يؤكد البروفيسور بوزيد بومدين، المفكر والباحث الجزائري في قضايا التصوف والفلسلفة والتراث، أن إقحام الرأي العام اليوم في مَتاهات خِلاف الفِرق الإسلامية والانتصار لفريق ضّد فريق آخر لن يَخلق وَعياً بالحاضر ولا تحرّراً من سِجن نصوص الخلاف الكلامي العقائدي، وأن الوسطية والاعتدال لن تتحقق دون البحث عن قيم التآلف والتشارك والإنسانية في تراثنا الإسلامي. وشدد على أننا اليوم أمام ظاهرة جديدة وغريبة لحداثيين لا يؤلفون أو يبدعون ولكن يرددون تغريدات فيها الاستفزاز للدين والمتدينيين لا أكثر ولا أقل، بل إن بعضهم ينقل خلاصة بحث غيره من المفكرين العرب المعروفين ويضعها نصوصاً مجتزأة في صفحته، وأن هذه المجموعة من "الحداثيين الافتراضيين" في الوسائط الاجتماعية لا تبحث إلا عن الإثارة وجلب الأضواء الإعلامية خاصة الغربية منها بغرض التبني. وفي هدا اللقاء المفعم يتحدث المفكر الجزائري بوزيد بومدين ل "عربي21″، عن قضايا جدالية ما زالت تثير الرأي العام في الجزائر تحديدا، خاصة منها قضايا الذاكرة المشتركة مع الاستعمار القديم، وما تثيره العلمانية الفرنسية تحديدا من مصطلحات مثل "الانفصالية الإسلامية" وما أثاره تقرير بنجامين ستورا من جدل فكري تاريخي حول الذاكرة والتاريخ. س ما زالت فكرة الفرقة الناجية التي تم التأسيس لها في القرنين الثالث والرابع الهجريين تقسم المسلمين فرقا ومذاهب بسبب البحث في جزئيات العقيدة رغم أن كل طوائف المسلمين تؤمن بالكليات.. ألا توجد رؤية لوقف طوفان التكفير؟ حضور الخِلاف في قضايا التصورات العقدية حول الله وصفاته وأسمائه، أي التي تتعلّق بالتصور الذّهني وفهم علاقة الله بالكون في الفكر الإسلامي المعاصر بالخصوص عند المنتمين مذهباً في العقيدة هي اليوم في الغالب بنفس الرّؤى التي تحدّث عنها أصحابها "أهل الكلام" في القرون الأولى للحضارة الإسلامية واستخدام نفس الحجج والأدلّة يعبِّر عن حالة انقطاع عن التطور الذي حدث في العلوم التجريبية والفلسفية الإنسانية، كما يعبر عن منهجية انتزاع التصورات الدينية من ملابساتها التاريخية، أي من الصراعات السياسية والاجتماعية التي نشأ فيها علم الكلام، وخذ مثالاً عن مسألة "تكفير مرتكب الكبيرة" التي ارتبطت بالنزاع السياسي بين الذين برّروا شرعيّاً للسّلطة الأموية والعباسية القائمة والذين ظاهروا الدولتين، واعتبروا "الملك العضوض" كبيرة في الدّين، أو انقلاب على "شرعية آل البيت في الحكم". لقد تنبّه بعض الفقهاء والفلاسفة كابن رشد الأندلسي إلى مَضارّ "عِلم الكلام" والاشتغال به لأنه يتمّ على أرضية عقائدية، أي بلغة الاجتماعيين اليوم "إيديولوجية" ويكون من نتيجة هذا الاشتغال التّكفير وزَهق الأرواح خصوصاً إذا تلبّس بالسياسة "الإمامة"، فالشهرستاني مؤرّخ الفِرق والجماعات الإسلامية يقول: "ما سُلّ سَيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان"، ولم يسلْم من استعمال لغة التّكفير والتفسيق فريقٌ، فالمعتزلة المُشادُ بهم في كتابة الحداثيين والعقلانيين العرب المعاصرين كان بعضهم أكثر تشدّداً وكفّروا خُصومهم، وأهل السّنّة اختلفوا بينهم واقتتلوا لما أوّلوا لصالح هذا الحاكم أو ذاك، فقد أحرق المُرابطون كتب الإمام أبي حامد الغزالي بفتوى من فقهاء سنّة أمام الملأ، وحُرّم تناول أفكاره في المغرب الإسلامي وحين صار الدّهر للموحّدين نكّلوا بالمرابطين وبخصومهم وانتصر إمامهم المهدي بن تومرت للغزالي الذي كفّر الفلاسفة والشّيعة خصّ منها الإسماعيلية الباطنية معظم سِهامه القاتلة. إنّ إقحام الرأي العام اليوم في مَتاهات خِلاف الفِرق الإسلامية والانتصار لفريق ضّد فريق آخر لن يَخلق وَعياً بالحاضر ولا تحرّراً من سِجن نصوص الخلاف الكلامي العقائدي، كما أنّه لن يُسهم في ردّ دعاوى "السّلفية الجهادية" بكلّ أطيافها وتنوعاتها، وأنا أصرّ على إبقاء التسمية هذه كما يتسمّى بها أصحابها لأن الكتابة النقدية الهادئة تتطلب ذلك، ومن العبارات التي أسمعها من بعض المشايخ المندّدين بالعمليات الإرهابية أنّ هؤلاء من "الخَوارج" وهنا طبعاً التشبيه يقع على مستوى التكفير والتقتيل، والذي كما قلت لم تسْلَم منه معظم المعارك الكلامية العَقَدية في التاريخ الإسلامي، في حين أنّ المرجعية السّلفية الجهادية منذ حاكمية سيد قطب إلى "بيانات القاعدة" هي سنية تيمية "ابن تيمية"، وهذا أشبه بالخَلط في العداء للشيعة بسبب الصّراع السياسي اليوم القائم على أرض العراق أو لبنان الذي ننخرط فيه ونُصدر أحكاماً عامة بفعل وسائل الإعلام التي تؤدّي إلى تضبيب الرؤية والانسياق في لغة "السّبّ المذهبي"، هكذا يتحوّل الخوارج بكلّ فصائلهم إلى "إرهابيين" عند هؤلاء ولا ندري ما ذا يكون رأي التلميذ أو الطالب حين يعلم أن الإباضية هي امتداد للمذهب الخارجي، رغم إصرار بعض شيوخ الإباضية نفي ذلك؟، وحين يعلم أنّ الزيدية باليمن هي امتداد "سياسي" للتشيع و"كلامي" للمعتزلة؟ إننا بهذا نُغْرِق الرّأي العام في وحْل المذهبية وصراعاتها القديمة الجديدة، ومما يُساعد على ذلك طبعاً استمرار وجود القبيلة وتعدّيها على الدّولة وهي المؤطر للمخيال وللسياسة، والقبيلة هنا من مرادفاتها الجهوية وأولاد البلاد وأهل الدّشرة وغياب المواطنة كفضاء مدني لا يعترف بتقسيم المواطنين على أساس ديني أو مذهبي عقدي، واستفحال أيضاً ظاهرة "السّلفية التكفيرية" وهنا أقصد كذلك السّلفيين الذين يكفّرون باقي الفرق الدينية الإسلامية والتصورات التي تختلف عنهم. س بمعنى أنه لا مناص من البحث عن حلول ضمن دائرة الوسطية والاعتدال؟ إن البحث عن الوسطية والاعتدال اجتهاد جديد لا يكون انتقائياً وتقليدياً أو تأويلاً تعسفياً للنص، ولكن بالبحث عن قيم التآلف والتشارك والإنسانية في تراثنا ومحاولة تجديد الدرس الديني في جامعاتنا ومعاهد ومدارس تكوين الأئمة والنخب الدينية.
س اعتبرت أن الإخفاق الفرنسي في دمج الحركى وأبنائهم من الجزائريين وغيرهم وغرورها الاستعماري في عدم الاعتراف والإقرار بالنّدم على فترة الاستعمار ووحشيته سيكون إخفاقاً متواصلاً لعلمانية متطرفة لها مشاكل مع الدّين والتّدين والذّاكرة.. هل يمكنك شرح ذلك؟ منذ خِطاب ماكرون خريف العام الماضي بخصوص "الانفصاليّة الإسلاميّة" ومحاولة تقنين قوانين فرنسية جديدة بخصوص التعليم الديني وممارسة الشعائر الدينية للمسلمين طبعاً دون اليهود قرأنا ذلك أن شعورا فرنسيا عليمانيا مأسورا ثاوياً خَلفها بذاكرة مجروحة، إنّها "انفصالية شعوريّة" عن التّعايش والحريّات الدّينيّة، فمنذ سنتين يسعى رئيس فرنسا إلى أن يُحوّل "العَلمَنة" إلى "كَثلكَة جديدة"، بمعنى ما هو لا ديني يُصبح في الممارسة دِيناً، فالدّيانة المسيحيّة التي تدعو إلى التّسامح والمحبّة أصبحت بفعل تسلّط واستعمار الدّولة الرّومانية ضِدّ قِيم المسيح عليه السّلام، طبعاً مَسارٌ عرفته أيضاً أديانٌ أخرى مثل الإسلام، ولكن أن تتحوّل "العلمانية" إلى ممارسة مُتعصّبة ونهجاً يفصِل بين المؤمن بها بالرؤية الفرنسية والكافِر بها فنحن أمام دينٍ له طقوسه وجماعاته المتطرّفة. هذه أزمة من أزمات تاريخ العلمانية التي لم تستطع استيعاب ملايين المسلمين في مجتمعاتها الغربيّة وأخفقت في تقديم "إسلام أوروبي" يستوعب العِلمانية وتصير "المواطنة" هي الانتماء، المواطنة التي تعني القضاء على العنصرية والكراهيّة ومجابهة الإسلاموفوبيا، لقد نَشأ الفصْل بين الكنيسة والدّولة بفرنسا سنة 1905، واستخدم لفْظ الّلائكيّة في البُلدان الكاثوليكية، بينما لفظُ العِلمانية بمعنى "الدّنيويّة" Sécularisation عرفته المجتمعات البروتستانتية، لأن الدّيانة الكاثوليكية تتحكّم في المؤسّسات والمجتمع، ومن هنا كانت الحاجة إلى الّلائكيّة والتّخلّص من هيمنة الكنيسة والكَهنوت الدّيني، أمّا الثّانية "العَلمنة" فتعني تحرير الدّولة من سُلطة المؤسّسات الدّينية مع تَحرير هذه المؤسّسات من سَطوة التّزمت لما لَها من دورٍ اجتماعي كبير، وهنا في هذه البُلدان البروتستانتية لعبت فيها هذه الدّيانة الدّور في التّحرّر ونشر أفكار الأنوار والحُريّات، ونضرب مثالاً عن الفَرق بينهما في تعامِلهم مع العِلمانيّة: نقارن بين البُلدان الكاثوليكيّة والبلدان البروتستانتيّة في تدريس الدّين في المدارس، حيثُ نجد مقرّرات التّدريس في المدارِس الفرنسيّة تكتفي فقط بمناهِج في الأخلاق العامّة، وتَحصُر التّعليم الدّيني في المدارس الدّينية الخاصّة وهي قليلة، أمّا في المدارس البلجيكية فتترك لطلّابها الخَيار في أخْذِ دُروسٍ دينيّة بما يُطابِق طَوائفَهم(كاثوليك، بروتستانت، يهود ومسلمون) أو أخذ دُروسٍ في الأخلاق العامّة، أما في مجال دعم المؤسّسات الدينية فتتفاوت الدّول الأوروبية في دَعْم الكنائس ومؤسّساتها مالياً وإشرافاً. هذه الخلفية التّاريخية مهمّة في تحليل الخطاب الفرنسيي الرّسمي بخصوص الإسلام والمسلمين، وإنّ تِكرار بعض المفردات مثل "الإسلام" و"الانفصالية" و"الإرهاب الإسلامي" يُبرز "الهيجان العاطفي" المتأثِّر بأحداث شار أيبدو وبالخوف من عودة قوّة الإسلام في العالم، والإخفاق والخوف على مصالح فرنسا في لبنان والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما أنّ ماكرون يعتمد نتائج الدّراسات التي تقدمها بعض مراكز البحث الفرنسية عن الإسلام والتّطرف وبعض هذه الخلاصات لم تَسْلم من الأحكام المسبقة والمنهجيّة التقليدية في دراسة الأديان والشعوب المسلمة. تلكم عوامل نفهم من خلالها حالة التّشنج والأحكام المطلقة التي ميّزت خطاب الرئيس ماكرون، لكن هذا لا يجعلنا نغفل أنّ التوصيف لبعض أزماتنا في تأويل فاسد للإسلام وراء الإرهاب في بلداننا كما أنّ التّعصب المذهبي والطّائفي وتشدّد بعض الجماعات كان وراء إخفاق الإصلاح والتنوير في بلداننا، وعلينا نحن كذلك مُراجعة معجميتنا الفقهية والدّينية في مناهجنا المدرسية والجامعية، وهنا نشير أيضاً إلى أن القانون الجديد في فرنسا لمجابهة الانفصالية الإسلاميّة فيه قضايا مدروسة عن خِبرة ومتابعة مثل مسألة التّمويل، فالكتلة المالية غير المراقَبة قد تكون نكبة على اقتصاد الدول الإسلامية ومنفذاً لتبييض الأموال ودعم التطرف، وهذه الكتلة غير المراقبة والمقنّنة تتحرك بحريّة في بعض البلدان العربية ، ومن هنا قانون الحريات الدّينية وقوانين مجابهة الكراهية في بعض البلدان الإسلامية تحقّقان وظيفتين: حريّة ممارسة الشعائر الدينية ومنع توظيفها سياسياً أو ايديولوجياً وإبعادها عن المال غير المراقب بما فيها الجمعيّات الدينية الإسلاميّة. س لماذا يغض الطَّرف الفرنسي من خلال المؤرخ بنجامين ستورا عن قضايا "النّدم" و"طلب العفو" و"الاعتذار" التي هي ورشات فكريّة تاريخية اشتغل عليها بول ريكور وريمون آرون وجاك دريدا وغيرهم؟ هل إغفال كل ذلك في العلاقة الجزائرية الفرنسية يمكنه بالفعل تحقيق "العدالة" و"الإنصاف" المطلوبين؟ فرنسا اعترفت واعتذرت لليهود الفرنسيين ولليهود في العالم ما لحقهم من ظُلم في حكومة فيشي الموالية للاحتلال النازي لباريس، وتمّ تعويضهم، مناخ الاعتذار والعَفو والنّسيان والذّاكرة وما جرى من نقاش فلسفي وتاريخي واجتماعي وقانوني ساد في فرنسا منذ عقود من الزّمن، وهذا الخطاب هو الذي اعتمده بن جامان ستورا في تقريره، مما يُوحي في باطنه أنّ الرؤية التّاريخية للذّاكرة والنّسيان تعامل الجزائريين مثل تاريخهم الخاصّ بهم، و"مُعجميّة الغُفران" تحضر غالباً في مؤلّفات المفكِّرين من أصول يهوديّة والبروتستانتيين واليساريين، وبالتّالي التّقرير مُفعمٌ بهذه المعجميّة التي أقصت نهائياً الاعتذار وقضايا التّعويض والاعتراف الكلّي بالجرائم. لقد حاول أن يلعب على بعض القضايا وكأننا أمام مفاوضات إيفيان جديدة (ايفيان الأولى سنة قبل استقلال الجزائر بين ممثلي الثورة والفرنسيين)، وأخطر ما ورد فيه الدّعوة إلى "ذاكرة تشاركيّة" مما يستدعي عودة الأقدام السّوداء (سكان الجزائر من الفرنسيين أثناء الاحتلال) والحركى (الذين تعاونوا مع فرنسا) والمطالبة بحقوقهم، إن التقرير الستوري (بن جامان ستورا) مخيّب للآمال ويُغرقنا في جزئيات تُوحي وكأن الضّحيّة مسؤول عن العنف والظّلم أيضاً مثل حكاية المقابر اليهودية والمسيحية في الجزائر التي تلقى العناية اللازمة أما ما لحق بعضها من تخريب في التسعينات فلم تسلم أيضاً مقابر المسلمين، وهم أوّل من عبث بمقابر الجزائريين وسوّاها بالأرض خلال حكم الاستعمار خصوصاً في القرن التاسع عشر. التّقرير الذي أنجزه ستورا في قضايا الذاكرة بين فرنساوالجزائر، يطرح قضايا للذّاكرة بشكل تفاوضي بين الجزائروفرنسا، وكأنّه مطلوب تنازلات بين طرفين متصارعين، وهذا التّساوي غير تاريخي وواقعي بين شعب اسْتُعمِر وتمّ تقتيله وتشريده ونهب خيراته ومحاولة مَسخ هويته ومُعمّرين مع جيش احتلالي قطَّع الرُّؤوس وأبادَ وترك جرائم نوويّة لها أثرها الكارثي على البيئة والصحة إلى اليوم. بعض القضايا التي طَرحها التّقرير قد تُعالج ضمن لجان مشتركة مثل مسألة المقابر والمفقودين لكن مسألة الحركى (الموالون لفرنسا ضد شعبهم) لا علاقة للجزائر بذلك فهم مواطنون فرنسيُّون ظلمتهم فرنسا ذاتها واعتبرتهم مواطنين من الدّرجة الثانية. س هذا يعني أن فرنسا الاستعمارية تحاول أن تلعب الآن دور الضحية بشكل صريح؟ صحيح، لكن فرنسا الاستعمارية لعبت دور الضّحية منذ زمن الأمير عبد القادر في قتل أسْراهم من طرف مصطفى بن التهامي خليفة الأمير نواحي الغرب الجزائري، واعتبرت الأمير مسؤولا عن ذلك وبرّرت سجنه في لومبواز الذي يسعى ستورا إلى وضع تمثال له هناك، ولم تتساءل حينها ما فعلته بقبائل العوفيّة (الحرّاش) (شرق مدينة العاصمة) من إبادة بعد احتلالها الجزائر مباشرة وما جرى للشّيوخ والأطفال والنّساء في معارك قادتها فرنسا ضد المقاومين الجزائريين. إنّ تقرير ستورا مشروع مفاوضات جديدة تُحاول التّشويش على تصاعد مطالب جديدة من الشباب الجزائري عبّر عن ذلك في مسيراته سنة 2019 من أجل الخروج من "القابليّة للهيمَنة الفرنسيّة" التي قادتها القوّة الثّالثة التي كانت قيادة استبدادية وريعية انتهت إلى عصابات رهنت مصيرنا لغيرنا، والردّ ينبغي أن يكون وطنياً علمياً دون حماسة تجيد السّب واللّعن، لأن الذين أعدُّوا تقرير ستورا مخابر تعتمد الذّكاء والمناورة والأرشيف واستثمار العلوم الاجتماعية. س اعتبرت أن جزءا كبيرا من الحداثيين اليوم غارقون في نقل الروايات دون فهم الحدث التاريخي وفي سياقاته وملاباساته ودون استخدام المنهج العلمي الذي يزايدون به على التيارات الدينية.. هل يمكن توضيح هذه الفكرة بأمثلة صريحة؟ تميّز النّقد الحداثي في الخطاب العربي المعاصر أو كما يحلوا أهله أن يُسمّوه "الفكر التنويري" بالصّدامية في مراحل مع التيارات الدينية والجماعات الإسلامية، ولذلك كان فكرا نضالياً هاجسه الانتصار على ما أسماه "الظلامية" وليس القصد من ذلك الجانب العلمي الموضوعي الهادئ، وطبيعي أن تكون الكتابة الحداثية متلبّسة بالرغبة في التخلص من "سُلطة النص" أي سلطة الفُهومات البشرية التي سادت منذ قرون، غير أن الاخفاق أنّنا أمام "حداثة مُؤدلجة" تحوّلت عند بعضهم إلى "إيمان وهمي بعقلانية إما منقولة أو مُبتسرة مُشوّهة"، ولو عُدنا إلى بعض الكتب الحداثية التي أثارت جدلاً إعلامياً هي تلخيصات وإعادة طرح قضايا أثيرت في القرن الرابع الهجري أو ترديد لبعض آراء المستشرقين، وهكذا بدَل أن نفتح نقاشاً علمياً نسقط في خطاب التصنيف القديم "للملل والأهواء والنّحل" فينال بذلك الذي لم يبذل جهدا علمياً شهرة ومحاماة من جمعيات وطنية ودولية، وقد تسبّب في ذلك طبعاً مشايخ يجيدون لغة التكفير والتفسيق. س لماذا يتصاعد التمرد على الموروث الديني بهذا الشكل؟ ألا ترى أن قوى خفية مجهولة أو معلومة تحرك المشهد الفكري الإسلامي ناحية الإنكار والالحاد والتشكيك وعدم اليقين؟ مع الإعلام الجماهيري في الشبكة الاجتماعية برز حداثيون لا يؤلفون ويبدعون ولكن يرددون تغريدات فيها الاستفزاز للدين والمتدينيين، وبعضهم ينقل خلاصة بحث غيره من المفكرين العرب المعروفين ويضعها نصوصاً مجتزأة في صفحته، وهذه المجموعة "الحداثيون الإفتراضيون" في الوسائط الاجتماعية تبحث عن الإثارة والبورصة الإعلامية وقد تلجأ الدولة إلى محاكماتهم مما يزيدهم حضوراً في بعض الصحافة الدولية وكأنهم ضحايا الدفاع عن حرية الفكر وحرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية.