شكّل الدعم العربي الشعبي الجماهيري والحكومي الرسمي لثورة نوفمبر 1954 منعطفا حاسما في مسيرة هذه الملحمة البطولية المسلحة منذ انطلاقتها، انخرطت بقوة في هذا المسعى عديد المنظمات الطلابية والجمعيات الأهلية والنقابات العمالية والشخصيات السياسية والدينية والعلمية والأدبية العربية، من خلال عمليات جمع التبرعات والزكواة، وتنظيم المعارض والتظاهرات والمسيرات التي تدين الاحتلال الفرنسي وجرائمه ضد الإنسانية ببلادنا، وتشيد بجهاد شعبنا، وتفخر بإصراره على استعادة سيادته التي سلبت منه طيلة (132 سنة) من قبل احتلال استيطاني غاشم. ساندت كثير من الحكومات العربية قضية الجزائر العادلة، من خلال مواقفها المشرفة ضمن نشاطها الدبلوماسي وحضورها المحافل الدولية والمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان، إلى جانب دعمها الإعلامي بتسخيرها الجرائد والمجلات، ووكالات الأنباء لفضح مزاعم الاحتلال وعرض مذابحه المروعة بالجزائر. ونشر بطولات المجاهدين والفخر بعملياتهم الفدائية والنوعية، مع فتح أمواجها الإذاعية التي أضحت صوتا للثورة الجزائرية، كانت هذه الحكومات سباقة إلى الاعتراف بالحكومة المؤقتة، وفتح مكاتب لها في العواصم العربية، إلى جانب احتضانها جاليتنا المهجرة وبعثاتنا الطلابية والتكفل بها، دون إغفال الدعم المادي والمالي، وتزويد الثورة بشحنات منتظمة من الأسلحة والذخيرة. مؤتمر علماء سوريا في الطليعة: علماء الإسلام لم يبقوا مكتوفي الأيدي اتجاه هذا التيار الثوري الجارف، وأمام ما يصل مسامعهم من أعمال إجرامية ومجازر رهيبة يرتكبها الفرنسي، بل كانت لهم مواقف ناصعة وداعمة للثورة التحريرية، من خلال كتاباتهم ومقالاتهم وأحاديثهم الإذاعية وفتاويهم ذائعة الصيت ومنابر مساجدهم وتجمعاتهم ومؤتمراتهم العلمائية. ومن ذلك المؤتمر العربي الإسلامي الضخم الذي دعت إليه جمعية أنصار المغرب العربي بدمشق بالتعاون مع رابطة العلماء بسوريا، والمنعقد بالجامع الأموي بدمشق يومي 9 و10 كانون الثاني (جانفي) 1961 لمساندة الثورة الجزائرية والوقوف إلى جانب أبنائها في حربهم ضد الظلم والقهر والتقتيل. وقد ضمّ هذا التجمع نخبة من علماء القطر السوري كان منهم الشيخ توفيق الصباغ من علماء حماة، ومفتي درعا، والعلامة الفقيه مفتي حماة الشيخ سعيد النعسان، والعلامة خير الدين الجابي عضو محكمة التمييز الشرعية سابقا، والشيخ محمد النبهاني، والعلامة الشيخ ناجي أبو صالح، والعالم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ومفتي الباب الشيخ سعيد المسعود ولفيف من المدرسين والمفاتي.. وخطب في المؤتمرين نائب الرئيس في عهد الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) عبد الحميد السراج. وسائل الإعلام السورية تثمن مؤتمر الجزائر: وقد عثرنا على مخرجات هذا المؤتمر منشورة بجريدة (الجامعة الإسلامية) التي كانت تصدر بسوريا، ضمن عددها رقم 520، السنة 33، الصادر خلال عام 1961، وللأمانة العلمية، فقد مكننا بنسخة من هذه (الوثيقة النادرة) الأستاذ لزهر بن فردية، وتفاعلت جل وسائل الإعلام السورية والعربية مع هذا الحدث القومي. وقبل نشر الجريدة للبيان الختامي، قدمت عرضا مختصرا حول هذا المؤتمر، وأشارت إلى جرائم الاحتلال الفرنسي التي يرتكبها بمساندة الحلف الأطلسي وأمام هيئة الأممالمتحدة والمنظمات الدولية، منوّهة بحضور نخبة من العلماء والمشايخ بسوريا في هذا التجمع. وأكدت أنه «حين يأتمر الأتقياء من علماء الإسلام والدين يكون الظلم قد بلغ الزبى، وحين يجتمعون يكون قد أذن الله بالفرج؛ إذ دعوتهم خالصة لله وحده لا يحدوهم غرض دنيوي، ولا جر لمغنم. بل إن كل صوت إسلامي أو ديني هو صوت الإخلاص والصدق، وصوت الحق والإنسانية، وصوت المثل العليا والخير.. وقد جاءت مقررات هذا المؤتمر طبق تلك الصفات والمقاصد التي دفعتهم إلى ذلك المؤتمر المبارك. وكان في رأس ما حفزهم إليه ظلم فرنسا في الجزائر، وقد تعدى حدود القسوة في الإرهاق، والوحشية في الجور بمسمع من هيئة الأمم، وبمرأى من الدول الكبرى، وبعون الحلف الأطلسي، وهذا ما يبشر هؤلاء المعتدين الظالمين بالهلاك والدمار، وإن السكوت عن فرنسا هو تحطيم للسلم، وتقتيل للمثل العليا وهتك لحرمات الإنسانية التي تدعيها هيئة الأمم والدول الكبرى، إذا لم يسرعوا بإخراج فرنسا من الجزائر وإعطاء الجزائر حريتها وسيادتها». تضيف الجريدة بأن هذا «يفرض على العلماء متابعة اجتماعاتهم لمعالجة القضايا التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين وإلى العروبة والعرب وأوطانهما مع تبيان ذلك علانية. وقد مثل حلب في هذا المؤتمر خير فضلائها في طليعتهم المرشد الورع الغيور الشيخ محمد النبهاني، والعلامة العامل المفضال الشيخ ناجي أبو صالح. وحضره جميع علماء دمشق ومن يعمل في الحقل الديني الإسلامي (حتى من ليس لهم زي العلماء)، وبعض فضلاء محافظات الإقليمين. وقد لاقت هذه المقررات الرضى جميعه من كل فرد وحبذها كل شخص». ديباجة المؤتمر.. وقبل التطرّق إلى مخرجات هذا المؤتمر تمّ التأكيد في ديباجته التي افتتحت بالبسملة على أن الجزائر المجاهدة هي جزء لا يتجزأ من البلاد العربية والإسلامية جميعا، وإن ما يقع فيها من مآسٍ وجرائم استعمارية مما يندى له جبين الإنسانية خجلا، وتقشعر له الأبدان، ومما يهتك أعظم هتك للقوانين والأعراف الدولية، إن ذلك يعتبر واقعا على كل بلد عربي وإسلامي وعلى أهله أينما كانوا من بقاع الأرض، ويوجب على كل من يعد نفسه إنسانا أن يثور في وجه فاعليه المجرمين، وأن يعاون على مكافحته بكل وسيلة حرمة للإنسانية وصيانة لأبسط حقوق الإنسان والمثل الكريمة، بصرف النظر عن الدين والجنس والبلد، لأن ذلك وحشية صريحة من الفرنسيين وأعوانهم لا ينبغي أن يوصم بها وجه القرن العشرين، الذي أقيمت فيه المنظمات الدولية من الهتك والعدوان. لذلك تنادى علماء المسلمين في الإقليم السوري بدعوة من جمعية أنصار المغرب العربي بدمشق وبالاتفاق مع رابطة العلماء فيها إلى اجتماع في جامع بني أمية، وعقدوا مؤتمرا لبحث قضية الجزائر المجاهدة وضراوة الاستعمار الفرنسي الوحشي فيها، وذلك في اليومين الثاني والعشرين والثالث والعشرين من رجب عام 1380 ه وفق التاسع والعاشر من كانون الثاني عام 1961 ، عملا بقول الله تعالى في محكم قرآنه: «إنما المؤمنون أخوة، وبقول رسوله محمد صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه في مصيبة نزلت به»، وقوله «المؤمن أخو المؤمن يحوطه من ورائه». مخرجات مؤتمر الجزائر 1961 وقد انتهى المؤتمرون بعد عرض الوقائع وبحثها إلى مقررات ومخرجات في شكل مطالب عملية بلغ عددها (27 مطلبا) في مناصرة القضية الجزائرية، وهي موجهة إلى الحكومات والشعوب العربية، ومستنكرة مواقف الدول الغربية. وللأهمية التوثيقية والتاريخية لهذه القرارات ننشرها كما وردت للأمانة العلمية، وقد تمثلت في: 1 – اعتبار العدوان الفرنسي في الجزائر ضد العرب والمسلمين عدوانا على الحرية والإنسانية والقيم الخلقية في العالم. 2 – إيذان العالم العربي خاصة والإسلامي عامة باعتبار فرنسا في حالة حرب معهما في نظر الإسلام، وإيذانهما أن من يحارب من المسلمين في صفوف الجيش الفرنسي يعتبر خارجا عن الإسلام. 3 – اعتبار جهاد جيش التحرير في الجزائر جهاد دفاع مقدس، تخلصا من عدو معتمد أثيم، واعتبار هذا الجهاد فريضة على كل من استطاعه بجميع الوسائل. 4 – استنكار مواقف الدول التي تساعد فرنسا ماديا بالأسلحة أو أدبيا في المجالات الدولية، واعتبارها شريكة لها في جرائها ضد الإنسانية، والتحذير من المنظمات الصهيونية السرية التي تعزّز الاستعمار وخاصة ضد الجزائر. 5 – اعتبار تفجير فرنسا القنابل الذرية في الصحراء الجزائرية عملا إجراميا وخطة استعمارية، تهدف بالدرجة الأولى إلى الحيلولة دون تحرير الجزائر، وتهدف بالتالي إلى تثبيت قدم الاستعمار في إفريقية وآسيا والعالم كله، واعتبار إمداد فرنسا للصهيونية المجرمة في الجزء المغتصب من فلسطين بالأموال والرجال والسلاح، وخاصة بالأسرار الذرية، جريمة تهدف إلى تعزيز الاستعمار في الجزائر وتهدّد الإنسانية، علاوة على تهديد دول الشرق وطليعتها جمهوريتنا والدول العربية. 6 – الدعوة إلى محاربة فرنسا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وتأميم مؤسساتها في البلاد العربية والإسلامية. 7 – مطالبة الدول العربية والإسلامية المنتجة للنفط بتأميم أسهم فرنسا في شركاته، ومنع وصوله إلى فرنسا بأي شكل. 8 – مطالبة الدول الإسلامية والعربية بإغلاق مطاراتها وموانيها في وجه الطيران الفرنسي والبحرية الفرنسية، ومناشدة عمالها بعدم تحميل وتفريغ البضائع والسفن الفرنسية. 9 – مطالبة الحكومات العربية والإسلامية باتخاذ التدابير التي تؤمن موارد ثابتة سهلة الجباية لمعونة الجزائر كإحداث طابع خاص وغير ذلك. 10 – حثّ دول المغرب العربي على تطهير أرضها من القواعد العسكرية التي يعتبر بقاؤها تهديدا لاستقلال البلاد وحربا على جيش التحرير في الجزائر. 11 تذكير الحكومات والشعوب الإسلامية بواجباتها في مناصرة الجزائر المجاهدة والاعتراف بحكومتها المؤقتة، وتقديم جميع المساعدات المالية والعسكرية والفنية، والتساند مع الدول العربية في ذلك، عملا بما يوجبه الإخاء الإسلامي والواجب الإنساني، «وذكر فإن الذّكرى تنفع المؤمنين». 12 – مطالبة دول الجامعة العربية وحكومة الجزائر المؤقتة بتنفيذ ما تقرّر في مؤتمر شتورا من السماح للمتطوعين بالمرور عبر الأراضي وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه من تدريب وعتاد ومؤن، وإمدادهم المستمر في ساحات القتال، نظرا لكونهم متطوعين مجاهدين. 13 – مطالبة الدول العربية والإسلامية بإمداد حكومة الجزائر بالخبراء الفنيين والعسكريين والأسلحة الثقيلة كالطائرات والدبابات والمدافع الضخمة وما شابه ذلك، وتأمين المطارات والمرافئ الحرة لها وكل ما تستلزمه معركة التحرير. 14 – الحض على تعميم أسبوع الجزائر في جميع البلاد العربية والإسلامية. 15 – المطالبة بجعل ركن دوري توجيهي خاص بالقضية الجزائرية في الصحف والإذاعات على أنواعها في جميع الدول العربية والإسلامية. 16 – دعوة من لم يعترف بحكومة الجزائر من دول مؤتمر باندونغ والدول المناصرة للجزائر والمؤيدة لها، إلى الاعتراف بها، وتأييدها في المجالات الدولية. 17 – شكر الدول الحرة التي أيدت حق الجزائر، فصوتت إلى جانبها في الهيئة العامة للأمم المتحدة. 18 – شكر الهيئات الدينية والأدبية والسياسية والعمالية الدولية والصحف التي ناصرت حرية الجزائر في أنحاء العالم، ورجاء متابعة هذه المناصرة. 19 – استنكار موقف أمريكا ودول حلف الأطلسي لمناهضتها حرية الجزائر وإمدادها فرنسا الاستعمارية أدبيا وماديا بالأموال والسلاح. 20 – استنكار موقف ألمانيا الغربية لمساعدتها فرنسا بالأموال، وسماحها لأبنائها الألمان بالتطوّع في الفرقة الأجنبية في الجيش الفرنسي ضد الجزائر، علاوة على مساعدتها الضخمة لإسرائيل. 21 – استنكار كل الحلول الاستعمارية؛ كالاستفتاءات المزيفة ومحاولة تقسيم الجزائر، واعتبار كل تعاقد على خيراتها ومنح شيء من الامتيازات فيها عن غير طريق حكومتها الحرة، عملا باطلا لا يلزم الجزائر بشيء. 22 – العمل على الاستفادة من موسم الحج في تأييد قضية الجزائر ومعونتها بجميع الوسائل. 23 – العمل على عقد مؤتمر إسلامي عام لنصرة قضية الجزائر. 24 – تأييد مؤتمر الأقطاب الذي انعقد في الدار البيضاء فيما اتخذه من مقرّرات لدعم حرية الجزائر وأقطار إفريقية، ومناهضة الاستعمار في العالم. 25 – اعتبار هيئة المؤتمر الإدارية ولجنته التحضيرية ومن تختاره الهيئتان المذكورتان من أعضاء المؤتمر وغيرهم مكتبا تنفيذيا للمؤتمر. 27 – هذا وإن المؤتمر ليشيد بمواقف سيادة رئيس الجمهورية العربية المتحدة (الرئيس جمال عبد الناصر) في دعم قضية الجزائر في مجالاتها الدولية والوطنية، كما أنه يشكر لسائر الرؤساء والملوك العرب والمسلمين الذين قاموا بقسط من واجب مناصرة الجزائر، مع رجاء مضاعفة جهودهم المبرورة في هذا السبيل. وإن المؤتمر ليضرع إلى الله العلي القدير أن ينصر الحق على الباطل، ويوفّق المجاهدين المخلصين، ويمحق كيد المستعمرين المجرمين». خاتمة: ما نطمح إليه دعوة القائمين على المخابر العلمية في الجامعات الجزائرية الحالية، لا سيما التي تعنى بالإعلام والاتصال والدراسات التاريخية والأبحاث الخاصة بالثورة التحريرية إيفاد أساتذة وباحثين ومجموعات طلابية إلى عواصم البلدان العربية خاصة مكتباتها الوطنية ومتاحفها ومكاتب مؤسساتها الإعلامية العريقة، وهذا للاطلاع على الجرائد والمجلات العربية التي كانت تصدر في تلك الفترة (1954-1962)، ورصد ما نشر حولها بدقة ودراية، وضرورة الحصول على نسخ من تلك المادة الإعلامية إلى جانب أرشيف الإذاعات العربية المتعلق بثورة الجزائر، لتوظيفه في مختلف الدراسات الأكاديمية والأطروحات الجامعية، مع تسهيل مهمة هؤلاء الباحثين عن طريق الجامعات والسفارات الجزائريةبالعواصم العربية.