لا لمقابر شهداء الأرقام..أعيدوا لنا جثث أبنائنا لتكتحل عيوننا برؤية قبورهم إلى كل العالم الحر..لن نكون يوماً معرضاً للصّور..نباع في المزاد العلني، إن كنّا أحياءً أو أمواتا من قال إنّنا أرقام، حجارة؟!! نحن بشر نموت من أجل الحرية..لنا أرض ووطن وأمهات وزوجات وأبناء يحبّوننا ونحبّهم، لنا تاريخ وحاضر ومستقبل..لم نقاتل من أجل الموت يوماً بل قاتلنا من أجل حياة حرّة كريمة، نحياها فوق تراب أرضنا الفلسطينية. يحتفل (الصهاينة) بذكرى المحرقة في السادس والعشرين من شهر نيسان، حسب التقويم العبري. وفي هذا اليوم يحرمون على أنفسهم كل وسائل الترفيه، وتقام مراسم الحداد وتشتعل كل وسائل الإعلام، تُسخر لتنشر بطولتهم وتذكر العالم بضحاياهم، وتنتشر المعارض والصور، ويبتكر المخرجون أجمل الأفلام التي تعبر عن فاجعتهم بأسلوب إنساني يشد العالم إليهم. رغم أهوال الجريمة بعيداً عن العدد الحقيقي للضحايا، ما زالت المشاهد لإنسانية التي أبدعها المخرجون حاضرة، وتتناسى يومياً في رأس العالم..أقولها بصراحة..نحن الفلسطينيّين لا نشمت بالموت، نحن ضد الارهاب وترويع الأبرياء، رغم ما تعرّضنا ونتعرّض إليه من وحشية وقهر وجرائم لا تحصى، وعذابات خلقت لتشتيتنا ومصادرة مشاعرنا، فقد ذقنا ألواناً من العذاب جرعنا إياه العدو الصهيوني الذي يتباكى على ضحاياه..لقد جعل من أجسادنا وقوداً للنار، للمحارق التي ابتكرها. منذ الانتداب البريطاني على فلسطين حتى يومنا هذا، فكل يوم قصف ووضحايا، وموت مؤجل معد سلفاً للذين ينجون من حرائقهم..يموتون من غدرهم، يعذّبونهم، يحطّمون نفوسهم، يقتلونهم حرماناً ولوعة. لم يشبع المحتل من التوغل في لحمهم وقتل أبنائهم وامتصاص دمائهم، يريد أن يحطم معنوياتهم، يعذّبهم، يتشفى بهم وينكر عليهم أن يتأنسوا بقبور شهدائهم، فيخفي جثثهم في مقابر سرية ويتباهى بجرمه، ويعمل على تشريع هذه القذارة أمام الرأي العام. أليس من حق شهداءنا الأبطال أن تكون لهم قبوراً معلومة في أوطانهم لتشفي عطش وحنين أمهاتهم وذويهم؟!! أليس من حقّنا أن نتنفّس حرية بعد سنوات النّضال والصّمود؟!! عار على قوى الخير أن تلتزم الصمت وتقف محايدة، وهم يعلمون أنّ الاحتلال العنصري المتطرف غول لن يتوانى لحظة في تنفيذ أبشع الجرائم بحق أبنائنا المفقودين والشّهداء..يتاجرون في لحمهم ويبيعون أعضاءهم، يجرون عليهم التجارب العلمية وهم أحياء..فالمحتل وحش قاتل، مجرم، بشع، نازي..يمكر بهم وبعائلاتهم، بهجته تشتد عندما يزرع الشك ويترك ضحاياه يعيشون مرارة وحسرة الانتظار، فهو يتقن فن التعذيب الجماعي، فلا حسيب ولا رقيب يردعه. فلتنهضوا يا أحرار العالم، فلتنهضوا يا أحرار العالم، استيقظوا من غفوتكم واطلقوا حناجركم في وجه الطاغوت، أما آن لهذه الأصوات الضعيفة أن تترجل!! المأساة إن سقطت النخوة من الكون وتحول الإنسان لمجرد آلة جامدة أو رقماً تابعاً، فاعلموا أننا خارج السياق نشق طريق التهلكة صوب جهنم وعلى الأرض السلام...فالقهر والاهمال والضغط عناصر إن اجتمعت حتماً سيكون انفجارا رهيبا، فإياكم ثم اياكم أن تتهموا المضطهدين المقهورين بالإرهاب وأنتم من صنعتموهم وأهلتموهم لهذه اللحظة القبيحة..فيا أدعياء الحرية، أيها المتشدقين بالإنسانية، يا تجار حقوق الإنسان، ما قيمة القوانين والمؤتمرات والخطب الرنانة والتغني بالحريات والأخلاق، وتعزيز الثقافات الإنسانية والعالم من حولنا يعج بالأوساخ والقوي يأكل الضعيف والمحايدون لا يبصرون إلا بعين واحدة ويعيشون العمى، يباركون ويشجعون بصمتهم هذا الجرم..يحملون شعاراً..لا نرى..لا نسمع..لا نتكلم. عشرات السجون السرية ومقابر شهداء الأرقام تنتشر من حولنا، وقد تمّ الكشف عن بعضها بواسطة مصادر صحفية أجنبية وصهيونية، وهذا غيض من فيض! وما أخفي كان أعظم. وهي على النحو التالي: 1 - مقبرة شهداء الأرقام المجاور لجسر «بنات يعقوب»، وتقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الصهيونية - السورية، ويوجد بها ما يقارب 500 قبر لشهداء فلسطينيين ولبنانيين سقطوا في حرب 1982 وما بعدها. 2 - مقبرة شهداء الارقام -2- تقع في المنطقة العسكرية المغلقة بين مدينة اريحا وجسر داميه في غور الأردن، وهي محاطة بجدار ومكتوب عليها «مقبرة ضحايا العدو»، ويوجد فيها أكثر من 100 قبر وتحمل أرقام 5003 – 5107، ومن الواضح أن التسلسل الرقمي يحدد عدد الضحايا في مقابر أخرى. 3 - مقبرة الأرقام «شحيطة» تقع في قرية وادي الحمام، الواقعة بين جبل أرييل وبحيرة طبريا، شمال مدينة طبريا غالبية الجثامين لشهداء معارك منطقة الأغوار ما بين عامي 1965- 1975. 4 - مقبرة الارقام «ريفيديم» تقع في غور الأردن، وتحتوي على مئات مقابر الشهداء. ومما يثير المشاعر أن هذه المدافن رملية قليلة العمق، مما يعرضها للانجراف فتظهر الجثامين منها، فتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والحيوانات المتوحّشة. الشّهداء لا يموتون أحياء عند ربهم يرزقون، هذه عقيدتنا التي نؤمن بها...لذا نحن لا نخشى الموت..لا يؤرقنا أين ستدفن جثتنا أو كيف...بعد أن تتحرر منها الروح وتحلق في الفضاء فكل أرض فلسطين وطن لنا..لكن ما يؤلمنا حقيقة ويشعرنا بغصة تجتر الحلق ليس الأموات الشهداء بل الأحياء الذين يتكبدون الألم والقهر والحسرة وهم يبحثون عن قبر لشهدائهم يهتدون إليه ليطفئوا شوقهم وحنينهم...فالوجع هو الحنين..الوجع حنين لن يتوقف..عطش سيدة عجوز هجرها النوم وما زالت تعيش الهذيان والجنون تنوح وتنوح وهي تنتظر ابنها، تبحث عن طيفه تتعلق بشعرة، بخيط أمل حتى لو كان مصدرها الوهم والكذب، وهي تدرك ذلك وتقنع نفسها أن ما يحدث حقيقة، وتبقى تعيش الخرافة لتستمر على قيد الحياة، فتعانق ملابسه..أوراقه..كتبه، تشم رائحته في جسدها في دمها في روحها، تدور هائمة في بيتها في شارعها، تستحضره في مخيلتها، تحلم أن تروي ظمأها، أن تعانقه أن تضمه أن تقول له: أين كنت يا صغيري؟ تعال كم أشتاق أن أضمك أن أراك حياً أو ميتاً، وإن كنت ميتاً أحلم أن أزور قبرك..تقنع نفسها المسكينة أنه سيعود وستجد له قبر تقرأ عليه الفاتحة، وستبكي وتبكي حتى القحط وتحكي له عن شوقها وحنينها، وكيف أفنت زهرة شبابها وهي تراقب قدوم طيفه ومازالت تنتظر حتى فارقت الحياة ولم يعد ابنها المفقود لا حياً ولا ميتاً. الحنين وجع من نوع آخر أكبر من طاقة البشر مخلوق عجيب يحبس الدموع، يخنقنا، يأكل الأخضر واليابس، يشعلنا حتى الاحتراق..الحنين عواطف مكبوتة، انفجار وتدفّق مشاعر، جوع امرأة ما زالت تنتظر زوجها، تعيش الحسرة والغربة، فيأكلها الشوق ويسرق شبابها، ويغزو شعرها الأبيض وتغرق في بحور الأحزان وتنزف دموع وما زالت تنتظر عودة حبيبها المناضل الذي خرج ولم يعد، لا على الأقدام ولا محمولاً على الأكتاف وغرب عمرها ومازالت تنتظر. الفجيعة تكمن في حكاية طفل حرم من قول أبي، أنهكته الوحدة فعاش الوجع..كبر اشتياقاً وهو ينتظر من يهتم به، ويتابع مراحل نمو شخصيته ويضمه ويسانده في كل المواقف، ويشجعه في أحلى وأصعب وأحلك الأوقات..مازال الطفل الكبير يعيش حالة الشك، ويتابع أجمل مفاصل حياته وهي تغرب وتقتل في المهد، مازال يتساءل أين والدي أما زال حياً أم ميتاً؟ فإن كان حيا أين هو؟ وإن كان ميتا أين قبره؟ غثيان، هذيان، اضطراب..فما يحدث بشع يفضح نفسه بنفسه، انتهاك فاضح للاتفاقات والمواثيق الدولية، وخاصة للمادة (17) من اتفاقية جنيف الأولى للعام 1949»، التي تؤكّد على تسليم الجثامين إلى ذويهم واحترام كرامة المتوفين ومراعاة طقوسهم الدينية خلال عمليات الدفن، الاحتلال هو الاحتلال، لن يجعل من البندقية آنية زهور، لن يرحم المستضعفين المنهكين، ما زال يبتكر الوسائل ليشرّع جرائمه بشكل قانوني، فوزير ما يسمى بالأمن الداخلي «الصهيوني» جلعاد أردان ووزيرة القضاء «الصهيوني» ايليت شاكيد قاموا بتمرير مشروع يمنح سلطات الاحتلال صلاحية احتجاز جثامين شهداء نفذوا عمليات بطولية ضد أهداف صهيونية، وقد صودق على القانون بالقراءة الأولى. قوى الشر منذ الأزل تتوحّد وتتبادل الأدوار لتصنع الخراب، فالاحتلال ورث من الأمريكان وسائل القمع في حرب فيتنام، فهم من أخفوا جثث الفيتناميين وحاولوا أن يخدعوهم بأن هناك أصوات كاذبة لأرواح هائمة حتى يقضوا على المزيد من المقاومين، وكما فعل الفرنسيين في الجزائر والإيطاليين في ليبيا والانتداب البريطاني في فلسطين، فالبند الثالث من المادة 133 للعام 1945 من قانون الطوارئ، يعطي القائد العسكريَّ صلاحياتٍ بتحديد مكان وزمان وترتيبات دفْنِ الجثامين بدون إعلام ذويهم، بعد قرار ما تُسمّى «محكمة العدل العُليا»، فقد تم دفن الشهداء وإخفائهم في مقابر الأرقام حتى يومنا هذا، فعلى مدار التاريخ هناك مسرحية بشعة يقودها قتلة محترفين..لذا نحتاج لصحوة إنسانية تزلزل عروشهم، نحتاج لحشد كل الأصوات النظيفة الحرة في العالم وخير وسيلة في ظل تكنلوجيا وسائل التواصل الاجتماعي. فيا كل الأحرار يا كل المثقفين والفنانين والمبدعين، انتصروا للحياة، ساهموا بكلمة، بلوحة فنية، بأغنية، برقصة تعبيرية، انشروا الفنون الإنسانية التي تحرك المشاعر، وتعيد للعالم صورته الجميلة وإنسانيته المفقودة، ولنطلق هاشتاج بكل اللغات..لا لمقابر الأرقام..لحمنا ليس رخيصاً..من حق شهدائنا أن يكون لهم قبور معلومة في أوطانهم..فلننتزع هذا الحق.