توّقفت منذ عدة شهور عن تناول الوضعية المتدهورة للعلاقات مع الجار المغربي، ولأكثر من سبب.. كان البعض حولي يدفع بي نحو الإحباط وهو يقول: أنت تنفخ في جمرات ميتة لن ينالك منها إلا رمادا يؤذي عينيك ويلهب حلقك ويخنق صدرك. وكان البعض، وخصوصا من خارج منطقة التوتر، من راح يتخذ موقف الناصح الأمين لينهال على رأسي ببلاغيات ملّتْ منها كل صور البلاغة، مضمونها أن الأمر يتطلّب نبذ الخلافات وتوحيد الصفوف والارتقاء إلى مستوى مطامح الأمة وأمال الوطن العربي، وإن كانت النصائح لا تقول لنا كيف نحقّق ذلك إذا لم نقل للمحسن أحسنت وللمخطئ أخطأت، ولو بعيدا عن كاميرات الإعلام. غير أن أسوا ما جعلني راغبا عن تناول القضية هو تعليقات الذباب الإلكتروني المُوجّهْ التي يتجاهل معظمها مضمون الحديث ليعيد اجترار ادعاءات لا دليل على نزاهتها، وبعصبية تستفز معلقين آخرين يندفعون للردّ بنفس العصبية أو أشد، والسيئة تواجه بعشرة أمثالها. وهكذا اكتفيت خلال الأسابيع الماضية بتعليقات عابرة على بعض ما نشره أشقاء يُحزنهم وضع العلاقات السيء بين البلدين الشقيقين، حاولت فيها أن أدعّم كل الجهود الخيّرة وأصحّح بعض الأخطاء التي ذهب إليها معلقون كانوا من بين أسباب عزوفي عن الكتابة. والغريب أن من التعليقات ما انطلق من فرضية خاطئة، كالقول بأنه "لو كان القرار بيد الشعبين الجزائري والمغربي لكانت العلاقات بينهما سمن على عسل"، وهكذا يتجاهل المعلقون، جهلا أو تجاهلا، عمليات الشحن العدائي الذي تتمّ ممارسته مع الشعبين منذ سنوات وسنوات، وبحيث يُحس المواطن الجزائري أن المواطن المغربي يرضع كُره الجزائر مع حليب الأم، ويتصوّر المواطن المغربي الأمر نفسه بالنسبة للمواطن الجزائري. ولم يكن الدكتور طارق ليساوي بعيدا عن الواقع في حديثه الأخير وهو يتناول "الدور السلبي الذي تلعبه بعض المنابر الإعلامية و المواقع الالكترونية التي أصبحت تصطاد متابعين ومشاهدين ومعجبين من خلال السب والقذف المتبادل، فأصبح البعض ينظر للجزائر هي العدو الوحيد والتاريخي للمغرب، ونفس الأمر في الجزائر تنظر للمغرب على أنه عدوها الذي لا تنام له عين ويخطّط صباح مساء، للإضرار بالجزائر وأمنها ووحدتها واستقرارها.. والواقع أن كلا التصورين خاطئين تماما ولا أساس لهما (..) وهكذا نشأت أجيال جديدة تقتات على مفاهيم خاطئة وكليشيهات تكرّسها الآلات الإعلامية الحكومية على كلا الجانبين تعمل على تشويه سمعة الشخصيات السياسية وتركز على الأزمات والتناحرات الداخلية..". وكان الأكثر غرابة أن من الأشقاء من راح يعتبر دفاع الجزائري عن موقف بلاده انحيازا لنظام الحكم، أي أنه يجعل من الموقف الوطني للجزائري في دعم بلاده تهمة ونقيصة، ويصل الأمر إلى وضعية سقوط أخلاقي معيب، لأنه ينتقل إلى محاولة غبية لاستعداء المعلق الجزائري ضد نظام بلاده، ونقرأ تفاهات "مُعلبة" وتعليقات سخيفة "موجهة" عن العسكر والنظام العسكري، ويصل الأمر إلى استعمال تعبيرات سوقية بأهداف قدحية مثل تعبير "الكابرانات" (وهي رتبة متدنية من رتب صف الضباط) وتكون النتيجة بالطبع ردود فعل تزيد النار اشتعالا. ومن المؤسف أن من يتقولون على النظام الجزائري يتناسون أنه نظام أقامه مجاهدون استطاعوا، عبر مراحل متتالية، بناء دولة لها شأنها في عالم اليوم، بدون أن يدعي أحد منهم أنه معصوم من ارتكاب الأخطاء، مع ملاحظة أن الشعب في الجمهورية ليس بعيدا تماما عن منطقة اتخاذ القرار. وراح البعض يتهم الجزائر بأنها خلقت "جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (البوليزاريو) لتقسيم المملكة في حين أنها أساسا حركة وطنية كان المغرب نفسه في طليعة من رحبوا بقيامها في مطلع السبعينيات، ويجد المهتم بالأمر دليل ذلك في الصفحة الأولى من جريدة العلم المغربية الصادرة في 7 أغسطس 1973 (وأنا أعطى المرجع بالتفصيل لكي يستطيع المهتم التحقّق من صحة ما أقوله). ومع تقديري لنضال "البوليزاريو" وتضحياتها وبهدف "حلحلة" أو "لحلحة" الجمود الذي يقيد الحركة السياسية فقد بادرت بالخروج عن الموقف الرسمي الجزائري والمؤيد للجبهة، وهكذا رحبتُ باقتراح الحكم الذاتي للصحراء الغربية الذي أعلنه المغرب، وكنت أرجو أن يكون ذلك فرصة لكي يطالب مثقفون في المغرب إضافة اقتراح الحكم الذاتي إلى بنديْ الاستفتاء الذي يخرج بنا جميعا من نفق حَشرنا فيه منطق فرض الأمر الواقع. لكنني كدْت أصل إلى اليقين بأن هناك في الجانب المغربي من يحرص على استمرار الشنآن، ويفرض منطق الطائرة المختطفة على الجميع، وبأن أمثال دكتور طارق ومجموعة جريدة "الأيام" التي نشرت آرائي بكل نزاهة هم استثناء يُحفظ ولا يُقاس عليه. وتذكرت ما حدث في نيروبي عام 1981، عندما أعلن الملك الحسن الثاني عن استعداده لقبول استفتاء يؤكد "مفهوم" المغرب لحقوقه في الصحراء الغربية، ورأى الرئيس الشاذلي بن جديد يومها أن يُسهّل الأمر على العاهل المغربي، فقال في رده إن ما قاله الملك هو "خطوة إلى الأمام". ومع مرور الزمن أحسسنا بأنها كانت خدعة، فالاقتراح كان مناورة سياسية، حيث لم يحدث أي عمل جاد لإجراء الاستفتاء، الذي رحبت به الجزائر برغم أنه استفتاء "تأكيدي" تناقض مع رأي محكمة العدل الدولية الذي أكد ألاّ سيادة للمغرب على الإقليم. ومع تقديري الكبير للدكتور طارق وللعديد من المثقفين المغاربة والجزائريين بل والعرب والمسلمين بشكل عام ومع احترامي للعواطف الطيبة التي ترجو الخير للبلدين الجارين، قلت بمنتهى الصراحة إن التهوين من نوعية المشاكل بين البلدين واعتبارها "خلافات شكلية" ليس هو التناول المنطقي لأوضاع المنطقة المتدهورة، ولعلّ الاستهانة بتلك المشاكل كانت من أسباب الفشل في تصفية الأجواء في منطقة المغرب العربي بشكل موضوعي يحترم كل الطموحات المشروعة للشعبين الشقيقين، وأكرّر...الطموحات المشروعة. فالخلافات بين البلدين خلافات جوهرية، أساسها كما رأينا رفض الشرعية الدولية التي تذكرنا بمأساة أغسطس 1990 في الوطن العربي، وتعيد إلى الأذهان أطماع توسّع إقليمي تذكر بمنطق "المجال الحيوي" الذي قاد العالم إلى الحرب العالمية الثانية، وهو ما تفاديت أن أذكر به وبكثير من المآخذ الأخرى، حتى لا أتهم بصب الزيت على النار. المشاكل عميقة، وجوهرها، كما أقول وأكرر، انعدام الثقة بين القيادتين، وهو ما يتطلّب مواجهة الأمر بكل شجاعة وبعيدا عن منطق فرض الأمر الواقع الذي كان من أسباب القطيعة، وخصوصا الاستعانة بالعدو التاريخي للأمة، وهي قضية لا تحتمل المجاملات ومصالحات "تبويس اللحى" التي تخصّص فيها الوطن العربي بكل أسف. والجديد هو أن ما وصلتُ إليه من متابعة التطورات هو أن النوايا الطيبة لبعض الأشقاء وشجاعتهم الأدبية أدت إلى انكشاف أصحاب الخلفيات التي لا تريد للمغرب العربي أن يتخلّص من وضعية التوتر التي يتأثر بها الجميع، والذين يواصلون ارتكاب أفعالٍ لا يمكن إلا أن تواجه بردود أفعالٍ، لعلها تكون أشد قسوة، كما حدث في قضية إغلاق الجزائر للحدود البرية مع المغرب. وأذكر هنا بمثالين كنت أشرت لهما في كثر من حديث، وأجد نفسي مضطرا لاجترارهما. الأول، فقرة جاءت في خطاب العاهل المغربي منذ فترة ليست بعيدة، اعتز فيها بما حققه المغرب من إنجازات على طريق التنمية الوطنية (وهو ما يسعدنا) لكن الفقرة اختتمت بأن "المغرب نجح في مسعاه برغم أنه ليس فيه غاز أو بترول". والسؤال: هل كانت هذه "الغمزة"، التي حُشرت في خطاب ملكي متميز، ضرورية، والقاصي والداني يعرف أن البلد الوحيد الذي يملك الغاز والنفط في المنطقة هو الجزائر؟. وعندما نعرف من يتحمّل مسؤولية صياغة خطابٍ، من المعروف أن من يلقيه ليس هو كاتبه بالضرورة، يمكن أن نتصور من وراء عرقلة الوئام والتصافي؟ الثاني، ما جاء في خطاب رئيس الوزراء المغربي الأسبق من أن الجزائر ترفض فتح الحدود "حتى لا يطلع الشعب الجزائري على ما حقّقه المغرب من تقدم وازدهار" (وهو ما نفتخر به كما يفتخر الشعب المغربي) والذي يطرح السؤال المنطقي: ألا يشير ذلك التصريح المستفز لوجود من يصبون الزيت على نارٍ، ما أسهل إطفاءها لو حسنت النوايا. وألا يمكن اعتبار هذا التصريح موقفا عدائيا من الجزائر، شعبا وقيادة، حيث إن المسؤول المذكور هو جزء عضوي من الحزب الإسلامي الذي وقّع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، ربما نكاية في الجزائر وتعقيدا للوضع على الساحة المغاربية. من هنا يبدو أن في البلد الشقيق من يحاول "جرّنا" إلى ما نحاول تفاديه حتى الآن، وخصوصا إلى جدلٍ واسترجاعٍ لمرارات نحاول أن ندفنها في أعماق الأعماق. وكنت قلت أكثر من مرة أن من وسائل الخروج من الوضعية الحالية، أن يتراجع كل طرف خطوة واحدة إلى الوراء، حيث كنت أدرك أن خطوة واحدة على طريق العداوة قد تواجه من الطرف المقابل بخطوات على نفس الطريق، لكن ما قلته كان صرخة في واد. وكنت ناديت، مبادرا، بلقاء مباشر بين العاهل المغربي والرئيس الجزائري، لكن فرصة هامة ضاعت كان يمكن أن تمهّد لهذا اللقاء، ولا أظن أن الجزائر التي احتضنت القمة العربية مسؤولة عن إضاعة الفرصة. والغريب أن هناك من راح يُسفّه هذا الاقتراح بالقول، حرفيا "ماذا عساها أن تطلب الجزائر من المغرب في جلسة مغلقة؟ بطبيعة الحال لا نعطيكم جواب، انتظروه الجواب إلى حين انعقاد هذه الجلسة. وقد يطول الانتظار 50 سنة أخرى"!!! هكذا. ولعلّ هذا يؤكد مرة أخرى احتمال وجود توجهات وضغوط لعلها كانت وراء إقناع العاهل المغربي بعدم المشاركة في قمة الجزائر، مما يذكر بالتعبير الجزائري الذي يتحدث عن "السوسة المدسوسة" ( وأتصور أن ما قيل من مبررات لم تقنع حتى من افتعلوها). وينسى المعلّق صاحب التوقيع المبتسر أن وحدة أوروبا أمكن تجسيدها نهائيا على أرض الواقع، لا باتفاق روما ولا بآمال شومان قبل ذلك، ولكن بفضل اللقاء "المغلق" بين الرئيس شارل دوغول والمستشار الألماني كونراد أديناور، حيث أدرك كلاهما أن مناقشة المشاكل الجوهرية في حضور أطراف كثيرين هو طريق لإجهاض المحاولات الجادة لحلّ تلك المشاكل، وبأن لقاء أصحاب القرار ضروري لتحييد "السوسة المدسوسة". ولا جدال أن من حق كل شقيق أن يدافع عن وجهة نظر بلاده، ولكن الحل الحقيقي لا يجب أن يُكتفى فيه بالبلاغيات الجميلة والشعارات الرنانة ومدّ يدِ العون لمواطن متضرّر هنا أو هناك، بل يتطلّب أساسا مواجهة الواقع بكل رصانة ورزانة، وهو ما يتحمّل المثقفون مسؤولية أساسية في ريادته، وأزعم أنني بذلت في هذا المجال كل ما أستطيع بذله. لكنني لا يمكن أن أتناسى أن تحالف المملكة مع العدو التقليدي للأمة، وما صاحبه من صخب إعلامي تعمّده العدو لتعبيد طريق اللاعودة، أضاف ضغثا على إبالة، وكان هروبا للأمام شجّع عليه أكثر الرؤساء الأمريكيين حُمقا بهدف تعزيز نفوذه في المنطقة. ولا بد للأمانة من القول، إن الشعب المغربي نفسه، فيما نرى ونسمع، أدرك أن ذلك التحالف غير المبرر، حتى بالعداء بين الجزائر والمغرب، خطيئة سياسية وجريمة وطنية وانتكاسة قومية، وهكذا أسقط الحزب الذي لوّث المغرب بما يتناقض مع بلد عريق التاريخ، أنجب عبد الكريم الخطابي ومحمد الخامس والهادي بن بركة والهاشمي الطود وغيرهم، مما يجعلني أزعم أن ما حدث هو نوع من "زواج المتعة"، قد يكون التملّص منه بابا نحو عودة الثقة الضائعة في منطقة المغرب العربي، وموقف عزة ونخوة يكون درسا لمن لم يدركوا بعدُ أن ضياع الوطن العربي بدأ منذ وصول الطائرة الرئاسية العربية لمطار اللدّ. بكلمات قليلة… الطريق نحو بناء المغرب العربي السيّد هو استعادة الثقة المفقودة، وهي قضية بالغة السهولة لا تتطلّب أكثر من الإرادة الصادقة والنوايا المخلصة والتصرّفات العملية والتخلي عن منطق فرض الأمر الواقع. ويسعدني أن يتفق الدكتور طارق معي في هذا الاستنتاج. وخاوة خاوة، لكن.. خوك خوك لا يغرك صاحبك.