والظروف، وكذلك المجالات، فنجد أن هذا القيم تنعكس على الإنسان، والمبدع بصفة خاصة في كتاباته وإبداعاته بطريقة متطورة لعرض أفكاره، فالصراع شمل جميع الفنون من رواية، مسرحية، قصة وشعر مضيفا لها نكهة الجمالية والإبداع الفكري. إنّ الصّراع هو التصادم بين الشخصيات أو النزعات، وهذا ما يؤدي إلى تبيان الحدث في المسرحية أو القصة، وقد يكون هذا التصادم داخليا في نفس إحدى الشخصيات أو بين إحدى الشخصيات وقوى خارجية، كالقدر والبيئة، أو بين شخصيتين تحاول كل منهما أن تفرض إرادتها على الأخرى، وهذه في الحقيقة هي كل أنواع الصراع التي يعيشها الإنسان في حياته متنقلا بين الصراعات الداخلية والخارجية، لكن تبقى صفة الجمالي طاغية على كل عمل فني من أجل الوصول إلى ما يسمى بالفن الخالص. بلغت نظرية الصراع الدرامي ذروتها القصوى في القرن التاسع عشر، فانعكس ذلك على إبداعات وكتابات الأدباء والكتاب والنقاد، لما مارسته من سيطرة وتحكم، فبانت هذه الهيمنة في نصوص المبدعين والنقاد، بل وتبناها بعض الفلاسفة الذين قدموا فيها رؤيتهم الخاصة، حيث يرى هيغل «إنّ الدراما الكلاسيكية، تقدّم لمشاهديها صراعا بسيطا، بينما نحن اليوم نواجه بفيض متنوع من الشخصيات، ونشاهد مفاجآت غير متوقعة خلال مرحلة تعقيد وتطوير الحبكة، وهكذا فإن الدسائس والمؤامرات التي يحيكها شخص ما ضد شخص ما تولد بعض الأحداث الطارئة العارضة، إن الصدام يتسم بالخشونة والفضاضة مما يجعل الصراع على أشده ودائما ما ينتهي بغالب ومغلوب». يقدّم هيقل رؤيته للصراع الدرامي على أنه في حالة تطور مستمر، فإذا كان الصراع الدرامي في الأدب الكلاسيكي يتميز بالبساطة، فإنه هنا يتسم بشدة المواجهة وحدتها إلى درجة أنه يضمن صفة المغلوب والمهزوم بعد كل صراع، وهذا دليل على تبدل الطبيعة البشرية نحو الشّراسة والإغراق في الصراع من أجل تحقيق غاياته بكل السبل الممكنة بغض النظر عن نبل الصراع، وقد أورد هيقل في كتابه علم الجمال أن الفعل المسرحي يتم بالأصل ضمن وسط تصادمي، ويولد أفعالا تصادمية وردود أفعال تجعل من الضروري تخفيف حدته وحله في النهاية، يرى برنارد شو أن الصّراع، أمر ضروري وحتمي للمسرحية، فإذا انعدم الصراع فلا مسرحية، ويدور الصراع دائما بين طرفين، أحدهما صاحب حق، والآخر غير مستحق، أو أحدهم خيّر والآخر شرير، والمؤلف الماهر هو الذي يجعلنا نتشوق ونتساءل أيهما البطل، وأيّهما الشّرير، وهذا في الحقيقة يعني الاتفاق على أنه لا وجود لفعل درامي دون صراع، أي أن الدراما مرتبطة بالصراع، ويكون هذا الصراع بين شخصين (طرفين) يقفان على طرفي النّقيض، وهو الصّراع الأبدي بين الخير والشر، كل هذه الصّراعات تتجلّى داخل المسرحية. للمقال هوامش عن مجلة «فواصل» يتبع