يجب أن نقول الأشياء كما هي، ونواجه الواقع بالحقيقة، لقد فشلت المدرسة الجزائرية في وضع الكتاب ضمن أولويات الاستراتيجية التعليمية، لنترك حديث الأرقام الرسمية جانبا، ونقرأ هذا الغياب في سلوكيات الأطفال، في قيمة تحصيلهم المعرفي الذي يقوم بالأساس على التلقين السلبي، ولنتحدّث بجرأة عن عدد الصفحات التي يقرأها التلميذ في السنة، ثم كل هذا ينعكس على مستويات أخرى مثل الجامعة، حيث القراءة أصبحت سلوكا مهجورا. والنتيجة أنّ (الفشل في تخريج جيل يُقدّر القراءة له عواقب طويلة المدى على الجميع). وهذا ما صرنا نجنيه من ظواهر مثل العنف. يُمكن أن نستفيد من نقاشات الفلاسفة وعلماء التربية والمفكرين في دور التربية في تنمية الأفراد؛ إنّنا إلى اليوم لا نعرف ما هو هدف التربية في مجتمعنا؟ وما دور المدرسة في ذلك؟ يقول نيتشه في كتاب مهم عن معلمه (شوبنهاور) أنّ التربية تعني تحرير الإنسان من القيم الاصطناعية، وهي تحميه من التشوّهات، وتنقيه من الشوائب. ((إنّها أي التربية لا تجهّزنا بأعضاء اصطناعية وأنوف شمعية أو نظّارات طبية إنّ تلك الهدايا تُعطينا بالعكس صورة مشوّهة فحسب عن التربية إنها بالمقابل تحرير، إزالة لكلّ الأعشاب الضّارة، القمامة وكلّ الحشرات التي تُهاجم البراعم الحساسة، إنّها تشعّ ضوءا ودفئا، إنّها رذاذ المطر الناعم في الليل)). (04) فخلف هذه اللغة الشعرية يكشف لنا نيتشه بأنّ التربية هي إعادة ربط الإنسان بالحياة، وانطلاقا من هذا المبدأ اكتشف كتابات شوبنهاور التي كانت الوحيدة التي أثّرت فيه لما كان شابا، بل أحسّ بأنّها لم تُكتب إلاّ لأجله. لقد وجد في هذه الكُتب الطريق الذي سيسلكه في حياته، بعيدا عن المؤسسات وعن المناهج والنظريات، بل هو طريق يصله بالحياة. لقد انتقد نيتشه التعليم في ألمانيا وقال بأنّ العلماء كانوا يفكرون بالعلم ونسيوا التفكير في الإنسانيات. القراءة واكتشاف الذّات لا أريد أن أكتب عن القراءة كما لو أنّي أشرّح الكلمة مخبريا، بل أريد الحديث عنها كتجربة ذاتية وحية. في رواية (من يخاف مدن النحاس؟) للروائي العراقي الراحل (فوزي كريم) تحدّث بطل الرواية عن معنى القراءة عنده، وقد وجدته مهما، حيث قال (أشعر أنّ الكتاب الذي أقرؤه، إنّما أكتشف نفسي فيه). كان بطل الرواية يعيش في حيّ من أحياء العراق في زمن الانقلابات السياسية وبداية سيادة سلطة الزعيم وفرض ثقافة الوصايا، إذ كان يجد في الكُتب ملاذه الوحيد الذي يحميه من ضربات الواقع القاسية، فكان يقضي جل يومه يقرأ كتب التراث قبل أن يكتشف الروايات، وما تثيره من أسئلة تمس راهنه. الجملة على بساطتها، تحمل تعريفا مهما للقراءة، وهو أنّ قراءة الكتب طريقة من طرق اكتشاف الذات والتعرّف عليها. أي أنّ هذا الفعل يمنح للفرد استقلالية عن المحيط العام، ويمنحه الحرية ليكتشف ذاته بنفسه، دون وصاية من أحد، وفوق هذا ينبثق وعيه كانفصال عن الجموع التي تسعى دائما إلى سبك الأفراد في قوالب عامة، حتى يغدو الجميع متشابهين. كان بطل الرواية يشعر بأنّ كلّ كتاب يفتحه هو كتاب يعنيه بشكل شخصي، وكل كتاب يقرأه هو كتاب كُتب خصّيصاً له. والحقيقة أنّي شخصيا كثيرا ما أتعامل مع الكتب بوصفها كائنات تتحدث إليّّ بالدرجة الأولى، وكأنّها ألّفت لأجلي فقط، فتتحوّل القراءة إلى احتكار مؤقّت للكتاب، ثم إلى عملية إنصات رهيفة لصوت حميمي يقصدني دون غيري، وإلى حوارية ذاتية مفتوحة على الأسئلة، أسئلتي الشخصية. إنّ علاقة القراءة باكتشاف الذات قد أثارت اهتمام الكثير من الأدباء والفلاسفة، ومنهم هارولد بلوم الذي كتب قائلا: (في النهاية نحن نقرأ وغايتنا العليا [...] هي تقوية النفس، والتعرّف على اهتماماتها الأصلية). لماذا لا ينظر كل قارئ إلى الكتاب بأنه يعنيه بالدرجة الأولى قبل غيره؟ وأنّ الكتاب الذي يفتحه إنما هو دعوة للإنصات إلى ذات تحدثه وتفضي إليه بالحقائق؟ تفتح الكتب الأبواب الموصدة في داخلنا، وهي كثيرة، إنها تدعونا إلى أن نتعرّف على المسالك الخفية التي تفضي بنا إلى اكتساب معرفة ذاتية وبآلية ذاتية بأنفسنا العميقة. القراءة لأجل فهم الإنسان لا نقرأ لأجل أن نقرأ، بل نقرأ لأجل أن نتواصل مع ذواتنا الداخلية، ولأجل أن نفسّر العالم الذي يحيط بنا؛ ما تقوم به الكتب أنها تنقلنا من مرحلة الإدراك السطحي والعفوي للعالم، إلى مرحلة أكثر وعيا بتنوّعات وتعقيدات هذا الأخير؛ فنحن نعيش في عالم مُركّب ومعقد يحتاج إلى أدوات كثيرة لأجل فهمه. والفهم شرط أساسي لإقامة تواصل صحيح مع ذواتنا ومع الآخرين ومع العالم. إنّنا مهدّدون باستمرار بخطر إساءة الفهم، أو العجز عن الفهم. يقول هنري ميلر: (والذين يحسنون قراءة إنسان يستطيعون أن يقرؤوا كتبه)، أي أنّ العلاقة بين القراءة والحياة وطيدة، بل كل طرف يساعد في فهم الطرف الآخر. تساعدنا الكتب على فهم الحياة، وتساعدنا الحياة على تأليف الكتب، وعلى فهم الكتب لأنها في الأصل تعبّر عن فهمها لها. كل كتاب نفتحه يجعلنا نخطو خطوة في الحياة، ويجعلنا نغيّر زوايا نظرنا ولو بدرجة واحدة، قد تكون نظرتنا مضببة فتزول تلك الغشاوة لنرى بوضوح، وقد تساهم الكتب في نقلنا من النظرة البريئة إلى نظرة أكثر إدراكا لتعقيدات الوجود. القراءة كفعل مقاومة قد لا نبالغ إن قلنا بأنّ القراءة فعل من أفعال المقاومة، وإلاّ بما نفسّر لجوء الأنظمة الشمولية عبر تاريخها الطويل إلى حرق الكتب والمكتبات، وملاحقة الكتّاب بإعدامهم أو بنفيهم؟ هناك قوة ما في الكتب، وهي قوة التنوير التي تُخيف أعتى الديكتاتوريات. في ذلك الزمن، كانت الكُتب تُهرّب، وكان الكُتّاب يفرّون بجلودهم لأنّ الكلمة كان لها مفعول مزلزل على الديكتاتوريات، ولذا فإنّ القراءة كانت أيضا ضربا من المقاومة. كتب دانييل بيناك: (كل قراءة هي فعل مقاومة. مقاومة ماذا؟ مقاومة كل العوارض الممكنة)). (08) وأكيد أنّ تلك العوارض لا تنحصر فقط في أنظمة شمولية، بل تشمل كذلك الثقافة الاستهلاكية التي تغزو اليوم حياتنا، فأحدثت انقلابا خطيرا على منظومات القيم الذوقية والأخلاقية. وكما قلنا سابقا، فقد ساهمت هذه الثقافة العولمية بطابعها الاستهلاكي في ترحيل أجيال بأكملها نحو نمط جديدة من الثقافة تتميز بالسطحية وبالحسية وبمخاطبة الغرائز، وبكل ما هو سطحي وعابر وتافه. إنّنا نشهد تهديدا حقيقيا للذوق العام، عبر هجوم شرس لثقافة مرئية، تخاطب الظواهر، لا الجواهر. في هذا السياق، لابد أن تتحوّل الثقافة الجادة إلى قلعة من قلاع المقاومة، أمام تحوّل في الهندسة الاجتماعية، وتحوّل في الأذواق وفي المنظومات الفنية والجمالية التي أضحت جزءا من اللعبة التسويقية لمنظومة اقتصادية تحتكم إلى الأرباح لا إلى القيمة الفنية أو الجمالية أو الأخلاقية. وليس خافيا على الجميع أنّ الكتاب نفسه صار مهدّدا من خلال سيادة ثقافة الصورة، والوسائط التواصلية الجديدة، التي أبعدت الناس عن ثقافة الكتاب، وجعلتهم ينفتحون على أشكال جديدة من التواصل المعرفي رسمت حدوده المواقع الإلكترونية والمدونات وصفحات التواصل الاجتماعي، بما توهمه من إحساس بالحرية وبالانفتاح اللامحدود على العالم. يضيف بيناك في نفس السياق: (فالقراءة الذكية تنقذ الإنسان من كل شيء، حتى من نفسه). بمعنى أنّ القراءة في سياق هيمنة الثقافة الاستهلاكية هي إنقاذ للإنسان من حالة الاغتراب التي فرضتها هذه الثقافة. إنّ من مهام القراءة هي خلق أفراد مستقلين، يؤمنون بحرية الفكر، ويملكون القدرة على أن يفكّروا بحرية. ولا يمكن أن تتحقّق هذه الاستقلالية إلا عبر الثقافة، أما ما يهدّدها فهي الأوهام التي تزرعها السلطة والمنظومات الاجتماعية، وكذا انعدام الفهم، وسيادة القرارات الانطباعية. هل بإمكان القراءة تغيير حياتنا؟ هناك كتاب في غاية الأهمية بعنوان (سنة القراءة الخطرة) ألّفه أندي ميلر؛ في هذا الكتاب يتحدّث الكاتب عن دور الكتب في تغيير حياته جذريا، بعد أن كان من الذين ينفرون من قراءة الكتب، بل ويجدون بأنها غير نافعة، خاصة الكتب الأدبية منها. يهمّني استخلاص بعض الأفكار من تجربة ميلر، بدل الحديث بشكل عام ونظري عن علاقة القراءة بالتغيير. لقد تحدّث ميلر في كتابه عن الكتب التي غيّرت حياته، فطيلة سبعة وثلاثين عاما ظلّ يتحايل على الكتب حتى لا يقرأها، وما عقّد أكثر علاقته بالكتب هو تأثير التكنولوجيا على الحياة الثقافية، التي أصبحت تهدّد طرق قراءتنا للكتب، بإنتاج أشكال باهتة من التواصل مع المعرفة. يقول: (هناك عدد من القوى المتنافسة تهدّد بتغيير الطريقة التي عرفنا بها القراءة، ماذا نقرأ وكيف نقرأ؟ الأنترنيت، متاجر الكتب، المكتبات العامة، الحكومات. وقد أهدانا العقد الأخير المدونات، اندية الكتب، مهرجانات الأدب، كل الأحاديث في الشبكات الاجتماعية. قد نعتبر هذه الإضافات تقدّما، ولكنها ليست التجربة الأصلية ذاتها. إنها ليست القراءة). لقد قرّر أن يضع قائمة تضمّ خمسين كتابا لأجل قراءتها في سنة واحدة، وهي تضمّ كتبا كانت تثير فيه الملل أو حتى الخوف بحكم حجمها الكبير. لكنه في الأخير استطاع قراءتها، ليكتشف متعة قراءة الكتب، وأغلبها كان روايات، فاستفاد من محاوراته معها، وفتحت له عوالما جديدة كان يجهلها سابقا. إنّ تجربة اندي ميلر يمكن أن تكون تجربة أيّ واحد منا، قرّر أن يكتشف عالم الكتاب، ويخوض في تجربة القراءة، وأكيد أنّ القراءة، بغض النظر عن أهدافها، فهي توسّع من مساحات الوعي في داخلنا، وتجعلنا أكثر تقبلا للتعدّد وللاختلاف طالما أنّنا نتعلّم باستمرار كيف نتجاوز الحقائق واليقينيات، فكل كتاب يضع حجرة في صرح الحقيقة، وقد يزيل حجرة لم تعد صالحة لإقامة بنيان متين هو بنيان الوعي. الحلقة الثانية