البحث العلمي هو ذلك النشاط الهادف إلى زيادة فهمنا حين نريد معرفة شيء معيّن حول موضوع ما؛ تماما مثل ما يمنحنا مقوّمات اتّخاذ القرار؛ بخصوص السياسات العامّة الرامية إلى تلبية متطلبات التطوّر؛ إذ لا يمكن أن نتّجه مباشرة نحو البحث العلمي؛ دون الرجوع إلى المنهج العلمي المؤسّس على مسار (الفرضية، الاستنباط، التنبؤ) الذي يُعدّ قاعدة البحث العلمي الساعي إلى تأسيس الحقيقة؛ فالاضطلاع به –إذن- أمر ضروريّ جدّا في تسيير المشروع البحثيّ؛ وإلّا فإنّه من الصعب الادّعاء بالوصول إلى أيّ خلاصة فيما يخص نتائج دائمة وذات مصداقية. طوّر عالم البحث العلمي العديد من المناهج تماشيا والضروراتِ التي تفرضها خطوات التحقيق في البحث عن النتائج؛ ومن بين هذه الطرق؛ لفت انتباهنا -في إطار هذه المساهمة-المنهج الفرضي الاستنباطي؛ وهو منهج متبّع في النشاطات الكبرى للبحث. المنهج هو الأساس والقاعدة حلّل العديد من الفلاسفة مصطلح المنهج وناقشوه في روايات وخطابات فلسفية مختلفة؛ ويعترف العلماء أنّ أوّل من استعمل المنهج العلمي هو الفيزيائي العباسي ابن الهيثم. وعموما؛ في البحث العلمي؛ نتناول المنهج العلمي من أجل التطرّق إلى المنهج الفرضي الاستنباطي؛ والذي يختلف عن غيره من المناهج؛ مثل: المنهج الاستقرائي، والمنهج الاختباري، والمنهج البديهي... ويتمثّل هذا المنهج في دورة تعود في الأصل إلى فكرة أو حدس ناجم عن القدرة على التصوّر والتنظير، ووضع فرضيات وفقا للأسئلة، ووضع التنبّؤات، وإنجاز اختبارات على التنبّؤات؛ من خلال الملاحظات والمحاكاة، وان اقتضى الأمر تأكيد الفرضيات أو إلغائها، أو ببساطة إقصاء البعض منها قبل إعادة الدورة السابقة؛ وخلال هذه الدورة؛ يتجنّب الباحث التركيز على الحالات المناسبة فقط؛ بل يسعى أيضا للإثبات أنّه على خطأ؛ وإن لم يتوصّل إلى ذلك؛ يمكنه أن يعتبر فرضياته سليمة. وهكذا يكون قد وصل إلى مرحلة مهمّة في عمله البحثيّ؛ وهي تحديد الفرضيات ذات الصلة بالمشكل المدروس. وبالتالي؛ من الوهم المباشرة في عمل قد يضمن موثوقية نتائج مشكل البحث؛ دون اللجوء إلى الدورة السابقة أو ما شابهها. في الحقيقة؛ المنهج العلمي منتج للمعارف العلمية المختلفة عن أنواع المعارف الأخرى ذات النمط الروحاني والعقلاني. إن المعرفة العلمية هي في الحقيقة تجريبية؛ تقوم على ملاحظة ما يجري؛ من أجل تطوير أو اختبار نظريات هامّة؛ لفهم سير الظاهرة ووصفها وتوقّع حلول لها. وتمثّل الإجراءاتُ التي يتمّ بموجبها إجراء الملاحظات وتقييمُها المنهجيةَ التي تقوم على معايير التقييم والموثوقية والتكرار والصلاحية؛ إذ يركز التقييم على انسجام المعايير المتّبعة؛ بينما تهتمّ الموثوقية بمرئية ومقروئية الإجراءات المتبّعة؛ من أجل التأكّد من إعادة إنتاجها بشكل مثاليّ، ويهتمّ المعيار ما قبل الأخير بتفاصيل الإجراءات المتّبعة حتّى يتمكّن باحث آخر من إعادة الدراسة، أمّا المعيار الأخير؛ فيهتمّ بسلامة النتائج، وبهذا يعتبر المنهج العلميّ منهجا صارما؛ لا يسمح للمشاريع العلمية المبهمة بالاستمرار، فهو ترسيخ للممارسات الجيّدة لتسيير البحث العلميّ. مفاتيح النجاح: الصياغة الجيّدة لأسئلة البحث تمثّل الصياغة الجيّدة لأسئلة البحث وللنقاش الجدليّ (أو الإشكالي) وأهداف البحث مفتاحَ نجاح أيّ نشاط بحثيّ؛ ذلك أنّ سؤال البحث هو مؤشّر الانشغالات التي ستتمّ معالجتها من خلال النشاط البحثيّ؛ والذي سوف يؤدّي إلى تنظيم أفضل للعمل؛ ومن ثمّة سيكون بمثابة قاعدة لتطوير الفرضيات، وعموما؛ يجب أن تنتظم أسئلة البحث وفق معايير نجملها فيما يلي: أن عدد الأسئلة محدودا بالنسبة لأيّ نشاط بحثيّ، وإلّا فإنّ العمل سيتّخِذ بعدا آخر من الصعب احتواؤه، أن يُصاغ السؤال صياغة جيّدة، وأن يكون وثيق الصلة بالإشكالية؛ مع إدماج الصعوبات المرتبطة بالزمن والموارد. أن يُسهل إيجاد الجواب من خلال ملاحظات ملموسة، ويُكتب في صيغة استفهامية في زمن الحاضر؛ مثل: لماذا يعارض سكان عين صالح البحث عن حقول النفط الصخري الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من منازلهم؟ أو لماذا في بير نعام -بولاية بسكرة-واحات النخيل مثمرة بالتمور الصالحة للأكل في جهة، وفي جهة أخرى ليست مثمرة؛ مع أنّ المنطقتين متجاورتين؟ أو كيف نجعل الذكاء الاصطناعي مدركا لحواسّ الإنسان؟ كلّ هذه الأسئلة يمكن ملاحظتها؛ وهي جزء من المنهج العلمي. أمّا السؤال البحثيّ: كم عدد الثدييات التي كانت موجودة في الجزائر عام 1492؟ فهو لا يتناسب مع المنهج العلميّ؛ حيث إنّه لا يمكن أن يُدرك بطريقة عقلية؛ فالسؤال البحثيّ –إذن-ثابت لا يتغيّر؛ لكن يمكن إعادة صياغته في وقت لاحق؛ ليتماشى مع الموارد والزمن والمعدات والتمويل... وبهذا؛ لا يمكن القول: إنّ السؤال يستوفي معايير الدقّة؛ إلا بعد أن يتمّ تأويله بشكل نقدي من قبل أشخاص آخرين، ويتلقّى أجوبة موضوعية تتوافق والاتّجاه الذي منحه الباحث للمسألة البحثيّة، وهذا هو شرط قبول السؤال كما هو. الإعداد الجيّد لفرضيات البحث تأتي فرضيّة البحث -التي هي في الحقيقة محاولة للإجابة على سؤال البحث الذي طُرِح-من خلال وضع التقديرات والاقتراحات، وهي بيان مؤكّد، محرّر في زمن الحاضر؛ كما بالنسبة للسؤال. ولكي تُعتبر الفرضية علميّةً، ينبغي أن تكون قابلة للتحقّق، وقابلة للاختبار، ومحدّدة، وغير غامضة، وقابلة للدحض، وتستند على المنطق الذكيّ. إنّ الفرضيّة هي علاقة سببيّة تأخذ شكل مفهومٍ واحدٍ أو أكثر (السبب أو متغيّرات الإدخال) مرتبطة بمفهوم آخر (التأثير أو المتغيّر المستهدف)؛ لذا يمكن تأكيد العلاقة السببيّة؛ إذا كانت إيجابيّة يعني أنّ مفهوم (أو مفاهيم) الإدخال يساهم بإيجابيّة في صياغة المفهوم المستهدف؛ فإذا افترضنا السؤال البحثيّ التالي: لماذا لا يميل طلاب السنة الأولى في جامعة المسيلة إلى حضور محاضراتٍ عن بعد؛ بخلاف طلّاب السنوات الأخرى في نفس الجامعة؟ يمكن وضع الفرضية التالية: «بما أنّ التعليم عن بعد ليس منتشرا في الثانويات؛ فإنّ طلّاب السنة الأولى لا يميلون إلى حضور المحاضرات عن بعد؛ لأنّهم لم يعتادوا عليها» أو «نظرًا لأنّ طلّاب السنوات الأخرى أصبحوا أكثر استقلالية؛ فهم أكثر ميلا لاستخدام التعليم عن بعد من طلاب السنة الأولى». وكما يتّضح من هذين المثالين، فإنّ وضع فرضية يتطلّب تحديد مفهوم يسبّب مفهوما آخر أو يؤثّر عليه؛ فالأوّل (السبب) هو متغيّر مستقلّ، والثاني (تأثير) تابع أو متغيّر استجابة. هناك بعض أنواع البحوث التي لا تتطرّق إلى الفرضية؛ بل إلى الغرض والأهداف؛ مثل: البحوث التأويلية؛ التي تؤدّي وظيفة تطوير المعرفة؛ من خلال فهم المعنى. وعلى أيّ حال؛ يتمّ تقييم البحث العلمي على أساس عدد الفرضيات التي يمكن التحقّق منها، ولن يتمّ إثبات التحقّق من الفرضية إذا لم تؤكِّد صحّتَها ملاحظات (أو بيانات تمّ جمعها)، وبما أنّ صياغة الفرضيات مهمّة جداً؛ فالقارئ المهتمّ يمكن أن يتعمّق أكثر في الموضوع استناداً إلى بحوث الأستاذ أحمد رواجعية، أستاذ بجامعة المسيلة. كيف تولد الأفكار من أجل إجراء البحث؟ لقد نوقشت ولادة الأفكار في عدّة مساهمات بمختلف المنشورات الدوريّة المتخصّصة وغير المتخصّصة –مساهمتي حول الموضوع في صحيفة وطنية-وفي مجال البحث العلمي؛ تأتي الفكرة من عدّة مصادر؛ مثل: التجربة الفردية أو المهنيّة، دراسة بحوث أو نظريات أخرى، الأدب ووسائط الإعلام، تدريس مقياس، وبشكل عامّ؛ من ملاحظة البيئة والسياسة الوطنية في مجال البحث العلميّ. ويمكن استغلال مصادر الأفكار المذكورة بحكمة حتّى تنبثق فكرة الانطلاق أولاً وقبل كلّ شيء. فالأدب الذي يشكّل قاعدة ممتازة للبحث عن الأفكار لمّا نواجه معلومات أو معارف مبهمة لا يوجد حلّ لها أساسا؛ كما في مؤلفات الخيال العلمي؛ كما هو الحال بالنسبة لبعض المعلومات التي تقدّمها وسائط الإعلام، ويرجع القرار للباحث للفرز والاستحواذ على الأفكار التي تستحقّ التدبّر بشكل أعمق. كما يسمح المنهج العلمي باختبار النظرية؛ وهو عبارة عن مجموعة من الأفكار المطبّقة في مجال معيّن. إنّ النظرية التي تقابلها الممارسة من شأنها الكشف عن العيوب أو الأخطاء الممكنة. ويمكن أن تؤدّي نتائج هذه الممارسة إلى ظهور أفكار جديدة؛ والمترجمة بدورها إلى أسئلة؛ وإن كانت النظرية مفيدة في اقتراح أسئلة مثيرة للاهتمام وتوجيه العمل الميدانيّ بشكل عامّ؛ فإنّه ينبغي ألا تمنع الباحث من استكشاف التفسيرات أو تقليص نطاق أشغاله؛ وهنا تدخل التجرِبة المهنيّة أو الشخصيّة؛ التي تؤدّي إلى التساؤل من أجل التصدّي للتناقضات والاستمرار في الاتّجاه الصحيح. بدءا من التأكيد على صحّة البحث الجيّد وصولا إلى كيفية تقدّم العلم؟ إنّ صحّة البحث العلمي لا ترتبط فقط بمجرّد إجرائها؛ بل بتوثيقها وفقاً لبروتوكولات البحوث الأكثر صرامة، ويمر إجراء التأكيد عليها بمرحلة إعادة القراءة والنقد؛ دون محاباة من طرف باحثين آخرين في نفس المجال؛ وفقا لبروتوكول السرّيّة وحماية النتائج التي لم تُنشر بعد؛ ففي مجال البحث العلمي، لا يُنشر سوى ما يتماشى وأنشطة البحث؛ حيث إنّ كلّ ما نُشر قد تخطّى بنجاح مصفاة التفكير النقدي للباحث وفريقه. إن العديد من التجارب غير المؤكّدة والنتائج غير المنسجمة المتحصّل عليها التي تشكّل الجزء الأكبر من الأعمال العلمية تُتركُ في منتصف الطريق في معظم الحالات؛ لأسباب متنوعة تفتقر إلى المرئية، فالنقص في المرئية يلحق الضرر بالبحوث؛ لأنّ المرء يتعلّم من أخطائه. فقد كان توماس أديسون -الذي يعتبر واحدًا من أعظم المخترعين عبر العصور-يُجيب الأشخاص الذين يسألونه عن كيفية توصّله إلى فكرة المصباح المتوهّج: «بعد 999 فكرة من المصابيح التي احترقت». وفي مجال الذكاء الاصطناعي؛ حتّى تتجنّب سيارة القيادة الآلية الوقوع في الوادي؛ سيكون من الضروريّ مسبقًا -بخوارزميتها الخاصّة بالتعلّم العميق في المرحلة الافتراضية للتعلّم-أن تسقط الآلاف من المرّات في الوادي حتّى تتعلّم في الأخير عدم السقوط مرّة أخرى. ولهذا السبب؛ فإنّ أيّة نتيجة يمكن أن نستفيد من نشرها أو على الأقلّ تعميمها؛ لأنّه من الممكن أن يأخذها باحثون آخرون في إطار تبادل الأنشطة البحثية وتشاركها، ولذلك؛ فإنّه من المهمّ التعاون بين التخصّصات العلمية؛ كما في الذكاء الاصطناعي؛ حيث يكون استخدام أساليب جمع وتحليل البيانات مفيدًا بشكل فعّال للعلوم الأخرى مثل الطبّ؛ الذي يواجه صعوبات في تحليل الكمّ الهائل من البيانات التي يتعاطى معها. الخاتمة لا يقتصر المنهج العلميّ على العلم فقط؛ بل يتجلّى أيضا في الفهم المنطقي الذي يعزّز إدراك الظواهر المحيطة بالبيئة، وبما أنّ الذي صمّمه وطبقه هو الانسان؛ فإنّ النتيجة الحتميّة لذلك تقضي بإمكانية أن تشوبه أوجه العجز، غير أنّ هذا الأمر لا يدعو إلى التشكيك في فعالية المنهج أو أهمّيته؛ فهو الذي سمح بتطوير نظريات متينة أفضت إلى إنتاج الهواتف المحمولة والأقمار الصناعية وجهاز تحديد المواقع ...GPS أخيراً؛ نختم بفكرة بحثية تجول بالذهن؛ ألن نتمكّن من تطوير الذكاء الاصطناعي المقترن بالنظام الروبوتيّ المخبريّ القادر على أتمتة دورة المنهج الفرضيّ الاستنباطيّ (وضع الفرضية، تصميم التجربة، تنفيذ التجربة في المخبر، التنبّؤ...)؟ وإعادة دورة المنهج إن اقتضى الأمر؟ إنّ تحقيق هذه الفكرة من شأنه أن يتيح خطوة هامّة إلى الأمام في احترام الآجال، والفعالية، وسلامة النتائج، وقد كانت هناك دراسة مماثلة في أوروبا؛ ولكن لا يوجد أيّ منشور عنها؛ ومع ذلك؛ يجب أن ندرك أنّه من غير المعقول في البحث العلمي توقّع تحقيق نتائج ذات أهمية من الناحية الاقتصادية دون مراعاة معيار المخاطر؛ حيث ينبغي الموازنة بينه وبين التحسين المتوقّع للنشاط؛ ومن هنا تأتي فائدة الدراسة التقنية الاقتصادية في المرحلة الأوّليّة لأيّ نشاط بحثيّ.