أيّها الرّفاق في الجبهة الشعبية، من حقّكم أن تفخروا بتاريخ جبهتكم ومسيرة رفاقكم، فلديكم إرث عريق ومن واجبكم أن تحافظوا عليه. ولديكم كثير من التجارب اتّسمت بالتميز، في الوطن والشتات وفي مجالات عدة، وبين جدران السجون وفي أقبية التحقيق. ولديكم من الشهداء من حفرت أسماؤهم في سجل الخالدين، وقافلة طويلة من الأسرى والمناضلين ممّن ساهموا في صياغة التاريخ الفلسطيني، وسطّروا صفحات مضيئة في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة في مراحله المختلفة. كونوا كما عرفناكم دائما وكما يجب أن تكونوا دوما، مدافعين عن الوطن والمواطن، وحماة للوحدة الوطنية، ومحافظين على الثوابت الوطنية ووحدانية وشرعية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية. و«التجربة الجيفارية" هي واحدة من التجارب المضيئة للرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي تتشابك مع التجربة الجماعية للثورة الفلسطينية المعاصرة. وأنّ قائد تلك التجربة وكنيته "جيفارا غزة" هو واحد من الفلسطينيين الذين تذوّقوا مرارة السجن، فأبدع في ساحة المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال، ممّا أجبر "موشيه ديان" وزير الحرب الصّهيوني آنذاك للقول: بأن قواتنا تحكم قطاع غزة نهاراً والفدائيين تحكمه ليلاً". وهي ذات الأسباب التي دفعته للقدوم الى غزة للتأكد شخصيا من استشهاد "جيفارا" خلال اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، في التاسع من آذار /مارس 1973، وحيث يصادف هذه الأيام ذكرى استشهاد "جيفارا غزة"، كان لا بد لنا وأن نكتب شيئا في هذه المناسبة، وفاء له وتقديرا لتجربته واحتراما لرفاقه. فقد يكون هذا اليوم اعتيادياً لملايين البشر في هذا الكون، لكنه ليس عادياً للشعب الفلسطيني وقواه المناضلة والمقاومة عامةً، ولمن انتمى يوماً وناضل وقاتل في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خاصة. فهو اليوم الذي استشهد فيه رفيقهم الثائر "جيفارا غزة". كيف لا وهو اسم لقائد فذّ وأسير شجاع، وثائر من بلدي وشهيد حي في قلوب شعبه، حفر في سجلات الثورة الفلسطينية، وارتبط بمرحلة نضالية مميزة. واسم زرع الرعب في قلوب جنود الاحتلال الصهيوني وقياداته العسكرية والسياسية، فلاحقهم ولاحق عملاءهم، في شوارع المدن وأزقة مخيمات قطاع غزة، وألحق بهم الهزائم تلو الهزائم. «محمد الأسود" أو "جيفارا غزة" شخصية فلسطينية ثائرة، هي عنوان لتجربة فلسطينية جماعية رائعة في العمل الفدائي وفي حرب التحرير الشعبية ضد الاحتلال الصهيوني امتدت لبضع سنوات، تستحق الاعتزاز والافتخار، وتقودنا إلى المناشدة لتوثيقها وإنصافها، والاستفادة منها ومن دروسها وعبرها. وليس مهماً أن تكون قد انتميت يوماً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأطرها المختلفة كي تحترم هذا الثائر وتعشق تجربته المميزة، فيكفيك فخراً أنه ثائر من بلدي. وينتمي لفلسطين وقاوم الاحتلال من أجل حرية الوطن والإنسان، وأنّ كل من رافقه يشهد ببسالته وجرأته، وكل من عاصر المرحلة يُقر بتميزها الثوري وإيلامها للاحتلال وجنوده. ولد محمد محمود مصلح الأسود (جيفارا غزة) في السادس من كانون ثاني/يناير عام 1946 في مدينة حيفا، وبعد النكبة 1948 نزح إلى مخيمات قطاع غزة، وفي بدايات العام 1963 انضم لحركة القوميين العرب ليصبح عضواً ناشطاً فيها، ومن ثم انضم للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد انطلاقتها في الحادي عشر من كانون أول/ديسمبر 1967، وأصبح أحد أبرز مقاتليها وقياداتها. وفي الخامس والعشرين من كانون ثاني/يناير 1968 اعتقلته قوات الاحتلال الصهيوني، وزجّت به في زنازين سجن غزة المركزي، وتعرّض لأبشع صنوف التعذيب، إلا أنه لم يبح بأسرار رفاقه ولم يخن من منحوه الثقة. ومكث وقتئذ سنتين ونصف السنة، وخلال وجوده في السجن لم يهدأ "محمد الأسود" أو يستكين، ولم تحيده السلاسل والقضبان أو قساوة السجان عن نهج الثورة قيد أنملة، فبقي على علاقة تواصل مع رفاقه خارج الأسر، وواصل نضاله من خلف القضبان. وبعد إطلاق سراحه منتصف العام 1970، حمل مسؤولية قيادة الجهاز العسكري والعمل الفدائي للجبهة الشعبية في قطاع غزة، وحمل اسماً حركياً جديداً هو "جيفارا غزة"، تيمّناً وتقديراً وإعجاباً بتجربة وشخصية الثائر الأممي "أرنستو تشي جيفارا". فأجاد فنون المطاردة والتخفي وسرعة الحركة والتنقل والاختفاء في الملاجئو وغيرها من أساليب المقاومة الشعبية وحرب الشوارع، فذاع صيته وتردّد اسمه بكل فخر على كل ألسنة الناس، وافتخر به رفاقه وشعبه وأمته العربية جمعاء، وبات يخشاه العدو وعملائه في كل زمان ومكان. وفي التاسع من آذار عام 1973 تمكّنت قوات الاحتلال من معرفة مكان وجوده، فحاصرت البيت الذي كان متواجداً به، والذي يقع خلف مستشفى الشفاء غرب مدينة غزة، مستعينة بأعداد كبيرة من الجنود والدبابات وبغطاء جوي، إلا أن "جيفارا" ورفيقيه عبد الهادي الحايك وكامل العمصي رفضوا الاستسلام واشتبكوا مع قوات الاحتلال إلى أن استشهد ثلاثتهم، مما دفع وزير الدفاع آنذاك "موشيه ديان" إلى الحضور شخصياً إلى القطاع للتأكد من خبر استشهاد "الأسود" الذي أقضَّ مضاجعهم. جيفارا غزة…أنت في القلوب ساكناً، وفي مراحل الثورة حاضراً. أنت عنواناً لتجربة فدائية جماعية نفخر بها، وتبقى التجربة الجيفارية أسطورة فلسطينية، تتناقلها وتتوارثها الأجيال المتعاقبة، حاضرة لم تغيبها الأيام من الذاكرة، ولن تطويها صفحات السنين ولا يخفيها أو يلاشيها الزمن، وسيبقى التاريخ الفلسطيني منقوصاً ما لم ينصف تلك التجربة. فالمجد للشهداء والحرية للأسرى، وإنها لثورة حتى النّصر.