ارتفعت نسبة الهجرة السرية من دول غرب إفريقيا جنوب الصحراء، إلى دول شمال غربها بنسبة 30 بالمائة خلال 2022، مقارنة بالعام 2021. وتضغط الدول الأوروبية على هذه البلدان ليبقى أولئك المهاجرون فيها، لكن الأمور ساءت أكثر وتكاد تخرج عن السيطرة في بعض دول المغرب العربي، بفعل تفاقم الهجرة السرية من دول ما وراء الصحراء الإفريقية، التي يبدو أنها لم تبق سلوكات فردية، بل هجرة سرية منظمة، وهناك من يقف وراءها حيث أصبح المهاجرون يتوافدون في مجموعات كبيرة، وأحيانا قبائل بأكملها، وصارت تشكل تهديدا لدول الاستقبال، وموردا ماليا سهلا لجماعات تهريب البشر وجماعات الجريمة المنظمة التي تساعد هؤلاء المهاجرين على قطع آلاف الكيلومترات في صحراء قاتلة، كي يصلوا إلى الشمال. تشهد الجزائر على غرار بعض الدول، تفاقم أعداد المهاجرين السريّين من الأفارقة القادمين من دول جنوب الصحراء، فلا تكاد تخلو محطة نقل منهم، ولا ورشة عمل أو بناء. وقبل 2008، كانت الجزائر تعتبر الهجرة من دول المصدر نحو أوروبا مرورا بالأراضي الجزائرية، مطلبا اقتصاديا واجتماعيا، نظرا للأوضاع التي تعيشها دول المصدر، من انعدام التنمية، والنمو الديمغرافي المرتفع، وكانت تعتبر أن الحل الكفيل بالقضاء على الظاهرة أو الحد منها، إنما يكون من خلال التنمية في تلك الدول، وتحسين ظروف العيش حتى يستقر هؤلاء المخاطرون بحياتهم في بلدانهم. لكن ومنذ العام 2008، اتخذت الجزائر عددا من القوانين المنظمة لحركة المواطنين الجزائريين، وتواجد الرعايا الأجانب داخلها. وكان الدافع لذلك هو مواجهة استفحال ظاهرة الهجرة السرية، انطلاقا من الجزائر نحو دول أوروبية، فيما عرف محليا ب«الحرقة". لكن ومع تحولها إلى دولة استقرار لهؤلاء المهاجرين بفعل السياسات الأوروبية التضييقية، اتخذت الجزائر تدابير أخرى لحماية أمنها الوطني بما يتماشى والقانون الدولي. أعداد المهاجرين السريين حلّقت عاليا ارتفع عدد الأشخاص الذين حاولوا العبور بحراً من شمال إفريقيا إلى أوروبا، هذا العام بنسبة 58 بالمائة، ليصل إلى قرابة 76 ألف شخص بين جانفي وجوان 2021، حسب تقرير المنظمة الدولية للهجرة، للعام نفسه، ويتضح من هذا الاتجاه التصاعدي، تزايد الرقابة على الهجرة، وإضفاء الطابع الخارجي على مراقبة الحدود، وتزايد سياسات الهجرة التقليدية التي أسهمت في الهجرة غير النظامية. كما أدى ارتباط مفهوم "أزمة" الهجرة المتزايدة والإرهاب الدولي، إلى تبني الدول الأوروبية سياسات ردع الهجرة، وهو ما عرض حقوق المهاجرين للخطر. وقالت المنظمة الدولية للهجرة، إن الارتفاع القوّي يرجع جزئياً إلى أن عدداً قليلاً نسبياً من الأشخاص حاولوا العبور خلال جائحة كورونا العام 2019. ففي النصف الأول من عام 2020، انخفض عدد الأشخاص الذين حاولوا الوصول إلى أوروبا بنسبة 17 بالمائة مقارنة بعام 2019. مسؤولية من؟ تشترك دول المصدر والاستقبال في مسؤولية تفاقم ظاهرة الهجرة السرية، لكن بالأساس، وبمعرفة دوافع الهجرة، نجد أن المسؤول الأول هو دول الاستقبال التي هي في الأساس دول استعمارية سابقا، وتتسبب في التفقير الممنهج لشعوب هذه المستعمرات السابقة التي لم تحظ على مدار أكثر من نصف قرن من الاستقلال السياسي، بتنمية تسمح للساكنة بالاستقرار في بلدانها. دول المصدر – من جهتها - تتحمل المسؤولية من حيث عدم توفير الظروف الملائمة لتوطين السكان، وبالتالي، عزوفهم عن الهجرة. ونجد دول المصدر تغرق في حروب أهلية ونزاعات مسلحة بسبب التناحر على السلطة، بينما يقف المستعمر السابق موقف المتفرج، وفوق ذلك يفرض سياسات هجرة حمائية لمنع وصول المهاجرين إلى أراضيه، وتضييقه على المهاجرين الذين فروا من بلدانهم بالأساس من ويلات حروب تسببت فيها دول الاستقبال. وبين دولة المصدر ودول الاستقبال، تجد دول العبور نفسها بين سندان فروض الانسانية، ومطرقة ضمان الأمن، ففي أحيان كثيرة وفترات زمنية مختلفة، ضغطت الدول الأوروبية على دول الشمال الإفريقي لتؤدي دور "دركي إفريقيا"، من جهة، ومن جهة أخرى، تستعمل الظاهرة كورقة ابتزاز من خلال رفع شعار "حقوق الإنسان"، أو اتهام دولة العبور ب«العنصرية" والتمييز العنصري ضد المهاجرين السريين الذين هم في الأصل ضحايا التدخل الأجنبي السافر في دولهم، وتحويلها إلى بؤر نزاع. وعليه، صارت دول العبور ضحية السياسيات الأوروبية للتضييق على الهجرة، ذلك أن المفروض أن المهاجرين من دول المصدر الذين يصلون إلى دول العبور، ينتظرون ردا من دول المصدر بقبول طلبات لجوئهم أو إقامتهم من عدمها، وفي حال رفضت، فإنهم يرحلون إلى دولهم الأم، لكن ما يحصل هو أنهم يستقرون في دول العبور، ثم تصبح إقامتهم غير قانونية، وعندما تقوم الدولة المعنية بتطبيق القانون من أجل ترحيلهم، تتهم بالعنصرية وانتهاك حقوق الانسان وغيرها من الاتهامات والإدانات. السياسة الأوروبية للهجرة تتّصف السياسة الأوروبية للهجرة بالتضييق على المهاجرين، سواء النظاميين أو السريّين، فهي انتقائية لأبعد الحدود، تقوم على استقبال من هي بحاجة إليهم، من يد عاملة مؤهلة في مختلف مناحي الحياة، وكذا من خلال التشديد في منح التأشيرات، ولعل فرنسا أكبر مثال على هذا، حيث تستعمل ملف التأشيرات لتسوية الخلافات السياسية مع دول العبور، ما تسبب في ارتفاع أعداد المهاجرين السريين سواء من دول شمال إفريقيا أو من دول إفريقيا جنوب الصحراء. وقد رفضت فرنسا 23 بالمائة من طلبات التأشيرة في سنة 2021 إلى مارس2022. وإضافة إلى الانتقائية، انتهجت الدول الأوروبية مسارا جديدا فيما يعرف ب«عمليات الصد"، والتي تعني منع المهاجرين من بلوغ أراضي أوروبا من خلال إغلاق طرق أو مسارات الهجرة، وهذا دفع المهاجرين إلى سلوك طرق واتجاهات أكثر خطورة، ما تسبب في ارتفاع عدد وفيات المهاجرين في عرض البحر المتوسط، حيث أشارت التقارير إلى هلاك نحو ستة آلاف شخص أثناء محاولة عبور البحر المتوسط خلال 2021. ومن الإجراءات الجديدة للاتحاد الأوروبي، تعديل اتفاقية شنغن، والاقتراح الخاص بلائحة استغلال الهجرة، وتتسبب هذه الإجراءات الحمائية والانتقائية، وعمليات الصد في حرمان المهاجرين واللاجئين من حقوقهم وارتفاع عدد الموقوفين في مراكز الاحتجاز. الجزائر والهجرة السرية كما أشير أعلاه، فإن الجزائر كانت تعتبر الهجرة عموما مطلبا اجتماعيا فرضته ظروف اقتصادية في دول المصدر، لكن ومع تفاقهم الظاهرة محليا، أي هجرة الجزائريين إلى الضفة الشمالية للمتوسط بطرق غير قانونية، اضطرت إلى اصدار قانون تجريم الهجرة السرية منذ العام 2008. وبحلول العام 2017، تغير الخطاب الرسمي الجزائري تجاه الهجرة السرية في منحى الأمننة، حيث صارت الخطابات الرسميّة تعتبر وجود مهاجرين سريّين من إفريقيا جنوب الصحراء على أراضيها تهديدا للأمن الوطني، ومنه حق لها اتخاذ تدابير خاصة لمواجهة تنامي الظاهرة. وذلك نظرا للتطورات الحاصلة على الساحة الأمنية في منطقة شمال إفريقيا والساحل، فيما عرف ب«الربيع العربي" الذي خرب ودمر الدول العربية. فجماعات الجريمة المنظمة، والجماعات المسلحة الإرهابية صارت تعمل في شكل اعتماد متبادل وتنتهج الأساليب نفسها لتحصيل الأموال قصد تمويل نشاطاتها. إذ توفر الجماعات الإرهابية الحماية لجماعات تهريب البشر، بمقابل مادي. كما تستغل تلك الجماعات الوضع الاقتصادي المزري للمهاجرين وإغرائهم للانضمام إلى صفوفها وتجنيدهم لتعزيز تعدادها وتنفيذ أفعال إرهابية. وفي هذا السياق، أصدرت المديرية التنفيذية لمكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن، سنة 2019، تقريرا تقر فيه بوجود علاقة بين الإرهاب والاتجار بالبشر وتمويل الإرهاب. واستشهد التقرير بحالة ليبيا، حيث انتشرت ظاهرة بيع الرقيق في فترات الانفلات الأمني الشديد، ووصول تنظيم الدولة والقاعدة الإرهابيين إلى ليبيا بعد 2014. ومن هذا المنطلق، اعتبرت الجزائر التي عانت من ظاهرة الإرهاب، الهجرة السرية تهديدا للأمن الوطني، وشرعت في شهر جويلية 2017، في ترحيل المهاجرين السريين الأفارقة المتواجدين على التراب الجزائري، وخص الترحيل آنذاك أولئك الذين ضبطوا في ممارسة التسوّل أو صدرت في حقهم أحكام قضائية في قضية هجرة سرية أو تزوير العملة في سنوات سابقة، واستثنى القرار من أثبتت التحقيقات أنهم فروا من الحرب في بلدانهم، وتشير أرقام رسمية أن الجزائر أنفقت نحو 200 مليون دولار، منذ 2015، في عمليات ترحيل المهاجرين السريين، وتشمل مصاريف الإيواء والإطعام والنقل، بما يحترم حقوق الإنسان ويتطابق مع المواثيق الدولية، وقوانين المنظمة الدولية للهجرة. وأبعد من ذلك، تطورت ظاهرة الهجرة السرية من عمليات فردية يقوم بها أشخاص، إلى جماعات منظمة بل وشبكات تقوم بتهريب الأشخاص. وفي هذا الصدد، أوقفت مصالح خفر السواحل بداية أفريل 2022، 10 منظمين لرحلات الهجرة السرية بمرسى الحجاج وبطيوة بوهران، ينشطون في ثلاث شبكات لتهريب الأشخاص عن طريق "الحرقة". حيث أنه في سنة 2020 وحدها، استقبلت الجزائر أكثر من عشرين ألف مهاجر سري في يوم واحد، حسب ما كشفه وزير الخارجية الجزائري آنذاك، صبري بوقادوم. الهجرة نحو دول شمال إفريقيا أشار تقرير منظمة الهجرة الدولية للعام 2021، أن بلدان شمال إفريقيا تمكنت من منع ما يقرب من 37 بالمائة من محاولات الهجرة شمالاً إلى أوروبا. وتعتبر ليبيا الوجهة الرئيسية للمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء لبلوغ المتوسط، نظرا لعدم وجود رقابة كافية بسبب الوضع الأمني السائد في البلاد، والأزمة السياسية التي تمر بها. وتسبب هذا حسب تقارير لمجلس الأمن الدولي، في عودة ظاهرة بيع الرقيق، وانتشارها بشكل غير مسبوق، من طرف جماعات التهريب والاتجار بالبشر. ورحّل خفر السواحل في ليبيا نحو 32,5 ألف مهاجر عبر المتوسط، العام 2021. وبسبب تعرض المهاجرين السريين في ليبيا إلى انتهاكات حقوق الانسان من جهات غير نظامية، فإنهم سيبحثون بشكل تلقائي عن ملاذ آمن، لتكون تونس الوجهة الأسهل لبلوغ سواحل ايطاليا التي لا تبعد سوى 200 كلم عن تونس. وهذا بدوره يشكل عبئا إضافيا على تونس التي يعاني اقتصادها من أزمات مختلفة، مثل أزمة كورونا ثم الحرب الروسية الأوكرانية. وقدرت مصادر حقوقية وصول نحو ثلاثة آلاف مهاجر سري إلى جنوبتونس قادمين من ليبيا. وكانت مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين قررت إخلاء الملاجئ وخفض المساعدات المخصصة لهم في تونس، وهو ما تسبب في احتجاجات فيفري 2014. وتعرضت تونس، في الأيام الأخيرة، إلى حملة اتهامات بالعنصرية والتمييز ضد المهاجرين السريين، وهي اتهامات قالت تونس إنها "مغرضة من جهات معروفة بعدائها لتونس"، تأتي هذه الاتهامات رغم أنها لا تملك من الموارد والامكانات المادية ما يمكنها من احتواء الأعداد الكبيرة من المهاجرين إليها، إضافة إلى قرار المفوضية المذكور، وأيضا، رغم استقبالها للمهاجرين السريين لأسباب إنسانية، وتسهيل إقامتهم في البلاد. ختاما، لم يعد من الممكن، في الوقت الراهن، رغم كل التدابير الحمائية والانتقائية وعمليات الصد، وقوانين تنظيم الهجرة الحد من هذه الظاهرة التي تزداد حدة يوما بعد يوم، ذلك أن أسبابها لم تعالج، ويعتبر التدخل الأجنبي وتفقير الشعوب في دول المصدر، أهم عامل على الإطلاق في تفاقم الظاهرة، إذ تشير الاحصائيات الأممية إلى ارتفاع مضطرد وغير مسبوق لأعداد المهاجرين السريين، وأغلبهم من الفارين من الحروب والنزاعات، من مالي والنيجر وبروركينافاسو، ونيجيريا، ومن القرن الإفريقي واليمن وسوريا والعراق وليبيا. وكل تلك المناطق هي بؤر نزاع، المتسبب الوحيد فيها التدخل الأجنبي الذي لا يرى فيها إلا مصدرا للطاقة، أو الذهب والماس، أو معبرا لسفنه تجب السيطرة عليه، ولايكون ذلك إلا بإلهاء الشعوب هناك بالحروب حتى لا تؤمم مقومات القوة لديها.