عبد الناصر عوني فروانة لست بحاجة إلى من يذكرني بالثالث من آذار من كل عام ، فهو يوم ليس ككل الأيام في تاريخ الشعب الفلسطيني ، وهو يوم من الأيام المحفورة في الذاكرة الفلسطينية بشكل عام وفي سجل المقاومة النوعية بشكل خاص ، يوم أن نفذت فيه عملية فدائية ضد الاحتلال وجنوده ومستوطنيه وصفت بأنها الأخطر خلال انتفاضة الأقصى . ولست اليوم بحاجة لمن يحثني على الكتابة ، كما أنني لست مضطراً لأن أدافع عن تكرار كتاباتي عن ال “ ثائر “ ورموز المقاومة ، فعشقنا كفلسطينيين للمقاومة وتقديراً منا لأبطالها ، ووفاءً لمن أجادوا ممارستها ، يدفعنا دوماً لأن ننصف أبطالها ورموزها ، وأن نعبر عن فخرنا واعتزازنا بهم ببضع كلمات متواضعة لطالما أننا لا نملك غيرهم . فالمقاومة نهج وممارسة ، إرادة وعزيمة ، عزة وكرامة ، جرأة وحنكة ، نصر أو استشهاد .. هكذا عرفناها منذ أن تعلمنا أبجديات الثورة والإنتماء ومقاومة الاحتلال ، وهكذا علمونا إياها في مدارس الأحزاب والفصائل المختلفة ، وعلى هذا النهج والفهم تتلمذنا في مدارس السجون وجامعاتها ، فترسخت في عقولنا وأذهاننا وفلسفتنا اليومية ، وأضحت جزء من سلوكنا اليومي في مقارعة الاحتلال وأدواته متعددة الأشكال والأسماء ، والشعب الفلسطيني برمته قاوم ويقاوم ولم يسقط خيار المقاومة بأشكالها المتعددة . وخلال انتفاضة الأقصى تمكن رجال المقاومة الفلسطينية من أن يلقنوا الاحتلال دروساً لا تُنسى ، قبل أن تتمكن أجهزته وقواته العسكرية من اعتقالهم والزج بهم في سجونه . فامتلأت السجون بنزلائها القدامى والجدد ، والتقى الأبطال خلف القضبان ، لتتشابك المقاومة بأزمنتها المختلفة ، ويتوحد أبطالها ورموزها على اختلاف انتماءاتهم الحزبية ، ليؤكدوا بوحدتهم على أن خيار المقاومة لم يكن مرتبطاً بحقبة زمنية معينة ، وهو خيار لم ولن يسقط من برامج وثقافة الفصائل كافة . ثائر فتحاوي يفخر به الفلسطينيون على اختلاف انتماءاتهم .. و« ثائر “ هو واحد من رموز المقاومة الجدد القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، لم أكن أعرفه ولم أسمع ولم يَسمع أحداً باسمه من قبل ، بل لم يكن أحد يعرفه سوى دائرته الإجتماعية الضيقة ، كما ولم يسبق لي شخصياً أن نلت شرف الالتقاء به قبل اعتقاله ، ولم أتمكن من التحدث معه بعد اعتقاله عبر الهواتف النقالة المهربة ، لكنني أحببته ومعجب به وبجرأته ، واشعر بأن لزامناً علينا كفلسطينيين تكريمه وتكريم كل رموز المقاومة القابعين خلف القضبان بالطريقة التي يستحقونها وبما يليق بتاريخهم المقاوم . واعجابي به يدفعني دوماً للكتابة عنه فيكفيني فخراً بأن فلسطين أنجبته ليثأر لوحده من الاحتلال ، وليلقنه درساً لم ولن ينساه أبد الدهر . و ال “ ثائر “ هنا ، ليس ككل الثوار ، فهو “ ثائر “ جريء ، هادئ بآدائه ، لمع اسمه في الثاني من أكتوبر عام 2004 ، وهو تاريخ اعتقاله ، كأحد رموز المقاومة ، بعد أن كشف الاحتلال حكاية وأسرار عملية “ وادي الحرامية “ وأن ثائر الشاب ( لا ) العجوز كما كان الاحتلال يعتقد ، هو منفذها ، تلك العملية الفدائية التي نفذت في مثل هذا اليوم من عام 2002 والتي وصفت بالتاريخية والأخطر خلال انتفاضة الأقصى . و “ ثائر “ هو ابن لحركة تحرر وطني تحتل مساحة هي الأوسع والأكبر في الذاكرة الفلسطينية المعاصرة ، بتاريخها العريق ، وسجلها المقاوم وعملياتها المميزة ، حركة تغنى بها الأجداد والآباء ، وحفظ تاريخها الأبناء ، وسيردد اسمها الأحفاد ، لطالما بقىّ الشعب الفلسطيني حياً ، وهو حي لا يموت ، إنها حركة التحرير الوطني الفلسطيني “ فتح “ . فمن هو الثائر هذا ؟ ويضيف فروانة في مقالته : فليس بالضرورة أن تكون فلسطينياً كي تتعرف على هذا الثائر ، أو أن تكون فتحاوياً كي تحترمه ، فهو ثأر وانتقم من الاحتلال وجرائمه ، واختط الثورة طريقاً و« فتح” أداة والبندقية وسيلة ، انه الأسير “ ثائر كايد قدورة حماد “ ( 31 عاماً ) ، فلسطيني الهوية ، فتحاوي الانتماء وأمير كتائب شهداء الأقصى ، أعزب ويسكن بلدة سلواد قضاء رام الله ، استطاع بمفرده وبهدوء المقاتل الواثق بحتمية الإنتصار ، أن ينفذ عملية قنص نوعية منحته لقب “ أمهر قناصي العالم “ ، حيث استطاع بمفرده إطلاق ( 26 رصاصة فقط ) من ببندقية واحدة قديمة الصنع من زمن الحرب العالمية الثانية ، أمريكية الأصل ، من ماركة “ M1” ، ليقتل بها ( 11 ) جندياً ويصيب ثمانية آخرين من جنود الاحتلال الإسرائيلي ، ولو لم تنفجر البندقية بين يديه لواصل قنصه . الثالث من آذار يوم ليس ككل الأيام ... قتل 11 جندياً ومستوطناً وجرح 9 آخرون ب26 رصاصة “ ثائر “ استيقظ صباح يوم الأحد الثالث من آذار / مارس 2002 ، وتوضأ وأدى صلاة الفجر وتناول نسخة المصحف في جيبه ، وارتدى بزة عسكرية لم يسبق وشوهد يرتديها وتمنطق بأمشاط الرصاص وامتشق بندقيته وتفقد عتاده المكون من ( 70 ) رصاصة خاصة بهذا الطراز القديم من البنادق. وامتطى الفارس “ ثائر” صهوة جواده وانطلق به الى جبل الباطن إلى الغرب من بلدة سلواد ، وتحصن بين الصخور وأشجار الزيتون وصوب بندقيته صوب الحاجز العسكري بجنوده ومكوناته التي تشوه المكان ، فيما يُسمى حاجز “ وادي الحرامية “ واخذ يراقب ويستعد بانتظار ساعة الصفر . وفي السادسة إلا ربع صباحاً ضغط بأصبعه على زناد بندقيته وأطلق الرصاصة الأولى ، واستمر في إطلاق الرصاص وهو يصيب الواحد تلو الآخر من جنود الاحتلال ، ومن ثم ترجل عدد من المستوطنين ، فنالهم ما نال الجنود من رصاص ، ودورية أخرى وصلت للمكان للتبديل ، فأصابها ما أصاب من كان قبلها في المكان ، وفجأة انفجرت بندقيته العزيزة بين يديه وتناثرت أشلاء فأجبر على إنهاء المعركة ، بعد أن أطلق ( 26 ) رصاصة فقط ، استقرت جميعها في أجساد جنود الاحتلال ومستوطنيه وأسفرت عن مقتل 11 جنديا ومستوطنا وإصابة ثمانية آخرين ، حتى ساد الصمت منطقة الحاجز بأكملها وفي الساعة السابعة والنصف قرر الإنسحاب عائداً الى بيته وكأن شيئاً لم يحدث . وفي أعقاب العملية فرضت قوات الاحتلال طوقاً حول بلدة سلواد ونفذت حملة تمشيط بحثاً عن المنفذين المحتملين وأعتقل ثائر وأفرج عنه بعد 3 أيام ، ربما لم يدر في خلد المحققين ان هذا الفتى ابن الثانية والعشرين هو منفذ العملية ، حيث كانت كل التوقعات تشير الى رجل عجوز ، وبعد 31 شهر داهمت قوات الاحتلال منزلته واعتقلته فجر يوم 2-10-2004 ، ليبدأ مشواراً جديداً خلف القضبان مع إخوانه ورفاقه ، فقافلة الأبطال تمر إما إلى القبور وإما إلى السجون. واليوم في الثالث من آذار وفي الذكرى التاسعة لعمليته النوعية ، وبعد مرور ست سنوات ونيف على اعتقاله ، ندعو آسري “ شاليط “ لأن يكون “ ثائر “ وأمثاله من رموز المقاومة وبغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو مكان سكناهم ، مكانة ثابتة على قائمة الأسرى المطالب بتحريرهم في إطار صفقة تبادل الأسرى ، كجزء من وفاء المقاومة لرموز المقاومة القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي .