الحبيب بوخالفة أستاذ بالمعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري ببرج الكيفان، مخرج وممثل وصاحب دراسات مسرحية وكاتب مقالات في عديد الصحف الوطنية والأجنبية والمجلات الثقافية، متابع جيد لما يجري محليًا ودوليا، يؤمن بالقيم الإبداعية المؤسسة على العلم والتفكير، يرى أن الفن المسرحي هو حراك مستمر منذ فجر الإنسانية، مهتم بتاريخ البلد وشخصياته وبالحركة الفكرية والتغيير الاجتماعي الطارئ. حوار: خليل عدة طرحت الجزائر الجديدة على الدكتور الحبيب بوخالفة بعض الأسئلة ذات الصلة بالمسرح والحياة، رحب وأجاب بشغف وحيوية. – هل المسرح في بلادنا ترف أم هو ممارسة خاضعة لطلب الجمهور؟ – جمع المسرح بين المتعة والفكر منذ نشأته الأولى خصوصا بعدما ما نظر له الإغريق، ونحن المسلمون عرفناه في فترة هارون الرشيد، حيث كان ابن دنيال يركب عروضا مسرح “خيال الظل” ولم يستمر طويلا بحكم طبيعته النقدية للسلطة الدينية. أو وجود كتاب مثل بديع الزمان الهمذاني والحريري وتتوفر فيها بعض العناصر الدرامية، لو استمرت التجربة لكنا وصلنا إلى كتابة النصوص المسرحية كجنس أدبي يختلف عن الكتابة الأدبية الشعرية والقصصية. فيما يخص المجتمع الجزائري لم يعرف الفن الدرامي المسرحي إلا بعدما احتك بالأروبيين المستعمرين، وتأثير عروض جورج أبيض لما زار الجزائر في 1921. قبلا كانت هناك أشكال فرجوية تقليدية مثل القراقوز والقوال، واحتفالات الناير “السبيبة” في الجنوب التي تصادف عشوراء و”إيراد” في تلمسان. استطاع بشطارزي ورشيد قسنطيني وسلالي علي (علالو)، محمد التوري ان يكونوا فرقة مسرحية “المهذبية” في أواخر الربع الأول من القرن العشرين ويقدمان عروضا كوميدية “سكتشية” للترفيه وكذا الموعظة الحسنة، مستلهمين من تراثنا اللامادي مثل مسرحية “جحا” في 1926. وهكذا بدأت الممارسة المسرحية بمفهومها الأرسطي باقتباس نصوص موليير إلى غاية اندلاع الثورة التحريرية وتوقيف كل النشاط المسرحي إلا أنه استمر مع الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني في تونس بقيادة العملاق مصطفى كاتب، ثم جاء تأميم دار الأوبيرا التي أصبحت تحمل اسم المسرح الوطني الجزائري. فالمسرح كان دائما مرتبطا بالطبيعة البشرية ولكن بمفهومه الفرجوي البسيط. وبعد الاستقلال تطور بالمدن الكبرى في فضاءات المسارح التي تركها الاستعمار، وإستمر بإنتاج وتقديم عروض بشكل منتظم ولكن دون الغوص في التحليل الفكري الوجودي. التجربة المسرحية الجزائرية لا تزال في مرحلة التأسيس لاننا لم نكون رصيدا نظريا وأدبيا دراميا تتجلى في أسماء تركت مؤلفات متنوعة وعديدة مثلما هو سائر في المجتمعات المتقدمة. بالرغم من الجهود الجبارة التي قام بها أولائك الرواد، لا يزال الطريق طويلا للوصول إلى حتمية الفعل المسرحي واستهلاكه. لا ننكر أن فيه تجارب لكن يبقى الفن المسرحي في علاقة هشة مع المجتمع. – هل ما نشاهده هو مسرح حقيقي أم ممارسة مسرحية؟. – المسرح الحقيقي هو الذي يولد من رحم القدرة الفكرية والفنية ويربط الشكل بالمحتوى في صيغة جمالية صادقة. لذلك يتطلب الجدية والمهنية وعدد كبير من الشروط في التوزيع وانتظام العروض، وتربية الذوق ومواكبة حركة نقدية فعلية لما يعرض، تختلف عن التغطية الإعلامية. فالمشاهد الجزائري عموما له الرغبة في الإقبال على عروض ترفيهية وفكرية في نفس الوقت. – ما هي أزمة المسرح؟ – أزمة المسرح في مجتمعنا هي أزمة سلطة، فهي لا تهتم كثيرا بالفعل الثقافي عموما إلا في حالات مناسباتية دعائية ظاهرية لا إلي شروط الفعل المسرحي. ثم إننا نعيش عصر الصورة المتحركة، فالكلمة أصبحت هامشية إلا إذا كان الإبداع المسرحي متميزا ومؤثرا في نفس المشاهدين. فالسياسة الثقافية منذ عهود لم تنجح في التأسيس لفعل ثقافي مسرحي جاد، يتجاوز الترقيع المزمن سواء في الكتابة الدرامية أو الإخراج وتسيير الإنتاج. لان المسؤول السامي لا يؤمن بالفن المسرحي مثلما يؤمن مثلا بأهمية المساجد. وتبقى أزمة الفن المسرحي، هي أزمة مجتمع يفتقد إلى مشروع اجتماعي سياسي ديموقراطي. – هل النص المسرحي مكلف حتى لا يكون هناك متخصصون في الكتابة؟. – إن الكتابة الدرامية المسرحية جوهر التأسيس للممارسة الفنية، لذلك نجد أن جزءا كبيرا منها مقتبسة من النصوص العالمية الكلاسيكية أو العربية وهذا دليل قاطع عن عدم قدراتنا على الكتابة التي تتطلب إدراك مفهوم الصراع والبناء الدرامي وهذا يعود إلى عقلية المسلم الذي لا يدرك أهمية التشخيص والصراع في تجسيد المشاهد. لذلك الكثير من النصوص لا يتوفر فيها الصراع بقدر ما هي عبارة عن استرسال حديث منطوق سردي. أو مجرد كلام وأسلوب بين شخصيتين أو أكثر. فالاقتباس عندنا ترجمة غير وفية لأصل النص، لتغيير الأسماء والأماكن وبعض السلوكات التي تخضع للرقابة الأخلاقية الذاتية وبذلك يفتقد النص إلى قيمته الدرامية في كثير من الأحيان، وما اسميه الكتابة الإستعجالية التي بدأت مع بشطارزي وعلالو ومحمد التوري، لا ننكر أن هناك بعض المحاولات الجادة مثل تجارب علولة أو كاتب ياسين أو عبد الرحمن كاكي. الاقتباس هو الانتقال من نوع أدبي إلى أخر وليس تغيير نص مسرحي إلى نص آخر مسرحي. ولكن هناك تجارب فنية مسرحية حديثة في مجال المسرح ما بعد الدراما، حيث النص الذهني المنطوق له أكثر أهمية من النص الأدبي الدرامي المكتوب. ولكن لابد أن نكون أولا رصيدا معرفيا وأدبيا دراميا، لكي ندرك أهمية المسرح ما بعد الدراما الذي بدا في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. لو كانت هناك أهمية للكتابة المسرحية لكنا أسسنا لمسرح فعلي ينزل إلى نفوس المتفرجين، خصوصا في زمن الانترنيت. فالمشاهد الجزائري يستطيع أن يشاهد “روميو وجوليات” لبيتر بروك في أي لحظة. وبعدها يتأسف عن الترقيع والرداءة التي طالت الكثير من العروض الريعية. – هل مسرحنا هو مسرح للنخبة وما موقع العامة منها ومسرح الطفل والطليعة وهل تعافى من تأثير الايديولوجيا؟. – بدأت التجربة المسرحية الجزائرية شعبية ولا تزال خصوصا أنها تعتمد على العامية. هو ليس مسرح النخبة ولا يطرح مسائل فلسفية فكرية وجودية بقدر ما يعبر عن المشاكل الاجتماعية السياسية، وكأنه يعارض فشل السلطة في تنظيم أمور الناس في ظل غياب خطاب سياسي معارض. بعد الاستقلال كان المسرح يواكب بناء المجتمع الاشتراكي وظل حتى انتهت المركزية السلطوية الاشتراكية وبزغ عهد جديد لليبرالية. بعد وفاة الهواري بومدين تغيرت الرؤية السياسية وتحررت التجارة فتحرر المسرح من قبضة اليساريين وبدأت تجارب مسرحية أكثر جرأة في طرح المواضيع وإشكالية العدالة الاجتماعية. فالطفل لا زال يعاني من غياب مسرحا وسينما وموسيقى وفنون تخصه. كل ما ينتج هو عبارة عن محاولات ضئيلة جدا مقارنة بمتطلبات هذا الكائن البريء والرخوي. إن عالم مسرح الطفل يتطلب معرفة أدبية سيكولوجية تربوية لبنية طبيعة عقلية المتلقى وعلاقته بالعالم الخارجي بألوانه وأطيافه ومواضيعه. – لماذا يتم اللجوء إلى النصوص الروائية التي غالبا ما تكون فاشلة على الركح؟. – الأمر معروف عالميًا بشرط ان يكون المقتبس ملتزما بعناصر البناء الدرامي المسرحي. فالثرثرة تكون عندما لا يدرك المقتبس الاختلاف بين الجنسين الأدبيين. لان أي نص مسرحي يفتقد إلى التشخيص والحبكة والصراع قد يكون فاشلا من حيث المتعة الفعلية للعرض، إلا إذا كانت المعالحة بأسلوب ما بعد الدراما، ولكن القصة الرومانية تقتضي بناء درامي أرسطي وهنا يمكن القول مازلنا في مرحلة الكتابة الإستعجالية التي جسدت قيم خاطئة للممارسة المسرحية. عندما يحضر النص الجيد سواء كان منطوقا أو مكتوبا تحضر سلطة المخرج فتعم المتعة. لكن الأمر لا يتعلق بالكتابة الاستعجالية بقدر ما يتعلق بعلاقتنا الهشة مع الفعل المسرحي. – وما هي في نظركم شروط نجاح عرض مسرحي؟ أم الأمر يخضع للمزاجية كما حدث مع عرضي “طرشاقة” و”كشرودة”؟. – أولا يجب توفر المعرفة المسرحية والثقافة الواسعة سواء الكاتب أو المخرج، ثم حرية المقاربة للموضوع دون الرقابة السياسية أو الأخلاقية. ثم تأتي البنية التحتية أي الوسائل المادية المتنوعة كالمال الكافي لتوفير المفردات الفنية التي تواكب تركيب العرض (الموسيقى، السينوغرافيا، الديكور، الملابس، الإضاءة، الصوت الخ) وأخيرا عملية التوزيع عبر الفضاءات المسرحية. “طرشاقة” و”كشرودة” اعتمدا على أسلوب حيوي شبه كوميدي تنشيطي وفرا المتعة وهذا يذكرني بمسرحية “جحا” لعلالو حيث اندمج الجمهور الذي كان يبحث عن لحظة افراغ همومه، ولكن “بابور اغرق” في بداية التسعينيات هذا النوع من المسرح يعتمد على المناسباتية وهو كذلك مهم في عودة الجمهور إلى القاعات بعد العشرية السوداء التي فقدها. – ما هي رؤيتكم للمسرح القادم بناء على ما تقدم؟. – المسرح القادم يكون أو لا يكون، فهو مقرون لمدة فاعلية السياسات الثقافية في إطار مشروع مجتمع ديموقراطي. المسرح القادم سيكون تجاريا أكثر مما هو موضوعيا، وهذا خطر يهدد بنيته الهشة. قد تكون النجاة منوطة بالتكوين الفني الأكاديمي الجاد، حتى ننوع التجارب المسرحية ونثريها بألوان المسرح المتعددة الذي يطرح أسئلة نارية ويناضل من اجل حرية الفرد السياسية والاجتماعية والثقافية الفكرية. فمهما تعددت التجارب المسرحية إلا إنها تعبر عن انشغالات البشر وهمومها وأحلامها. – ماذا تقترحون على المسؤولين الحاليين للثقافة؟. – هناك اقتراحات أضعها أمام الوزيرة الدكتورة مليكة بن دودة، انه لابد أن تتميز بمقاربة جديدة لحل معضلة الممارسة الفنية واشتراك الاختصاصيين الفعليين في المجال الثقافي المسرحي والاهتمام بالتكوين الذي هو السبيل الوحيد لتطوير وتطهير الفضاءات المسرحية من الزواحف التي تلوث محيطاتها. تأسيس قواعد جديدة للممارسة المسرحية وميكانيزمات فيما يخص تدعيم وإنتاج العروض. التأسيس لمركز أرشيف النشاط المسرحي الدرامي سواء كان وطني او عربي أو أجنبي. إعادة النظر في قوانين تسيير المؤسسة المسرحية. خلق مكيانيزمات تفرض على مؤسسة التليفزيون بث العروض المسرحية المنتجة. إعادة النظر في تنظيم المهرجانات لكونها بارومتر لتقييم نتائج النشاط المسرحي. تدعيم الكتابة المسرحية الجادة. إعادة النظر في لجان التحكيم التي عادة ما تتسبب في تدمير التجارب الجيدة. إنشاء مجلة خاصة تهتم بالثقافة الدرامية المسرحية والسينمائية. – حدثنا عن فكرتك في إنشاء مجلة المسرحية السينمائية؟. – بالنسبة للمجلة أرى من أولياتها الاهتمام بأمور النشاط المسرحي ودراسته على جوانبه المختلفة، منها نقد العروض المقدمة، تقديم دراسات سوسيوانتروبولوجية حول الفن المسرحي وتاريخ ممارسته وأنواعه وظروفه. نشر مسرحيات لمؤلفين بعينهم حتى يتعرف عليها الممارس القارئ، سواء كان مخرجا أو ممثلا. نشر معلومات حول فضاءات الإنتاج وطرقه، تفسير المهام الملتصقة المرتبطة بتركيب العروض، الحديث عن المهرجانات المختلفة والتحضير لها مسبقا، نشر كل المعلومات حول القوانين التي تضبط التسيير وحقوق المبدع. – أجيال المسرح الجديد من الشباب كيف تقيمها؟. – بالنسبة للجيل الجديد، يحاول أن يتميز بتقديم عروض حديثة (ما بعد الدراما) بحكم بساطة تركيبها وحرية توظيف عناصر تجعلها تتجاوز إدارة الممثلين، فالاهتمام بالشكل فقط قد يعيق جوهر التمثيل على حساب الصدق والدينامية الفكرية لذلك توظيف السمعي البصري قد يكون سببا في تدمير سحر طبيعة الفن المسرحي باختلافه عن الصورة السينمائية. ثم الاستنساخ من أوروبا ليس حلا لإثراء الأصالة الثقافية المسرحية الجزائرية. ينبغي للمسرح ان يكون مرتبطا بالوعاء الحضاري الروحي الإنساني معبرا عن الشخصية القاعدية الثقافية الجزائرية أو المغاربية أو العربية لكي يتميز عن سائر التجارب الأخرى في العالم ويكون بابا مفتوحا لكل التساؤلات والأشكال الفنية التي تبني الإنسان الحديد الايجابي في بناء دولة القانون والحقوق والواجبات والحريات. الفن المسرحي حراكا مستمرا منذ فجر الإنسانية.