شرف كبير أتاحه لنا الأستاذ الدكتور سعيد بن زرقة، في هذا المنبر السامي المخصص ل»المسرح الفكاهي» بالمدية، للحديث عن سؤال غاية في الأهمية، يبقى في حاجة إلى كثير من التفصيل، هو «سؤال السخرية».. وهذا مضمون صبرنا عليه ثلاثين عاما، ظل فيها متفلتا عصيا عن الإحاطة، وقد يكون من حسن حظّنا أنّه تفتّح أمامنا في هذا الوقت، ليكون قد أكمل مائة عام منذ بدأ يتفلت من «الحضور» على يدي الدكتور محمد بن شنب رحمه الله، فقد ناقش أطروحته عام 1922، وهو أول من اقتحم دراسة (السّاخر)، وسيكون في متناول المطلع على أطروحته حول الشاعر زند بن الجون (أبو دلامة) أن يكتشف بأن سي محمد، كان يفرق جيدا بين ما هو ساخر وما يدخل في المفاهيم المجاورة مثل الفكاهة والمفارقة، بل إنه عرف كيف يفرق بين الأنواع الساخرة داخل تراتبيتها الخاصة، فلم يقع في فخّ التقارب بين «التهكّم» – على سبيل المثال – و»الكلبية» المنسوبة إلى ديوجين الكلبي.. بما هي نوع من الأنواع الساخرة.. رغما عن منهجه الذي لم يتح له وضع حدود أو تعريفات للأنواع الساخرة، فهذا لم يكن في مقاصده من الدراسة. نتفق أولا أن مصطلح «سؤال» الذي استعملناه، لا يقابل (Question) في اللغة الفرنسية، وإنما يقابل (Penser)، ما يعني أن الدراسة كانت مفهومية محض، من أجل استخلاص مفهوم «السخرية» الذي ظل على مدى تاريخ طويل – بالحاضنة اللغوية العربية خاصة – مسطحا، لا يتجاوز التعريف العام: (قول الشيء وقصد ضده).. قبل البدء.. تعريف «السخرية» الذي ذكرناه آنفا، قد يصلح لما هو بلاغي، ولا يلمّ به إلماما كاملا، ويمكن أن نتمثل هنا بأعمال مغرقة في السخرية، لا نجد بها ما يدل على طبيعتها الأجناسية بإطلاق، مثل كتاب غيرولف شتاينر 1908م – 2009م (Gerolf Steiner) الموسوم بعنوان: «Anatomie et biologie des Rhinogrades» الذي لا يستعمل أيّ إجراء من الإجراءات المنتجة ل»السّخرية»؛ فهو تأليف جادّ في منهجه، رصين في أسلوبه، تزينه رسومات للثدييات ذوات الأنوف، وهو مع ذلك، يمثّل إيقونة فنيّة راقية في حقل السّخرية، ذلك أنّه اشتغل بتصنيف مائة وتسع وثمانين نوعا من الثّدييّات «ذوات الأنوف»، وأظهر ورعا أكاديميا بالغا، واحترم كل خطوات العمل العلميّ المنهجية، وانتشر الكتاب انتشارا مذهلا، ثم تبيّن أن الكتاب خيال محض، وأنه لا وجود، أصلا، لثدييات تتنقل قفزا على أنوفها أو طيرانا بآذانها؛ ذلك أن شتاينر كان يقصد إلى نقد واقع البحث العلمي في زمانه، وليس إلى البحث العلمي في ذاته. ثم إن «السخرية» لا تتوقف عند حدود الكلام.. أي عند حدود صياغة ما يعرف ب»الجملة المضادة» (Antiphrase)، قول الشي وقصد ضدّه، وإنما يتعدى إلى «التشكيل» و»النحت» و»الهندسة المعمارية»، بل وحتى «الرقص» و»الموسيقى».. وهناك عدد معتبر من الدّراسات في أعمال الموسيقار ديميتري شوستاكوفيتش (Shostakovich Dmitri) تثبت وجود سخرية مقذعة في نوتاته، ويمكن التمثل بالقطعة الموسيقية التي ألّفها تشايكوفسكي 1840-1893م (Piotr Ilitch Tchaïkovski)، ووسمها بعنوان: «افتتاحية 1812» (Ouverture 1812)، وهي تروي انتصار روسيا على فرنسا أثناء اجتياح نابليون الأول للأراضي الرّوسيّة، وتستغلّ استهلال النشيد الوطني الفرنسي (La Marseillaise) والنّشيد الامبراطوري الروسي (Dieu sauve le tsar)، ويتمكن تشايكوفسكي من تصوير هزيمة الجيش الفرنسي بسخرية مقذعة، دون أن يقول كلمة، وإنما يكتفي بالتعامل مع نوتات النشيد الفرنسي، ولمن أراد الاستماع إلى عمل تشايكوفسكي، فإنه يجده متوفرا على يوتيوب، ويكفي كتابة (Ouverture 1812) في إيقونة البحث، حتى يأتيه بالمقطوعة كاملة. إشكاليات متراكمة.. في كل حال، مفهوم السخرية، بالحاضنة الغربية، انتقل منذ أرسطو وشيشرون، من حدوده البلاغية إلى ذرى الفلسفة، وعرف ثورته الكبرى مع الرومانسيين الألمان، ما يعني أن التّعريف القديم الشّائع (قول الشيء وقصد ضده) يبقى ملمّا بالحالات التي يستخدم فيها السّاخر إجراءَ «الجملة المضادّة» (Antiphrase)، وينسحب على إجراء «المبالغة» المنتج بدوره ل»السّخرية» من خلال المغالاة في التّعبير عن «فكرة» أو «واقعة» لأجل دحضها، ولكنه لا ينسحب على ما يعرف ب»كناية التّقليل» (Lilote)، مثلما لا ينسحب على «التّهكّم السّقراطي» (Ironie Socratique) الذي يركّز على توليد «الحقائق» من خلال إظهار الجهل، وتوجيه الأسئلة بأسلوب يلتفّ على «حقيقة مدّعاة» من أجل استخراج «حقيقة مضادّة» تكون كما هي عادتها - صادمة. ونعتقد أن المشكلة التي تواجه تحديد أيّ مفهوم في كلّ الحقول المعرفيّة، هي في المقام الأوّل، «البداهة» التي تقدّم بها هذه المفاهيم نفسَها، ف»السخرية» تبدو معروفة في متناول الجميع، ولكنها - في حقيقتها متفلتة عصية عن التحديد، كما يعترف فلاديمير يانكيليفيتش، ودوغلاس ميويك وآخرون اشتغلوا على المفهوم. أمّا المشكلة الثّانية في تحديد المفاهيم، فهي متعلّقة بأسلوب صياغة التّعريفات نفسِه، ومن ذلك أنّنا حين نقول - على سبيل المثال - إنّ «السّخرية» هي «استعمال ألفاظ» أو «قلب معنى» أو «الإيحاء بقصد دون قوله»؛ فإنّنا نتحدّث عن «أفعال» يقوم بها المتكلّم، أو «نعيّن» مواقع للأفعال في الكلام، ولكّننا لا نحدّد «السّخرية» في ذاتها، ولا نتعرّض إلى ماهيّتها؛ وهو ما أثاره جيل دولوز 1925 1995م (Gilles Deleuze) حين وصف أفلاطون 427-347 ق.م (Platon) بأنّه «كان يضحك من أولئك الذين يكتفُون بضرب الأمثلة، أو يكتفون بالتّوضيح والتّعيين، عوضا عن بلوغ الماهيّات»، والمقتضى مع مفهوم «السّخرية»، هو بلوغ ماهيتها حتى نتمكن من تطويعه، وجعله في خدمة العمل الأدبي عن وعي خالص، يمنح العمل ما يقتضي من إحكام، ويجنبنا في الوقت نفسه - ضحكات أفلاطون.. هناك مشكلة أخرى، وهذه تختص بها حاضنتنا اللغوية العربية التي سبقت - تاريخيا - إلى الكتابة النثرية، واستغلت «السخرية» في أروع تجلياتها مع بديع الزمان الهمذاني وعمرو بن بحر الجاحظ.. قلنا.. المشكلة الثالثة هي مشكلة ترجمة محض، فقد اجترحت نبيلة إبراهيم مصطلح «المفارقة» مقابلا ل(Ironie) في مقال بمجلة «فصول عام 1988، وسار على نهجها الدّارسون، فوقع خلط مرعب في الدراسات السخرياتية، وصرنا نجد أعمالا من قبيل (المفارقة في روايات فلان)، و(استغلال المفارقة في البنية الفلانية)، بينما المقصد «السخرية» أو تنويعات السخرية الأجناسية، ف»المفارقة» يقابلها (Paradoxe)، وهي إن كانت قريبة من «السخرية»، إلا أنها تختلف عنها اختلافا جذريا؛ ذلك لأن «المفارقة» لا ترتبط ب»الاستهزاء» و»التهكم» ولا بالانتقاص والنقد، وإنّما تمثل قضيتين صحيحتين، تنفي كل واحدة منهما الأخرى، مثل مفارقة الكذاب (Le Paradoxe du Menteur)، فلو يقول أحدهم (أنا كذاب)، ويكون كذابا حقيقة، فهذا يعني أنّه صادق، ومثله كذلك ما ذكر جيل دولوز عن الجزيرة التي يشترط أهلها على كلّ من ينزل بها أن ينطق بكلمة، فإن كانت «صحيحة»، يقتل شنقا، وإن كانت «خاطئة»، يقتل رميا بالرّصاص، وظلّ الشّرط يبدّد الأرواح إلى أن جاء من قال: «أقتل رميا بالرّصاص»، فلم يقدروا أن يفعلوا معه شيئا ، لأنّ المنطوق اصطنع حالة يتنافى فيها الحكمان، فإن «رمي بالرّصاص»، فهذا يعني أنّ منطوقه كان صحيحا، والشّرط يقتضي «الشّنق»، وإن «شُنق» فهذا يعني أن منطوقه خاطئٌ، وكان ينبغي أن يرمى بالرّصاص، ونرى بوضوح أن ما وصفنا به «المفارقة» لا علاقة له البتة بما هو ساخر، ومع هذا، أحدث في الدراسات العربية مشكلات عويصة، وجاء بكتاب دوغلاس ميويك (Irony) تحت عنوان «المفارقة» بترجمة عبد الواحد لؤلؤة، فأنتج خلطا اصطلاحيا مرعبا، بلغ درجة أن عددا من الدراسات الأكاديمية، صارت تقصد إلى المقارنة بين «السخرية» و»المفارقة» على سبيل المثال، فتقارن دون أن تدري - بين «السّخرية» و»السّخرية»!! بقيت مشكلة أخيرة، وهذه تمثل عقبة كأداء حين الاشتغال على أي مفهوم، وهي متعلقة بسيرورة التّطور المفهومي، ومنها على سبيل المثال - أننا تحدّثنا قبل قليل عن تجلّي «السخرية» الرائع مع بديع الزمان الهمذاني وعمرو بن بحر الجاحظ، ومع ذلك نصرّ على غموض المفهوم بالحاضنة اللغوية العربية، والحق أننا قصدنا الإشارة إلى محطة انتقال هامة في تاريخ الأدب عموما، وهي السّبق العربي إلى الكتابة النثرية، وما رافقه من تطوّر في طبيعة الاشتغال الذهني، بلغ ذروته في إحكام التعامل مع البنى السّاخرة، مع الجاحظ والهمذاني وأبي العلاء المعري وأبي دلامة وغير هؤلاء، بينما نجد فريديريش اشليغل، منظر الرومانسية، يتحدث عن «السخرية» في الشعر، وهو يقصد إلى الرواية، لأن «النثر» الذي حرّك آلياته مع فرانسوا رابليه وميغيل دي سيرفنتاس في القرن السادس عشر، لم يكن قد حظي بالتأصيل الذي يوافق طبيعة الاشتغال الذهني بالحاضنة الأدبية في أوروبا، ثم إنّنا قصدنا إلى التعرض لهذه المحطة الانتقالية الهامة، كي نؤكد على أن «السّخرية» في ذاتها، كانت موجودة على الدّوام، ونستعيد لها مفهوم «الحضور» الذي ذكرناه في البداية؛ فوجودها كان على هذا مستوى هذا «الحضور» دون أي ضبط لخصائصها، ولا أي معرفة بها، وهذا يعني المثول في الذّهن (أو) حضور الشّيء (المتكشّف بالإدراك) من خلال معارضته مع غيابه، على الرغم من أن هذا الغياب عينه، لا تكون معرفته ممكنة إلا بحضور آخر، هو حضور صورته، ومن ذلك أن الصبي الذي لم يدخل قسم الكيمياء، يمكن أن يتنفس بديهيا، دون أن يحتاج إلى معرفة الأوكسيجين ومكوناته؛ ولهذا، يتنفس ولا يمكن أن يفكر في طريقة تعبئة الأوكسيجين في قوارير لاستعماله وقت الحاجة، حتى إذا دخل قسم الكيمياء، وعمّق معرفته العلمية بالأوكسيجين في ذاته، يتوسّع إدراكه، ويمكن له أن يوسع استغلاله لهذه المادة.. «السّخرية» كانت موجودة على الدّوام إذن، ويمكن لنا أن نستخرج نماذج عنها من أقدم الأعمال الفنية، ومن ذلك «سخرية الموقف» التي لم تكتسب اسمها إلا في القرن الثامن عشر، ولكننا نجدها في أوديسة هوميروس، حين يعود أوديسيوس إلى إيثاك متخفيا في لباس متسول، ويجد الخطّاب يتودّدون إلى زوجته، ثم يسمع أحدهم وهو يقع في أحبولة سخرية الموقف حين يقول إن أوديسيوس لا يمكن أن يعود أبدا.. بين «الحضور» و»الواقع.. انتقل مفهوم «السخرية» من «الحضور» إلى الواقع» إذن، وصار لها تراتبيات تختلف باختلاف الدارسين وحقول اشتغالهم، إلى درجة أن عميد المدرسة الأرسطية بشيكاغو، واين كلايسون بوث، خشي على المفهوم أن يتميّع، وقال إننا صرنا نرفع حجرا فنجد تحته سخرية ما، غير أن وضوح المفهوم، أسهم في تطوّر الكتابة الروائية، فهو عمود الرواية وأصلها، ولا يمكن أن تكتسب الرواية صفتها الأجناسية دون الاعتماد عليه، وميخائيل باختين نفسه، يقول إن أصول الرواية تعود إلى «الحوارات السقراطية» و»المنيبي»، وواضح أن الحوارات السقراطية تتأسس على فكرة «التوليد»، وهي تمثل ما نتعارف عليه اليوم ب»التهكم السقراطي»، وستكون المنيبي أوضح منها حين نقول إن مقابلها الحصيف هو «الأهجية»، أو القصيدة الهجائية، مع كلّ ما يتطلب الهجاء من صور ساخرة. أما الفارق بين «السخرية» و»الفكاهة»، فإننا نكتفي فيه بما جاء عن إيمانويل كانط الذي ربط بين مفهوم «الفكاهة» والشّعور ب»الارتياح»؛ ف»الضّحك» كما يراه صاحب العقل المحض «هو انفعال ناتج عن تحوّل مفاجئ لتوتّر إلى العدم»؛ بينما يعرّف «الهزل» بما هو «الموهبة التي تمكّن الإنسان من أن يضع نفسه بإرادته في حالة استعداد نفسيّ تتيح له أن يحكم على كل شيء بطريقة مغايرة للمألوف (لا بل معاكسة له)» ؛ وما دام كانط يصنّف الفنون في قسمين: «الجميلة» و»الممتعة»، فإنّ «الهزل» بالنّسبة إليه ينبع من أصالة في النّفس وليس من موهبة لها علاقة بالفنّ الجميل، ولهذا يدرجه في «الفنون الممتعة»، وهنا، يلاحظ بأنّ «الفكاهة»، مثل «الموسيقى»، تحتوي أفكارا جماليّة وتمثّلات فكريّة، لكنّها لا تحمل على التّفكير ولا تدعو إليه، فالضّحك تثيره الجديّة المفتعلة والمفاجأة، و»الفكاهة» «يجب أن تحتوي على شيء يخدعنا ولو لبرهة (...) وحينما يتبدّد الظّاهر، فإنّ النّفس تعود وتنظر مرة أخرى في محاولة جديدة، وهكذا، بسبب التّحوّل السّريع بين التّوتّر والاسترخاء تجد النّفس ذاتها خاضعة لتأرجح متسارع، يحدث بشكل مفاجئ، ولعلّ هذا يسمح لنا برؤية الفارق بين «الفكاهة» و»السّخرية»، ف»الفكاهة» تفتعل الجديّة، وليست جادّة، بل إنّها تتعارض مع «الجدّيّة» تعارضا تاما، كما أنّها تعتمد على المفاجأة من خلال إحداث قطيعة مع تمثيلات «الواقع» و»الجادّ»، ولا تستدعي التّفكير؛ بينما تتماسف «السّخريّة» مع الجدّيّة دون أن تبتعد عنها بشكل مطلق، ولعلها تتظاهر بأنّها ليست جادّة، ولكنها تستغلّ ذلك المظهر في تمرير رسالة جدّيّة للغاية، وهي تعتمد على الانعكاس الذي يفرض التّراوح بين التّمثيل والواقع، ما يجعلها تستدعي التّفكير؛ ثم إنّ «السّخريّة» لا تنتهي إلى انفجار الضّحك ولا إلى إحساس الارتياح، وإنّما تثير «ابتسامة» مرتبطة بمتعة اللّعب على بناء المعنى؛ وهو ما يعني في الأخير أنّ «الفكاهة» لا تُدين ولا تحكم، وإنّما تتعاطف وتشفق، وغايتها التّصالح بين الذّات وذّاتها، وبين الذّات وواقعها المعيش؛ ولهذا، يلخّص يانكيليفيتش الفارق بين «السّخريّة» و»الفكاهة» على المستوى القصديّ، ف»النّكتة» تبقى مجرد «تشنيع» ما لم تتضمّن «خلفيّة مسبقة»، و»الضّحك» في هذه الحال يكون حركة عفويّة، ويصفه كانط بأنّه «مفيد للصّحة»، بينما تتناول «السّخريّة» مجمل ما تعالجه وفق تصوّرها المسبق الخاص، حتى تسمح للعقل بسدّ الثّغرات وإكمال النّقص، وهو ما يجعل الضّحك السّاخر موقوتا، لا يلبث أن يختنق، ويتحوّل إلى حركة معاكسة. السخرية في الرواية تتوغل «السخرية» إلى بنية الرواية العميقة، فهي لا تكتفي بما يعرف ب»السخرية اللفظية» التي تتمثل في الجملة والجملتين، ولكنّها عمود البنية الروائية وأساسها، ويمكن أن نتّخذ عنها نموذجا رائعا، مثل رواية الأديب الأريب، المرحوم مرزاق بقطاش (المطر يروي سيرته)، فهذه تجعل شخصيتها الرئيسية (فرحات) مالكا لفيلا بنادي الصنوبر في زمن الإرهاب، وهي فيلا تحصّل عليها من معمّر فرنسي كان قد أنقذ ابنه من الموت في أثناء الحرب العالمية الثانية.. ويتعامل بقطاش ببراعة مع أحداث الرواية التي تجمع بين زمن الاستعمار وزمن الإرهاب.. طبعا، لن نسرد أحداث الرواية كاملة، وإنما نكتفي باشتغال بقطاش على تحويل الفيلا في خلفية السّرد إلى مادة صراع حقيقي، حيث يأتيه سمسار إسباني، في زمن الاستعمار، يرغب في الاستيلاء عليها، ويذيقه الأمرين بحكم أنه لا يستطيع النيل من المعمّر.. ثم يتكالب الإرهاب على البلاد، فيأتي سمسار زمن الاستقلال، شبيها بسمسار الكولون، ويذيق فرحات الأمرين بغرض الاستيلاء على الفيلا.. وقد يكون واضحا في هذا المقام أن بقطاش اشتغل على ما يعرف ب(Ironie du Sort) في بناء المقابلة بين الزمن الكولونيالي وزمن الاستقلال، وهذه وجدنا المقابل العربي الحصيف لها: «تصاريف الأقدار»، وليس ّسخرية الأقدار، كما هي ترجمتها الحرفية، فالأقدار، عندنا، لا تسخر.. تراتبية الأنواع الساخرة.. لعلنا قلنا دون قصد، أن السّخرية سخريات متعدّدة، وليست معنى بختصّ بشيء واحد، غير أنّنا لا يمكن أن نتعرض إلى جميع الصنافات بالتفصيل، ولا إلى ما اقترحنا من تعديلات واصطلاحات، تمكّن للساحة الأدبية العربية من الإفادة من المفهوم، واستغلاله بوعي في الأعمال الأدبية، وعلى هذا، نكتفي بصنافة دوغلاس ميويك، فهذه يمكن أن تفتح الآفاق، وتستفز الرغبة في البحث عن مجال أوسع.. ولقد صنّف دوغلاس ميويك «السّخريات» وفق معايير انطلاقا من الخاصيّة الأساسية ل»السّخريّة» (التّظاهر)، وإمكانات تعديلها وفق مقتضيات «الحدث» أو «الموقف»، وأفاد من النّقد الّذي وجهه إليه نورمان نوكس في مقال: «حول تصنيف السّخريات» (On the Classification of Ironies)، وهو ملخص المقال المنشور بالجزء الثاني من «قاموس تاريخ الأفكار» (Dictionary of the History of Ideas) الصادر عام 1973م، وكان سانحة لميويك كي ينقّح كتاب «Irony» الصادر عام 1970م في مؤلف يوسّعه ويضيف إليه تحت عنوان:»Irony and the Ironic» واعتبره طبعة ثانية للكتاب الأول أصدرها عام 1980م، وإن كان يختلف في بنيته العامة عن الكتاب الأوّل اختلافا واضحا، ولكنّه يحتفظ بروحه، ويعمّق رؤاه. الحاصل إذن، أن دوغلاس ميويك عدّل المعايير وفق المتغيّرات التي يلقي بها إليه النّوع السّاخر، فلم يهمل الأنواع ولا تراتبية درجاتها، كما لم يهمل أساليبها ولا مواضيعها ولا أشكالها ولا طبيعة تأثيراتها، ولهذا جاء تصنيفه الأوسع بين التّصنيفات المتعارف عليها، ولقد سجّلنا فيما سبق أنّ تصنيفه يتضمّن قسمين مركزيين: «القصدي»، و»غير القصدي»، ولكنّ ميويك لم يهمل ما يصفه بأنّه «الخصائص الجوهرية» ل»السّخريّة» و»الخصائص المتغيّرة». أمّا «الخصائص الجوهريّة» كما يراها ميويك فهي ثلاثة: أ- المظهر والواقع: يستعمل ميويك مصطلح «الواقع» للدّلالة على ما ينظر إليه السّاخر أو الملاحظ بما هو تعبير عن حقيقة معيّنة؛ أمّا «المظهر» فهو المعنى الذي يقدّم نفسه على أنّه «الواقع»، لينتج المنطوق السّاخر من خلال التّباين بين «المظهر» و»الواقع» وما يصطنعه لهما السّاخر من تضادّ أو تعارض أو تناقض أو تباين أو لاتوافق أو عدم اتّساق. ب - التّظاهر وغفلة الواثق: وهذه خصيصة يقدّم لها ميويك بصورتين متوازيتين تتضمّنان معنى «الخداع» و»المراوغة» و»الكذب الأبيض»، وهما صورة «آيرون» (Eiron) وصورة «آلازون» (Alazon) حيث يتخفّى الأوّل وراء الانتقاص من الذّات، بينما يطلق الثّاني العنان للخيلاء والتّباهي؛ وواضح أنّ الخداع والمراوغة يتوقّفان عند حدّ كشف المظهر وحجب الحقيقة، بينما يخادع السّاخر أو يراوغ حتى لا يحظى بالثّقة، أي أن غايته الأولى هي تبليغ رسالته؛ ولهذا، يكون الخداع حجبا للحقيقة، بينما تدفع السّخرية نحو استنباط هذه الحقيقة؛ وهذه يدرجها ميويك ضمن ما يصفه بأنّه «السّخرية الأداتية» (Instrumental lrony)، في مقابل «السّخريّة الملحوظة» التي تنقلب بها الأدوار، فيصبح «المتبجّح» (الشّخصية الآلازونية) ضحيّة لخيلائه وكبريائه، لأنه لا يدرك أنّ كلامه أو سلوكه في سياق بعينه، يتنافر مع الوضع الذي يتابعه الملاحظ. ج - البناء الدرامي: هو ما يسوّغه ميويك من خلال طبيعة الرسالة السّاخرة التي تبقى في حكم الكمون، ما لم تتحوّل إلى لعبة بين شخصين، يقوم السّاخر منهما بدور المتظاهر الذي يعرض نصّا بأسلوب يدفع المتلقّي إلى رفض المعنى الحرفي وتفضيل ما يعبّر عنه النّصّ من معنى منقول ذي مغزى نقيض؛ وهي اللّعبة نفسها في السّخرية الأداتية والملحوظة معا، عدا أن الأدوار في السّخرية الملحوظة قد تتراكب، فيجتمع دور السّاخر بدور الجمهور، ذلك أن أغلب السّخريّات الملحوظة تقدّم جاهزة، وتعرض في أشكالها المكتملة في الدّراما والرّواية والفيلم والصّور والأمثال والأقوال، مما يجعل دور الجمهور أو القارئ أقلّ فاعلية من دور قارئ يواجه تحدّي التّأويل الذي يفرضه عليه السّاخر الأدائي. أما «الخصائص المتغيّرة»، فقد اعتبر فيها ميويك بمتغيّرات نوكس، ولكنّه أجرى عليها تعديلات هامّة، حيث اعتمد ثلاثة متغيّرات توافق تراتبية السّخرية؛ فأصبحت كما يلي: - الموقف تجاه الضّحية: وهو يتراوح بين أعلى درجات التّجرد إلى أعلى درجات التّعاطف. - مصير الضّحية: الانتصار أو الاندحار. - مفهوم الواقع: وهو يعتمد على طبيعة نظرة الملاحظ السّاخر للواقع الذي يحيط به، فقد تنعكس قيم الملاحظ على الواقع، وقد ينظر إلى كلّ ما حوله على أنه معادٍ لجميع القيم الإنسانية. وتنتج هذه المتغيّرات - وفق ميويك - أربعة أنواع من السّخريات المغلقة، تنقسم على قسمين: أوّلها ما يعكس فيه الواقع قيم الملاحظ، وهو ما ينتهي إلى «السّخرية الهزليّة» أو «الفكاهيّة»، وهي هزليّة بالنّظر إلى نهايتها السّعيدة، حيث تنتهي بانتصار ضحيّة متعاطفة، والثّانية هي «السّخريّة الهجائيّة» التي تنتهي إلى اندحار ضحيّة غير متعاطفة، أما القسم الثّاني فهو متعلّق بواقع معادٍ لجميع القيم الإنسانيّة، يجعل الاندحار أمرا لا مناص عنه، وينتج «السّخريّة التّراجيديّة» التي يشيع فيها التّعاطف مع الضّحيّة، أو ينتج «السّخريّة العدميّة» بما هي تجرّد هجائي محض قد يوازن التّعاطف، ولكن الملاحظ فيها ينال من الضّحية بالضّرورة. هناك نوع آخر من السّخريات، وهو ما أطلق عليه نوكس اسم «السّخريّة المفارِقة» (Ironie Paradoxale)، وصنّفه ميويك ضمن «السّخريات المفتوحة» أو «السّخريات الملتبسة»، باعتبار درجة التّعاطف «فقد تتعاطف ضحيّتان بنفس الدّرجة، وهو ما يجعل الاندحار هو نفسه انتصارا، ذلك أن «الواقع» في أصله نسبيّ، وهو يعكس القيم الإنسانية أحيانا، ولا يعكسها أحيانا أخرى»، ونسبيّة «الواقع» هذه، هي التي لم يتفطّن لها نوكس حين تحدّث عن «السّخريّة المفارِقة»، فأهمل الأداتيّ من السّخريّات، واكتفى بالملحوظ منها. وسجّل ميويك أن هناك عددا من الخصائص المتغيّرة التي تؤثر تأثيرا مباشرا على الأنواع السّاخرة وتصنع تراتبيّتها، فوضع عددا من المبادئ أو العوامل التي تصعّد اللّهجة السّاخرة أو تخفّف منها، وهي: - مبدأ الاقتصاد: وهو ضرب من التأنّق الأسلوبي كما يصفه ميويك، ويقصد إلى إحداث أبلغ الأثر بأقل الوسائل. - مبدأ التّباين العالي: وهو ما يفسر به ميويك موضع السّخرية في حدث مثل «تعرّض السّارق للسّرقة» أو «غرق مدرّب السّباحة»؛ ويدلّ على «الفرق بين الحدث المنتظر والحدث المتحقّق، وكلّما اتسع الفارق بين الحدثين، «المنتظر» و»المتحقق»، فإنّ حدّة السّخرية ترتفع أو تخفّف بما يوافق سعة الفارق؛ وهذه نتيجة لتباينات تتّخذ أشكالا مختلفة، كمثل «جهود هائلة لتحقيق هدف تعرقلها الصّدفة في آخر لحظة»؛ وينطبق هذا المبدأ يقول ميويك على المتبجّح كذلك، إذ عوض توسيع الفارق بين المظهر والواقع، فإن الآلية إلى تتّجه إلى تضخيم ثقة المتبجّح، أو تكثيف ما يبديه من حذر أو براعة أو صبر في محاولة تجنّب المصير المحتوم، فالمتبجّح عادة يرى كل الحفر، إلا تلك التي يسقط بها. - موقع الجمهور: وهو ما يُحدّد بالنّظر إلى طبيعة انتشار المعلومة حول الأوضاع التي تتشكّل في النّصّ، ويكون لها أثرها البالغ في المسرح خاصة، فيتشكّل النّوع السّاخر بما يوافق معرفة الجمهور بالوضع الحقيقي أو عدم معرفته به واكتشافه مع الضّحيّة؛ وهذا عامل يمكن التّنويع فيه بأساليب متعدّدة، فقد يدرك الجمهور المغزى كاملا ممّا يقال على الرّكح، بينما لا تدرك شخصيّة أو أكثر، سوى جزء مما يعرفه الجمهور. - الموضوع: وهذا عامل له أهميّته القصوى في تحديد النّوع السّاخر، فقد تتساوى السّخريّات أمام العوامل الأخرى، يقول ميويك، لكنّها تصبح أكثر قوة حين تستغلّ الرصيد العاطفي الرّئيسي الذي يحمله القارئ أو الملاحظ على الضّحيّة أو على مادة السّخريّة، ولهذا، ينبغي أن يستثمر موضوع السّخرية المجالات المعبّأة بالعواطف الجيّاشة، ضمانا لانخراط المتلقّي فيما يشغله حقّا. وبناء على هذه المبادئ العامة، وضع دوغلاس ميويك صنافته للأنواع السّاخرة وجعلها قسمين: أوّلهما ما هو «هادف»، والثّاني ما هو «ملحوظ»؛ ولعلّ التّمييز بين القسمين يكون صعبا، غير أن ميويك يرى أنّ التّمييز بين «الأداتيّ» و»الملحوظ» يتجلّى في قصد السّاخر، فهو في «الأداتيّ» يقول شيئا كي يُرفض ويُردّ، بينما يعرض فيما هو «ملحوظ»، موقفا أو سلسلة من الأحداث أو سلوكا، ويقصد إلى جعله موضوع تفكير مستقلّ عن العرض الذي قدّمه. أمّا القسمان معا، الأداتيّ والملحوظ، فهما يتضمّنان «المغلق» و»المفتوح»، و»القصدي» و»غير القصدي» من السّخريات. ولقد وضع ميويك «السّخريّة اللّفظية» بما هي الشّكل الأكثر شيوعا ضمن الأنواع التي تتوسّل باللّغة؛ بينما جعل فيما هو ملحوظ من السّخريات، «السّخرية الدّرامية» و»السّخرية العامة» و»سخريّة الأحداث» و»سخريّة الموقف» وغيرها من الأشكال السّاخرة التي قد تتوسّل باللّغة، ولكنّها يمكن أن تتجاوزها إلى الإيماء مثلا، أو إلى أن تكون مجرد مشهد أو حدث، كمثل السّارق الذي يتعرّض للسّرقة أو مدرب السّباحة الذي يغرق. ختاما حاولنا في هذه العجالة، أن نقدّم صورة مجملة عن مفهوم ما يزال بالحاضنة العربية معطّلا، ولقد بذلنا جهدا في تقريبه، لما يمثل من أهميّة بالنسبة للعمل الفني الأدبي، فالساحة الأدبية بالوطن العربي تأتي بأعمال روائية راقية، تعتمد على «المحاكاة» و»الموهبة المحض»، ولكنها لا تقترب من المفهوم العلمي، فتجد الواحد من النابغين يأتي بالروائع، دون أن يعرف سبب روعتها، ليكون مثل العصفور، يغرّد بأحلى النوتات الموسيقية، دون أي علم بالسلم الموسيقي، ولنا أن نتصور إبداع العصافير، لو تتمكن من معرفة علم الموسيقى.. تصوغ السيمفونيات إذن.. ولكنها، مع الأسف، تردّد دائما ما اكتسبته بالفطرة، وتتوقف عندها.. لا يمكن أن نحيط بها جميعا، ونحسب أننا منحناها ما تستحق من جهد الدراسة في كتاب: سؤال السخرية وأدوات الكتابة الساخرة، الصادر عن دار ميم..