ما مدى تأثير الكُتب في الإنسان وعلى إنسانية الإنسان بصفةٍ عامة والأدباء والكُتّاب والمفكرين بصفة خاصة؟ ما الّذي تتركه الكُتب فينا، ما الّذي تزرعه؟ وهل تدربنا الكُتب –حقاً- وتدرب ذواتنا ونفسياتنا وذائقتنا على الجمال والفن والنُبل والتسامح والقيم. بمعنى آخر هل من وظيفة إنسانية للكُتب غير الوظيفة الجمالية والفنية. إستطلاع/ نوّارة لحرش وهل بإمكان الكُتب أن تُساهم في تكويننا؟ تقول الكاتبة والباحثة والناشطة الثقافية حبيبة العلوي في هذا المعطى تحديدا: «شخصيّا كوّنتني كُتب مُتناقضة تُراوح بين القسوة والجمال في سياق ثقافي كان يطرح عليّ كأنثى العديد من الأسئلة العصيّة غير الجاهزة للحسم». فهل تفعل الكُتب كلّ هذا. هل توسع من وعينا ورؤيتنا للأشياء والحياة والوجود؟ هل تعالج النفس؟ هل تضمد رضوضها وأسئلتها وتيهها؟ وهل هنا تكمن أهميتها في الحياة؟ وهل هذا ما يُعزّز، أثرها في حياة الإنسان؟ حول هذا الشأن «تأثير الكُتب». كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الكُتّاب والنُقاد والباحثين، الذين تحدثوا عن أهمية ومكانة الكُتب في حياتهم وفي حياة الإنسان بشكلٍ عام، وكلٌ من زاويته وحسب درجة شغفه وولهه وإيمانه الجمالي والإنساني بالكُتب، وكانت الآراء طبعاً تصبّ في مجملها في نفس النبع. عبد الرزاق بلعقروز أستاذ وباحث أكاديمي متخصص في فلسفة القيم الكِتاب لا يريد إلاّ تغيير الإنسان وتجديده ليست القراءة في الكُتُب مجرَّد اِستجلاء للمعاني الفكرية أو اِستقصاءاً للحقائق الواقعية، إنّها تخط فينا طبيعة رؤيتنا إلى العالم وكيفية الفِعل فيه، فالحضارات القائمة والحضارات المندثرة بدأت سفرها في الوجود اِنطلاقًا من الكِتاب، فدومًا هناك الإقرار الخالد: في البدءِ كانت الكلمة. إنَّ الكِتاب ليس هو تلك التَّوليفات الورقية أو الرُّموز المرسومة، إنّه يحمل روحًا لطيفة وقُدرة نافذة تخترق قلب الإنسان؛ فتحوله إلى شخص ذي مبدأ ورسالة في الحياة، إنَّ الكِتاب يُغَير القارئ أوَّلا، ويخلق في وعيه حرارة المعرفة، ويَدفع به إلى الفِعل والأثر في الواقع ثانيًا، وكم يقُصُّ علينا التَّاريخ نماذج حضارية وإنسانية؛ كان الكِتاب هو الأثر الحاسم في تغييرها، فميلاد الأديان اِرتبط دومًا بالكُتُب، التَّوراة في اليَهودية والإنجيل في المسيحية والقرآن في الإسلام، وفي التراث الفكري كانت الكُتُب دومًا عوامل تغيير ووسائل ناجعة لاِستخراج الكنوز الدّفينة من ذات الإنسان، وبواعث معينة على اِستكداد الفكر واستثباتّ السلوك على قيم التعلُّم؛ فالكِتاب في الأصل هو من يقرؤنا ويُعيدُ تجديد حياتنا، ولسنا نحن من نقرأه، إنّ القارئ الحقيقي هو الكِتاب، والمقروء الحقيقي هو نحن، ولذا، فبقدر ما نتجه نحو الكِتاب، بقدر ما نكون محل خِطاب من خارج الذَّات يرغب في تغييرنا، خلاصة الأمر: أنّ الكِتاب لا يريد إلاّ تغيير الإنسان وتجديده، يُبيّن له ويقصُّ عليه القَصَص؛ ويُنَوّعُ في أساليب حواره، تدليلاً عقليًا وتخييلاً إبداعيًا. والشَّواهد مُتواترة في السياقات الثقافية كذلك، ففي سياق الثقافة الإسلامية كان كِتاب «تهافت الفلاسفة» الّذي كتبه أبو حامد الغزالي، دافعًا لاِبن رشد كي يكتب عنه «تهافت التَّهافت»، وكان كِتاب الفيلسوف الألماني شوبنهاور «العالم كإرادة وتمثل» الدّافع الحاسم لفريدريش نيتشه؛ في النّظر إلى العالم وبناء رؤية تأويلية تُبَوئُ الإرادة منزلةً رفيعة، وفي ألمانيا، كان الفيلسوفان «أدورنو وهوركهايمر» يلتقيان وقت المساء في لقاء ثنائي تفاكري لأجل قراءة كِتاب إيمانويل كانط «نقد العقل الخالص»، وما لبث أن اِنظم إليهما فلاسفة أُخَرْ، فكانت الثَّمرة هي إنشاء معهد البحث الاِجتماعي في سنة 1923 الّذي يُعَدُّ اليوم في صورة مدرسة فرانكفورت، وهي حاليًا في جيلها الخامس ومن أقوى المدارس تأثيراً في الفلسفة والعلوم الاِجتماعية. إنَّ القراءة هنا هي جمع وضم، تجمع النُّصوص والمعاني، وتجمع الأفراد كي تحولهم إلى أشخاص فاعلين في المجتمع. ولقد كان مالك بن نبي في الفكر الجزائري يُعالج التيه الفكري عند الشَّباب بالكِتاب، وقد أوردَ في «مذكرات شاهد القرن» كيف أنّ الشاب «عبد العزيز الخالدي» أثَّرت فيه بعض الاِتجاهات اليَسارية في مدينة عنابة لمّا كان طالبًا في الثانوية، فاختار له «بن نبي» كِتاب «هكذا تكلّم زرادشت» كي يُحرره من سطوة اليسارية ويُعيد له الثقة بنفسه، لأنّ الإنسان الأعلى عند نيتشه ضدّ ثقافة الجُموع التي تكره المبدع وضدّ ثقافة العناكب التي تُنادي بالمساواة المُسطّحة. وهكذا؛ فالكِتاب هو وسيلة علاجية للنَّفس التائهة.ويجدرُ القول أيضاً، في سياق الدور الحاسم للكِتاب، أنّ أحد أسباب العنف بين الأفراد، هو فقدان الرصيد اللغوي الّذي يتواصل به الحوار بينهما، ومعلوم أنّ من يفتقد للكِتاب، يفتقد حتمًا لثروة لغوية وعقلية اتساعية، فكان الأسلوب العلاجي لهذه الأنفس التّالفة؛ الإلزام بالقراءة في السُّجون، لأجل تحصيل «رصيد» من الثروة اللُّغوية تُعِينُ النّزلاء على تَعَلُم فن الحوار والتَّعايش مع الآخرين وتوسيع النَّظرة وترسيخ العفو والتسامح. إنّ الّذي يفتقد للكِتاب ولم يتعوّد على القراءة يحمل في ذاته النُّزوع نحو العنف، وفي المقابل، أنَّ الّذي يحب الكِتاب ويَحمِل نفسه على القراءة، يكون نَزُوعَا نحو الصَّفح والتَّوادُدِ والتَّحَابُبِ والتَّآلف والدّفع بالتي هي أحسن؛ ويكون أكثر اِستعداداً للبناء وليس للهدم. وأمام هذا فلا عجب أن نجد بعض الفلاسفة اِعتبروا أنّ اللُّغة هي مأوى الكائن أو أنّ روح الإنسان تَسْكُن الحرف وتقيمُ فيه كما تقيمُ في العالم. وإذ عُرفت قيمة وأهمية الكِتاب، وبانت أدواره العلاجية، فإنّ التفكير العاجل يكون في رسم أساليب لتشجيع عادة القراءة واستثبات قيمة الكِتاب في القلب، واِنطلاقًا من موقعي كأستاذ في الجامعة، أقول، بأنّ الجامعة هي مؤسسة تعليم القراءة، وليست مؤسسة حشو الأذهان بالمعارف، فالأستاذ الجامعي الّذي لا يقرأ والطَّالب الّذي يكتفي بمقرره الدراسي والمكتبة التي لا تتجدّد ولا تنفتح أو تقتني الإصدارات الجديدة، تصب كلها في تأخير المجتمع وتنمية تخلفه، وتعطيل قوّة العقل وحركته نحو الإبداع. والجديرُ بالملاحظة في الأخير، أنّ هذا الشأن الجليل أو المنزلة الرفيعة للكِتاب، لا يُراد منها القراءة لأجلها، وإنّما لأجل التَّغيير الاِجتماعي وتحرير العقل من التَّقليد والإتباع والاِشتراك مع الغير من أجل إصابة المعرفة النَّافعة نظريًا والتحلّي بالسُّلوك الفاضل عمليًا. محمّد خطاب كاتب وناقد وأكاديمي الكُتب في صورتها الرمزية مقترنة بالوجود معنى الكِتاب غائب عن وعي الكثير من النّاس. الكِتاب بالمعنى العام حاضر بقوّة السلطة: الكاتب، الثقافة، المطبعة، القارئ. بينما الكِتاب الوجود نادر الحضور وهو الّذي سعى إليه المبدعون الذين يزهدون في النوع الأوّل، بل لا يؤمنون بوجوده إلاّ من حيث هو دليل على تجربة إنسانية ذات طبيعة مختلفة. فكرة الكِتاب قديمة جداً، هي نفسها فكرة الثوب، أو الطعام، أو البيت، أو المكان الّذي نحبه والكائن الّذي نعشقه. بدأ الكِتاب مع سيرة الوجود في شكل صورة لا تفترق عن حياة الإنسان وتناقضاته. أفضل من يُوحي لك بذلك بورخيس أو كيليطو مثلاً، التصوّف مثل اِبن عربي أو كلّ عاشق للكِتاب كتجربة إنسانية. سيرة الكِتاب هي سيرة المعنى الإنساني الّذي لا يزال مستمراً: يمكن فهم هذه السيرة بالضد، صورة الكِتاب كتهديد؟ الكِتاب والنار؟ الكِتاب والقتل؟ الكِتاب الخطر الّذي لا يمكن السكوت عليه. يُوحي بورخيس بصورة في الثقافة الإسلامية لم يجدها في أي ثقافة أخرى هي «أمّ الكِتاب» التي وردت في القرآن الكريم، وهو اِبتعد في الفهم حين ترجمها إلى بعض الألسنة، الإسبانية مثلاً، أو الإنجليزية أو الفرنسية أو حتّى الإيطالية، بالفرنسية La mère du livre وما تُوحي به كلمة أُمّ من صور. أمّا أن يكون للكِتاب أُمّ فهذا يحتاج لفهم (خاص). إذا كان الكِتاب في صورته الرمزية مقترنًا بالوجود، بأمومة كونية خالصة، فهذا يعني أنّ له وضعًا خاصًا داخل ما يُؤسسه في الحياة البشرية، فبعيداً عن الثقافة وما تُوحي به نظريات الكتابة، فإنّ الكِتاب خُلِقَ ليكون حلمًا، وحلما أبعد من أن يتحقّق كله. وهذا يُعزّز أثره في حياة البشر عامة والإنسان خاصة. ما يمكن أن نُسميه بالأثر الحقيقي والباقي والقوي لا يتوقف عند الجمالي والاِجتماعي والثقافي، بل يتعداه إلى الأثر الإنساني حين يتحوّل إلى قيمة بانية مؤسسة لحضارة ولعالم ولكون. حُلم بعض الكُتّاب هو الكِتاب، وليس الكُتُب، يمكن للكُتُب أن تحلم هي نفسها بالكِتاب، لأنّ حقيقة الكتابة أن تكتب ذاتك، وهذه الذات تتذرر عبر كُتب كأنّها تريد أن تجتمع في كِتاب. حلم أدونيس لَمَا كتب الكِتاب، سيبويه الّذي سمى كتابه في النحو بالكِتاب، مفهوم الكِتاب في التصوّف، المفهوم الوجودي الخالص، لأنّ الكتابة خلق تعكس إبداع الله في الكون، كذلك الكاتب يُحاول أن يخلق عالمًا في كِتاب، أو وجوداً خالصا من البداية، أن يبدأ من غير سبق. هذا شأن يُعذب الكثيرين مِمَن يحلمون بالوصول إلى ذواتهم داخل اِحتراق المسافات ونفي الطُرق. الكِتاب ليس فقط مجرّد أوراق بين دفتين، هو ذات أو حلم ينتقل عبر كلمات أو عبر اللّغة التي تُجسد كلّ الكائن، روحًا وجسداً، وتُبدعُ جسراً بينه وبين الآخر نحو كمالٍ غريب، نحو الإنسان الّذي هو اِنعكاسُ الله في المرآة. هذا الفهم الخالص للكِتاب الحلم يُبدع من تلقاء ذاته ولمجرّد وجوده أثره الخاص وهو الّذي لا يختزل في مجرّد الأثر الجمالي أو الفني أو الاِجتماعي أو حتّى الديني والأخلاقي، الأثر الإنساني الّذي يسعى إلى فتح زاوية في الكون نطل منها على صورة أخرى للإنسان في أعلى تجليه المبدع أو أعلى درجات جنونه الخاص. حبيبة العلوي كاتبة وناشطة ثقافية وأستاذة جامعية سبيلنا الوحيد لاِكتشاف الآخر سؤالٌ مُربك: «هل أنقذتنا الكُتب»؟ يُمكنني أن أُجيب بشكلٍ بسيط وذاتي بِأنْ «نعم»، إنّ الكُتب والقراءة كفعل هي فِعلٌ مُخلّص، مخلّص خاصّة من الوحدة والعزلة، مخلّص من الأسئلة التي لا تجد من أجوبة مقنعة بالجغرافية المُحاذية لأجسادنا.. لقد اِشتغلت كمعادل للتنقّل والسفر عبر عقول غريبة، لكنّها مُتواطئة على التفكير في المعضلات ذاتها، كانت كذلك بالنسبة لي في طفولتي التي لم يكن يُنافسها فيها لا فضائيّات ولا مواقع تواصل اِجتماعيّة ولا يوتيوب، وحدها الكُتُب كانت بلا مُنافس... الكِتاب كان سبيلنا الوحيد لاِكتشاف الآخر.. اِكتشاف أجوبة الآخر عن الأسئلة نفسها، تلك التي يُردّدها كلّ طفل بدواخله وعندما يطرحها على الملأ يصطدم لأوّل مرّة بالوجوه المُتلعثمة. لكنّني بأثر رجعي يضع مسافةً بيني وبين حميميّة فِعل القراءة الطفولي، عليّ أن أعترف أنّ قراءة الكُتُب لم تكن دومًا حاملاً للراحة والمُتعة، هي فِعلٌ مُورّط، قد يُورّطك في مسارات حياتيّة لم تخترها بعناية، بل أتاحها بطريقك من أثّث مَكتبتك، لهذا من الضروري جدّا أن نمنح لأطفالنا فسحة الاِختيار بين عدد هائل ومتنوّع من الكُتُب، شخصيّا كوّنتني كُتب مُتناقضة تُراوح بين القسوة والجمال في سياق ثقافي كان يطرح عليّ كأنثى العديد من الأسئلة العصيّة غير الجاهزة للحسم. إنّها تسعينيّات القرن الماضي كنتُ أقرأ لمن يدعوني للحجر ولمن يدعوني للحريّة، سياق حصرنا كأطفال جزائريّين ضمن صراع أكبر من عقولنا ولهذا كبرنا باكراً.. ولهذا أيضا نفتقدُ كجيل لجزءٍ هام من طفولتنا وفرحنا البسيط. لكنّ هذه الورطة وهذا المفكّ هو الّذي صنعنا، شخصيّا ممنونة لمن أتاح لي تلك الكُتُب، في صيغها الأكثر تطرّفًا وتصالحًا.. عن نفسي أتمنّى أن تُمنح لأطفالنا فرصا أرحب مع زمن يفرض عليهم الإيمان بالتنوّع والاِنفتاح. لا يمكن أن نعتبر الكُتُب أو القراءة هي المخلّصة في عصر طغت عليه الصورة، غير أنّها ستبقى المشغّلة للتفكير ولهذا لم تُهجر في العوالم المتقدّمة، وانتكبت في عوالمنا التي تبحث عن ملء الوقت لا اِستثماره. نحنُ نُعاني اليوم من هذه الإشكاليّة: نكبة القراءة، لم نعد في عوز لاِكتشاف الآخر، فالآخر حلّ بنا دون أدنى اِستئذان لهذا صار فِعل الاِكتشاف سلبيّا، اِستهلاكيّا، ولهذا بالضبط يبقى للكِتاب قيمته من حيث هو وسيلة حوار، يمكن أن تعتبر أرحب من الصورة بحكم طبيعة اللّغة التخييلية؛ فاللّغة تمنحك فرصة التخييل والتأويل إلى ما لا نهاياتك.. أمّا الصورة فعادةً ما تحصرك بالزاوية.. مع وافر اِحترامي للمخرجين الشعريين.. علينا أن نعتني أكثر بالكِتاب، ونحرص بشكلٍ مُبالغ فيه على أن نستثمر في الكُتّاب الذين يمكن أن يُنتجوا لنا كُتبًا أقلّ قسوة. بشير مفتي روائي أهمية الكُتب تنبع من كونها ذاكرتنا الإنسانية المُشتركة تصور وأنت تقرأ كتابا لأفلاطون، أو هوميروس، أو للمعري، أو اِبن رشد اليوم، وأنت تدرك أنّ ما يفصلك عن كتابة تلك المؤلفات قرونا عديدة من الزمن، لكن تشعر مع ذلك أنّك تستطيع فهمها، وأنّها حتّى تُخاطبك الآن كما لو كُتبت لعصرك، لهذا الزمن الّذي تعيش فيه بالذات، لأنّ الإنسان في الحقيقة تطور كثيراً من الخارج لكن داخليًا لم يتغير كثيراً.. من هنا تنبع حسب نظري أهمية الكُتب التي هي ذاكرتنا الإنسانية المُشتركة على مر العصور وهي التي من وظيفتها أن تحمل هموم البشر وأحلامهم كما أسئلتهم وتطلعاتهم ورغباتهم وخيباتهم ولحظات السعادة التي يمكن أن نحصل عليها في حياتنا العابرة، هي الإنسان بظاهره وباطنه، وهي أحسن من يملك تلك القدرة الخارقة على أن تُشعرنا نحوها بالوفاء والصداقة الحميمة، لأنّها وُجِدت لتكون كذلك، أو لأنّ الكُتّاب جعلوها في صورتها الأجمل والأسمى كذلك، مع أنّه لا يخفى على أحد أنّه توجد كُتب مُبطنة بالسوء، ومُثخنة بالأيديولوجيات الشنيعة والأفكار المسمومة، فليست كلّ الكُتب على السواء، لأنّ هنالك كتبا تفتح الطريق وتفتح النوافذ لتدخل الشمس، وهنالك من يريد أن يُغرقك في مزيد من الظلامية والخوف، أو يُحَوِّل الكِتاب إلى وسيلة دعائية لخطاب الحقيقة المُتعالية على البشر والتي تُسْقِط كلّ الحقائق الأخرى الموجودة في الكون. نحنُ نتعلم القراءة أو نكتشفها في مراحل مُبكرة من حياتنا وهي تُرشدنا إلى وجود متعة معنوية غريبة لا نعرف حتّى كيف نشرحها ونُبررها للغير، لكنّها مُتعة حقيقية نحسُ بها ونحنُ نلتهم صفحات «رواية» أو «حكاية» ثمّ تأتي مراحل أخرى تصبح القراءة فطنة وذكية وهي تحاول أن تختار ماذا تقرأ؟ وتُميز بين هذا الكِتاب وذاك الكِتاب؟ وعلى كلّ حال في كلّ مرحلة تُوسِع قراءة الكُتُب من وعينا النقدي ورؤيتنا للأشياء كما تُوسع من قاموسنا اللغوي بحيث تمنحنا حتّى القدرة على التعبير عمَّا يختلج نفوسنا، وتُصبح لنا آراء فيما نقرأ وحتّى نستطيع القول هذا رائع وذاك سيء أو قليل الروعة أو لم يُؤثر فينا كما يجب، ثمّ نتدرج في وعينا فنبحث عن الكُتُب الخاصة والنادرة، أي تلك التي تُقلقنا وتُزعجنا أكثر من تلك الكُتب المطمئنة التي نشعر أنّها كُتِبَت لغيرنا، وكلما تعمقت العلاقة مع القراءة والكتابة تمكنا من فهم أشياء كثيرة عن إنسانيتنا، عمّن نكون في هذا الكون؟ ومن نحن في هذا العالم؟ وما هو دورنا في الحياة ووظيفتنا في الوجود؟ وما الّذي يُميزنا عن غيرنا، وما هو المشترك بيننا؟ إنّ فهم الإنسان لذاته أمر بالغ الخطورة والأهمية وهو الّذي يُرشحه ليكون في حياته قادرا على فهم غيره وحتّى فهم العالم الّذي يعيش فيه. منذ بدأتُ القراءة فهمت أنّ الكُتب مهمة في حياتي، ليس فقط للأسباب التي ذكرتها بل لأنّها كانت خير جليس/أنيس في اللحظات الصعبة أو في فترات العزلة أو في اللحظات التي تتساءل فيها عن جدوى الحياة وأهميتها؟ لم أكن أعرف وأنا شاب كيف يمكن أن يكون لرواية ما جميلة وعميقة قدرة على أن تبعث فيّ -حتّى وهي تتحدث عن اليأس والألم- قوّة جبارة لأقاوم ولا أستسلم، لأنحاز إلى ضعف الخير على قوة الشر، لأكون في صف الحياة والحب والحُلم لا في جهة الخراب والظلام والحرب.. نعم بفضل الكُتُب عرفت ذلك، وبفضل الكُتب تعلمت أن أعيش الحياة بشكلٍ مُكثف وفي أمكنة وأزمنة مُختلفة، وعبر شخصيات مُتعدّدة وكلها تُرشدك إلى البحث اللانهائي عن ذلك الشيء الجوهري في الإنسان محمّد بكاي كاتب وباحث أكاديمي تُضيف قطعة جديدة إلى حياتنا ووجودنا إنّ أثر الكِتاب على نفسية الإنسان جلل ووقعه أعظم، ومُراودة قراءة الكُتُب سببٌ وجيه لتغيّر أحوال المرء وتحسّن مزاجه وفسحة لحمل الإنسان بعيداً عبر اِستحضار تاريخ الأُمم أو عرض الأفكار الفلسفية لشتّى الحقب أو التمتع بقراءة ما جادت به الإنسانية من نثر وشعر وحكمة وعلوم. إنّ اِنصهار المرء مع صفحات الكُتب وارتياده لمكتبات المطالعة ومزاولته لاِقتناء الكُتب، سيلفّه بهالة من سُموّ الفكر وبُعد النّظر وعقلنة ما يعترض سبيله من مشاكل وهموم، وهو ما سيُمتّعه بدراية وحصافة ويقظة. أمّا أثر الكِتاب على الأدباء فجليّ لا ريب فيه، لأنّ علاقة الأديب بالكِتاب والكتابة مجبولة ومتينة. فضاء الأدب يدفع الكاتب للاِطلاع أكثر على روائع الأسفار الكلاسيكية والحداثية مختلفة الأنواع، من تاريخ وفلسفة وشعر وتصوّف، ويُمثل نهم الأدباء بالكُتب تحقيقًا لعوالم فردوسية اِرتبطت في مخيالنا بين الأدب والكُتب، فالكتابة الأدبية تحمل شغفًا يقتفي آثار الكُتب، يستمدّ منها الأديب خزّانا تنهل منه لغته، لينسج من ذلك الزّاد ألقه الإبداعي وفرادته الأسلوبية. كما أنّ أثر الكُتب على الأدباء لا يكمن في تزيين النّص بزخرف لفظي أو غرابة أسلوبية في التركيب والمعجم وتشييدات اِستعارية ومجازية، بل فسحة لفتح مدارات الصّمت التي تخلّفها مطالعة الكُتب، فما وراء الكثافة الأسلوبية واللغوية التي تمنحها مُلازمة الكُتب، تتجلّى نضارة الكاتب التي تتعدّى سجن اللّغة إلى ما تحتها من عوالم متحركة يلجها في صمت وهدوء، أين يظلّ المعنى مرجأ داخل منطق الكتابة. أمّا ما الّذي تتركه الكتب فينا. ما الّذي تزرعه؟ فالكِتاب بطبعه يحمل قدسية خاصة. منذ البدء، كان الكِتاب مخلوقا ربّانيا، ساميا، إذْ أنزلت الكُتب السّماوية لتكون تطهيراً لأنفسنا، تهذيبًا لأهوائنا ودفعا بالعقل والرّوح إلى آفاق أرحب. محبّة الكِتاب تُضيف قطعة جديدة إلى حياتنا ووجودنا، إنّها إثراء لديمومة معنى وجودنا، الكُتب شبيهة بمركّب كيميائي يُغيّر من طباعنا ويُنشّط أحاسيسنا، الحياة المُفعمة بالكُتب لا تكتفي بلحظة زمنية واحدة، أو بعمر قصير، فلها جذبٌ مضاعف، لعيش أكثر من عمر. إنّ الكتابَ هبةٌ لا تُقدَّر بثمن. تُعلّمنا الكُتب الرّفعة في الأخلاق ومُناشدة السّلم وامتداح الجمال والمسارعة إلى الخير والظفر بالحلم. قراءة الكِتاب عادةً صحية مثل الرياضة، تُهذّب تصرفاتنا، تُعلّمنا الصبر والحكمة والتريث، وتُدربنا على التدبر والتفكر والهدوء والاِقتصاد في الكلام، تُروّض شراستنا وتُصلح عطبنا، تغور في أقاصي دواخلنا لمُلامسة ما لا يُقال، لإنطاق الأبكم الموجود تحت المسامات وفكّ سراحه وإطلاق العنان للخيال، وهذا الجموح يُحرّرنا من سجن الرّوتين الأعمى والعادات المتعنّتة، ليكون وعيًا موسّعًا بالذات والآخر وموجودات العالم، حيث لا نكتفي بفهم ما هو ظاهري فقط، حيث تجعلنا الكُتب نقرأ ما بين السطور. فتنة الكُتب تتعاظم يومًا بعد يوم، سحرٌ تدجيني، يُقلب حياتنا رأسًا على عقب، فالمواظبة على القراءة، أي على الكُتب –كما هو معلوم لنا- تُحفز أدمغتنا وتُهيّء ذاكرة قوية، واكتفاءً باطنيًا يحمينا من الخرف ووحدة الشيخوخة أو شبح العزلة، فالكِتاب خير أنيس وأوفى جليس. هذا إلى جانب تمكيننا من كثافة الاِنتباه وشدّة التركيز وسرعة البديهة والتحليل واحتواء المشاكل وامتصاص التوتر العصبي النّاجم عن تشنّجات العالم وهدير الحياة الاِجتماعية.قراءة الكُتب هي تمرينٌ لمواجهة قلق الحياة وضجرها بصبر وحكمة، بإستراتيجية متأنية تدرأ الفوضى عن حياتنا وتجعلنا نتحلّى بطقوس مختلفة تنصهر فيها ذواتنا مع عوالم الكُتب، لترسم فضاءات تحمل الإنسان باِقتدار إلى أوطان أرحب؛ حيث الرّؤية والتفكير بأكثر من وجه وأكثر من وجهة..