أثار قانون 9 ديسمبر 1905، المتعلق بفصل الكنيسة عن الدولة نقاشا حادا بين البرلمانيين والطبقة السياسية الفرنسية والمعمّرين حول إجراءات تطبيقه في الجزائر وباقي المستعمرات، وكان فريق من الجمهوريين اللائكيين يرون ضرورة تطبيقه على كل الأديان بما فيه الإسلام، وخاصة في الجزائر باعتبارها مقاطعة فرنسية، فيما كان نفر من المحافظين وخاصة المعمّرين المتشدّدين، يرون عكس ذلك، باعتبار أن فصل المسجد عن الإدارة الاستعمارية سيمنع هذه الأخيرة من المراقبة الأمنية للأئمة ولخطبهم، خاصة وأن التجربة الاستعمارية أظهرت قوة الدين الإسلامي في تجييش الجزائريين كما حدث مع الثورات المختلفة التي انطلقت كلها من الزوايا الدينية. 1 - تسيير الشأن الديني-الإسلامي من طرف السلطة الاستعمارية قبل قانون فصل الكنيسة عن الدولة بمجرد احتلال مدينة الجزائر يوم 5 جويلية 1830، أبرم الجنرال برمون (Bourmont) معاهدة مع الداي حسين نصّت في مادتها الخامسة أن «فرنسا تتعهد رسميا باحترام الدين المحمدي، ولا تنتهك حرية السّكان من جميع الطّبقات، لا على دينهم ولا على أملاكهم ولا على تجارتهم ولا صناعتهم». إلّا أنّ هذا العهد تمّ اختراقه شهرين من بعد، من قبل الجنرال كلوزال (Clauzel) الذي أصدر القرار المؤرخ في 8 سبتمبر 1830، والذي تمّ بموجبه مصادرة كل أملاك الوقف أو الحبوس، إلى جانب كل الأملاك التي كانت تابعة للداي والبايات من قصور وحدائق وأراضي ودكاكين التجارة والصناعة. ندّد مفتي الجزائر وبقية العلماء والأئمة بهذا القرار، خاصة وأنه يحرمهم من مداخيل مالية قصد تمويل نفقات دور العبادة والمدارس التعليمية؛ لذلك تعهدت السلطة بأن تخصص ميزانية قصد تغطية هذه النفقات، والتي بقيت حبرا على ورق إلى حين. واصلت السلطة الاستعمارية في تجسيد مصادرة الأملاك الوقفية قانونيا، حيث أصدرت في البداية القرار الوزاري الصادر في 23 مارس 1843 والذي بمقتضاه ربط كل مداخيل الأملاك الوقفية بميزانية الجزائر، أتبعته بمرسوم مؤرخ في 30 أكتوبر 1858 تم بموجبه إلغاء طابع «غير قابل للتّصرف» (inaliénable) للأملاك الوقفية حتى تقلل من طابعها الديني، وهذا يعني أن بإمكان المعمرين شراء هذه الأملاك من الدولة أو استغلالها زراعيا وتجاريا. في الحقيقة، انتبهت السلطة الاستعمارية إلى الخطر السياسي على مصالحها لو تركت الأموال المتدفقة من أملاك الحبوس بيد الجزائريين، وبما أن المال هو عصب الحرب، قامت بعد شهرين فقط من الاحتلال بقص أهم مورد مالي يحتاجه الجزائريون في حياتهم الدينية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. أما من حيث الممارسة الشعائرية، فقد تركت للمسلمين رعاية تنظيمها مع مساحة ضيقة للمناورة وذلك حتى سنة 1851، وهي السنة التي تمّ فيها تنظيم كل الديانات، حيث مسّ نظام الكونكوردات في الجزائر الديانة الكاثوليكية في 9 أوت 1838، فيما تمّ تنظيم الديانة البروتستانتية وفق المرسوم المؤرخ في 31 أكتوبر، والديانة اليهودية وفق الأمر المؤرخ في 9 نوفمبر 1845. أما الدين الإسلامي فقد خضع لمنشور مؤرخ في 17 مايو 1851 صدر من قبل الحاكم العام للجزائر، والذي بمقتضاه تم تنظيم الممارسة الدينية للمسلمين التي تتم في مؤسسات دينية مدرجة على هذا النحو مع موظفين كبار وصغار مرتبطين بكل محيط وكل فئة من فئات المؤسسة الدينية. لقد تمّ استلهام أحكام هذا المنشور من النظام الكنسي، خاصة الكاثوليكي، وكان الهدف الرئيسي منه هو التحكّم في تكوين الأئمة قصد تدجينهم؛ وذلك بإنشاء مدارس دينية في كل من تلمسان وقسنطينة والمدية التي تحوّلت لاحقا إلى البليدة ثم إلى العاصمة الجزائر، وممارسة دور رئيسي في تعيين القضاة، وبالخصوص خنق الزوايا، حيث شعرت السلطة الاستعمارية بقوة شيوخ مختلف الطرق الصوفية في تجييش الجزائريين ضد الكفار. بظهور قانون 23 ديسمبر 1875، تمّ التحكم نهائيا في التسيير المالي للدين الإسلامي، حيث أقرّ القانون تركيز النفقات الخاصة برواتب الأئمة وصيانة أماكن العبادة في ميزانية الحاكم العام للجزائر. في نفس الإطار، تمّ إنشاء لجنة إدارية لمراقبة مساجد مدينة ولاية الجزائر تحت رئاسة الأمين العام لشؤون السكان المحليين والشرطة العامة، وضمت مفتيين و8 موظفين لائكيين. 2 - قانون فصل الكنيسة عن الدولة: حيثيات تطبيقه في الجزائر صدر هذا القانون يوم 9 ديسمبر 1905، يضم 44 مادة موزعة على 6 فصول هي: المبادئ العامة، تخصيص الممتلكات الدينية وتحديد المعاشات، منشآت دور العبادة، الجمعيات المكلفة لممارسة العبادة، شرطة ممارسة العبادة، وأخيرا، أحكام عامة. يظهر من عنوان القانون أنّ هذا الأخير لا يسري إلاّ على الديانة المسيحية، إلاّ أن القراءة المتمعنة للمادة الأولى من هذا القانون تبين أنّه يمس كل الديانات، حيث تنص: «تضمن الجمهورية حرية المعتقد. كما تضمن حرية ممارسة العبادة وفقا للأحكام المنصوصة أدناه حفاظا على النظام العام»، كما أشار النّص إلى دور العبادة اليهودية التي تنطبق عليها هي الأخرى أحكام هذا القانون. نشير أنّ في سنة 1905 لم تكن هناك أي دور عبادة للمسلمين في الأراضي الفرنسية. أما فيما يخص تطبيق هذا القانون في الجزائر وباقي المستعمرات، فقد نصّت الفقرة الثانية من المادة 43 على: «تحدّد لوائح الإدارة العامة الشّروط التي بموجبها يطبق هذا القانون على الجزائر والمستعمرات». وقد جاءت هذه الفقرة التوافقية بين البرلمانيين الفرنسيين بعد أن أعلن المجلس العام للجزائر المتكون من أغلبية أوروبية، في مايو 1905، أي قبل المصادقة على مشروع القانون، موافقته على تطبيقه في الجزائر، شرط أن يتضمن أحكام خاصة بالسكان المحليين بمقتضى مرسوم. انتظرت السلطة الاستعمارية مدة سنتين لإصدار المرسوم المؤرخ في 27 سبتمبر 1907 المتضمن شروط تطبيق قانون 1905 في الجزائر، ليكون ساري المفعول ابتداء من أول يناير 1908. جاءت أحكام هذا المرسوم مخالفة للعديد من أحكام قانون 1905. ففيما يخص الجمعيات الدينية، اشترط المرسوم سبعة أعضاء لتكوين الجمعية، بينما نصّ القانون على عدد من سبعة إلى عشرين عضو حسب عدد السكان، وكان الهدف منها هو التحكم في أعضائها، فكلما قلّ العدد، سهلت المراقبة، كما اشترط المرسوم أن يكون رئيس الجمعية الدينية فرنسي الجنسية، والهدف منه هو التحكّم الأمني فيها وإبعاد كل جزائري عن رئاستها حتى ولو كانت جمعية إسلامية، وكل جمعية تخالف ذلك، يكون مصيرها الحل الإداري مباشرة. كذلك نصّ المرسوم على أحكام انتقالية لمدة 5 سنوات يتم من خلالها إعانة الجمعيات الدينية من ميزانية الدولة، وهو مخالف لروح القانون. أما أهم مخالفة للقانون، فهي المتعلقة بإعطاء الحاكم العام بالجزائر، صلاحية تقديم رواتب للأئمة الذين يتم تعيينهم من قبله، وذلك لمدة عشر سنوات، شرط ألّا يتعدى هذا الراتب 1800 فرنك. من البديهي أن يستمر هذا الاستثناء بعد عشر سنوات أي في 1917، وجاء هذا الاستثناء الجزائري متناقضا مع المادة 56 من النظام الأساسي للجزائر الصادر في 20 سبتمبر 1947، حيث نصّت على ما يلي: «استقلالية الدين الإسلامي عن الدولة مضمون بنفس الطريقة التي يتمّ بها ضمان الديانات الأخرى في إطار قانون 9 ديسمبر 1905، والمرسوم الصادر في 27 سبتمبر 1907. يخضع تطبيق هذا المبدأ، ولا سيما فيما يتعلق بإدارة أملاك الحبوس، لقرارات الجمعية الجزائرية التي تصبح واجبة التنفيذ وفقًا للإجراءات المنصوص عليها في المادتين 15 و16 من هذا النظام الأساسي. الأعياد الإسلامية الكبرى: عيد الصغير، والعيد الكبير، والمولود، والعاشوراء، هي أعياد قانونية في الجزائر». كل هذه الأحكام المخالفة والمتباينة والمتناقضة فيما بينها، كان هدفها هو التسيير الأمني للدين الإسلامي الذي بقي يشكل خطرا على المستعمر إلى غاية خروجه من الجزائر بعد ثورة دامية. نشير أن السلطة الاستعمارية كانت دائما تبرر مواقفها برفض الجزائريين لهذا القانون ولطبيعة الدين الإسلامي الذي يرفض في أحكامه الفصل بين الدين والدولة، وبين الزمني والروحي، وهو عكس ما تبنته الحركة الإصلاحية والوطنية على السواء، كما سنرى في الفقرة الموالية. 3 - موقف جمعية العلماء والحركة الوطنية من المسألة: دراسة السياق التاريخي تزامنت أولى مطالب جمعية المسلمين فيما يخص تطبيق قانون 1905، مع المؤتمر الإسلامي الجزائري المنعقد في جوان 1936، أي بعد خمس سنوات من إنشاء الجمعية. وكان المؤتمر قد ضم كلّا من جمعية العلماء والحزب الشيوعي وفيدرالية المنتخبين وبعض الشخصيات الدينية، فيما رفض مصالي الذي كان على رأس نجم شمال إفريقيا المشاركة، وكانت السلطات الاستعمارية قد أقرّت إغلاق المساجد التابعة للجمعية وحظر الخطب الدينية لعلمائها. وجاء هذا المطلب على الشكل التالي: «يتم تسليم المساجد للمسلمين، وتخصّص لهم اعتمادات من ميزانية الجزائر بما يساوي عائدات أملاك الحبوس ذات الصلة. يتكفل بتسيير المساجد أئمة يتم تنظيمهم وفقا لقانون فصل الكنيسة عن الدولة». أما حزب الشعب الجزائري الذي أصبح حركة انتصار الحريات والديمقراطية (PPA-MTLD) فقد أعلن رأيه في مسألة الفصل بين الدين والدولة، حيث ترى الحركة أن الدين الإسلامي لا يمكنه أن يكون مستقلا استقلالا تاما عن الإدارة، إلاّ إذا تمّ تحقيق مطلبين وهما: إرجاع أملاك الوقف لمكانها القانوني الأول، والحرية الكاملة في حق إلقاء الخطب في المساجد. بعد المصادقة على القانون الأساسي للجزائر في سنة 1947، تم إنشاء لجنة خاصة للدين الإسلامي بالمجلس الجزائري، لدراسة حيثيات تطبيق المادة 56 المشار إليها آنفا؛ وذلك بناء على مذكرة تقدمت بها جمعية العلماء إلى المجلس الجزائري فيما يخص مسألة فصل الدين عن الدولة. وممّا جاء في هذه المذكرة ما يلي: «لا يمكننا تفسير أسباب كون الحكومة الفرنسية علمانية - والعلمانية تحظر التدخل في الشؤون الدينية - الإسلام هو العبادة الوحيدة التي يتعين على الإدارة التدخل فيها. (...) صدر قانون 9 ديسمبر 1905 بشأن فصل الدين عن الدولة، لكنه لم يتلق أي تطبيق فيما يتعلق بالدين الإسلامي. (...) لم يستفد المسلمون مثل الديانتين الأخريين من الفصل الذي تفرضه القوانين الجمهورية. (...) يجب أن نتذكر أن مرسوم 27 سبتمبر 1907 لم يتم تنفيذه وأن الإدارة، على العكس من ذلك، تصرفت دائمًا في اتجاه مخالف تمامًا لروح النص. (...) جاءت كل هذه الإجراءات لتعزيز النظام السياسي الاستعماري الذي يحرم الجزائري من الاستفادة من القوانين». تمخض عن هذه اللجنة تقرير معروف تاريخيا بتقرير النائب مصباح، حيث تمّ اقتراح مجلس إسلامي أعلى ومجالس محلية لتسيير الشأن الإسلامي ومنح استقلال حقيقي للعبادة الإسلامية. وقد تمّ رفض هذا التقرير من قبل القضاء الإداري الفرنسي، أي مجلس الدولة الذي يرى فيه مخالفا لقانون فصل الكنيسة عن الدولة، بينما لم يتحرّك هذا القضاء عندما تمّ اختراق القانون من قبل المرسوم كما سبق الإشارة إليه، طبعا، جاء هذا الرفض خوفا من استحواذ جمعية العلماء على هذه المجالس واستعمالها ضد السلطة الفرنسية. في 13 نوفمبر 1953، اجتمعت جمعية العلماء بقسنطينة، وقررت إرسال رسالة للحكومة الفرنسية بباريس على شكل تلغراف جاء فيه: «تعرب جمعية العلماء المسلمين في الجزائر عن استيائها العميق من إصرار الحكومة الفرنسية على حرمان الدين الإسلامي من الحريات الممنوحة للأديان الأخرى في الجزائر، على الرغم من الشكاوى العديدة من الجزائريين. لنذكر أنه خلال عام 1953 فقط، طلبنا عبثًا من البرلمان ووزير الداخلية والأحزاب السياسية بسحب دين المسلمين من الإدارة الاستعمارية. إنّ المجلس الجزائري الذي حصل على السلطة التشريعية لتكريس الانفصال، يعكس في حقيقة الأمر نوايا الإدارة الاستعمارية والحكومة العامة في الجزائر. نتيجة لذلك، هناك القليل من الاهتمام بدراسة المشكلة، وإعادتها باستمرار إلى اللجان، مما يؤخر، ببراعة، الحل بأي وسيلة. إنّ الشعب الجزائري يحمّل الحكومة الفرنسية كامل المسؤولية عن هذا التأجيل، ويقدّم احتجاجات شديدة اللّهجة أمام الشعب الفرنسي والعالم المتحضر ضد هذه المعاملة الظالمة التي تلحق بالعبادة الإسلامية في قرن الأنوار، مذكرا بتسيير الأقلية الدينية في العصور الوسطى». إمضاء: العربي التبسي بعد الاستقلال، ضمت أول حكومة جزائرية تحت رئاسة أحمد بن بلة وزارة الأوقاف تحت قيادة العالم الإصلاحي توفيق المدني، وهي إشارة سياسية للرد على السياسة الاستعمارية فيما يخص أملاك الأوقاف التي تم استرجاعها إلى مكانتها الشرعية.