حلّت الذّكرى المئوية الثانية لوفاة الفقيه المؤرخ محمد أبي راس النّاصريّ المعسكريّ سنة 1823م/ 1238ه، وهو العالم الجزائريّ الأكثر تأليفًا على الإطلاق، فقد بلغت مؤلّفاته مائة وسبعة وثلاثين كتابًا، ما بين بسيط ووسيط ووجيز، ليحتل المرتبة الثانية في عدد المؤلفات في التاريخ الإسلامي، لا يتفوّق عليه سوى العلّامة جلال الدين السيوطي، الذي كان معجبًا به، مقتفيًا سيرته ومنهجه، حيث قال في فتح الإله ومنّته: "وإنّما عددت تآليفي وجُملةً من تصانيفي اقتداءً بالإمام السيوطي..وما أعلم أحدًا أكْثَرَ التّآليفَ - بعده - غيري، والكمالُ لله"، وأكّد هذه المعلومة أبو القاسم سعد الله في تاريخ الجزائر الثقافي الذي قال فيه: "وقد فاق جميع المؤلفين كثرةً ما عدا السيوطي". مركزية أبي راس النّاصري في الثّقافة الجزائرية إنّ أبا راس النّاصريّ ليس شخصية هامشية في الثقافة الجزائرية، فهو عالمٌ كبيرٌ له وزنه وشأنه واعتباره، من خلال ما قدّمه تأليفًا وتدريسًا وجهادًا، ممّا أهّله ليكون مقصد العلماء ومطمح أهل الثقافة والرّأي، تشدّ إليه الرحال، وتضرب لأجله آكباد الإبل، يغصُّ مجلسه بالطلبة والمريدين، حتى تجاوز في بعض الأحيان سبعمائة طالب، وقرّبه أهل السلطة والسياسة، فأسدى لهم النّصيحة، وكان عونًا لهم وظهيرا، ينقل إليهم اهتمامات النّاس وانشغالات العامة، في نموذج فريد للمثقف العضوي الذي ينحاز إلى أفراد الشّعب، ويتبنّى مطالبهم، وقد توّج هذا "التحالف" بين الثقافة والسياسة بتحقيق أعظم إنجاز في المنطقة المغاربية، ممثّلًا في تحرير وهران من الاحتلال الإسباني الذي دام ثلاثة قرون تقريبًا (1505م- 1792م)، ووثّق أبو راس تفاصيله في عدّة مؤلفات منها؛ الحلل السندسية في شأن وهران والجزيرة الأندليسة، وعجائب الأسفار ولطائف الأخبار.. اعتراف علماء المشرق بتفوّق أبي راس ذكر أبو راس في رحلته أنّه سافر إلى المغرب وإلى المشرق، للقاء العلماء، طلبًا للإجازات وللأسانيد العالية، بعد أن استكمل مؤهلاته العلمية في بلاده، وهو ما جعله يدخل في نقاشات ومناظرات مع علماء مصر والشام والحجاز وغيرها، من موقع الندّية العلمية، والرّسوخ المعرفي، فأثار اهتمام مشايخ الأزهر وكبار علماء مصر، حتى لقّبه العلّامة الشرقاوي بشيخ الإسلام، ووصفه مرتضى الزّبيدي (صاحب تاج العروس) بالفقيه العالم المتفنّن الحافظ، وهو ما أغاظ طائفة من النخبة المثقفة بمصر، فواجهوه بالسؤال والمناظرة على سبيل الامتحان، وهو يعدّد لهم محفوظاته في النّحو والبلاغة وأحكام القرآن، ويذكرها لهم، حتى سلّموا له بالتفوّق وأذعنوا. ثقافة موسوعية اللاّفت في شخصية أبي راس النّاصريّ سعة اطلاعه، وغزارة محفوظه، فهو يقرأ بِنَهم شديد، لا يتأخرّ عن حفظ الكتب التي يراها مؤثّرة في تشكيل شخصيته العلمية، ووعيه المعرفي، في مختلف العلوم الشرعية والإنسانية، كالتوحيد والفقه والتفسير والحديث، والتاريخ والمنطق والنحو والصرف والبلاغة والعروض، وفي الصيد والأمثال والحكم والثقافة الشعبية، حتى بات عصيًّا على التصنيف، عابرًا للتخصصات، وقد انعكس ذلك على مؤلّفاته التي غطّت شتّى صنوف المعرفة المتداولة في عصره. مقتديًا بالعلّامة المصريّ جلال الدين السيوطي الذي كان مثله الأعلى. وسطية وتحرّر فكري رغم أنّ الشيخ أبا راس عاش في عصرٍ يوصف بالجمود الفكري، والتعصّب المذهبيّ؛ إلّا أنّه استطاع أن يتجاوز تلك القيود، ويحلّق في آفاق أرحب من الحرية الفكرية، والتسامح المذهبي، فقرأ - علاوة على المذهب المالكي السّائد في بلاد المغرب - المذاهب السنّية الأخرى؛ الحنفي والشافعي والحنبلي، وتتلمذ على كبار مشايخها، وأخذ الإجازات فيها جميعا، وكان يفتي بها بعقليته المتنوّرة وذهنه المتفتّح، خصوصًا في النوازل التي تطرأ، حيث تبنّى مقولة الإمام القرافي: "يجوز تقليد كلّ المذاهب في النوازل"، ونظرًا لهذه الرّؤية المتميّزة العابرة للحدود وللتنميطات المذهبية، أطلق الباي مصطفى بوشلاغم على مكتبة أبي راس التي بناها له "بيت المذاهب الأربعة". النّاصريّ شاهدًا على العصر لقد عاصر الشيخ أبو راس العديد من الأحداث المفصلية على المستوى المحلّي والإقليمي والدّولي، فلم يفوّت الفرصة وكتب شهادته عليها جميعًا، بعقلية المؤرّخ الذي يدرك قيمة التحوّلات التاريخية وتداعياتها المستقبلية، وتأثيراتها على المجتمعات والدّول، وهو ما وفّر للباحثين - في المراحل التالية - المادة التاريخية اللازمة لتوثيق الأحداث، وكتابة التاريخ بالصورة العلمية المطلوبة، فتحدّث في كتابه "الحلل السندسية" عن حملة نابوليون على مصر، واستباحته للأزهر الشريف، وعن غزوه الإسكندرية وتوسّعه في الأراض المصرية قائلًا: "ثمّ إنّ عدوّ الله لما خلا له الجوُّ من المنازِع، وأيقن بأنّه ليس له عن إقليم مصر مدافع.. سوّلت له نفسه غزو عكّا، التي هي إحدى قواعد الشّام العظام"، كما يذكر مقاومة العلماء لهذا الغزو ومنهم شيخه عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر، فقال: "ولما دخل الكفرة مصر..كان يدافع عنهم على قدر الجهد والطّاقة، ولم يَأْلُ نصحًا، ولم يَطْوِ دونهم كشحًا، بل سعى سعي الكرام إلى أن فرّج الله بعد ثلاثة من الأعوام". وأبرز حدثٍ تاريخيّ وثّقه أبو راس ودوّن أحداثه هو تحرير وهران من الاحتلال الإسباني، الذي جثم على صدر هذه المدينة ثلاثة قرون، فكتب قصيدته السينية الشهيرة وشرحها أكثر من مرة، سرد فيه تفاصيل هذا التحرير، بداية من التحضير اللوجستي والمعنوي، مرورًا بالحملة العسكرية، والحصار الذي دام عامًا كاملا، أنهك قوات الاحتلال، وقطع عنها خطوط الإمداد، كما تفنّن في وصف المعارك ممّا عاشه هو بنفسه أو نقلًا عن شهود العيان، وممّا تواتر من أخبار عن الثقات، نظرًا لغيابه عن بدايات هذا الحدث الهام بسبب أدائه فريضة الحجّ، لكنه شهد نهاياته، فممّا عاشه بنفسه استشهاد شيخه السنوسي بن السنوسي، في معركة كبيرة مع الإسبان، "لم تنسج الأزمان على منوالها، ولا أتت الأيام الحبالى بمثل أجنة أهوالها..ثمّ قفلنا بالعلّامة الشّهيد إلى أهله وحلّه ورَحِمِه، ودفنّاه في تربة جدّه بكسوته ودمه". وعلى المستوى الدّاخلي، كتب أبو راس عن الاضطرابات الدّاخلية، والنزاعات التي واجهها الأتراك خلال حكمهم الجزائر، وكان في كل مرّة ينحاز إلى صفّ الدّولة، داعيا إلى نبذ الفرقة والاختلاف المفضي إلى التقاتل وسفك الدّماء، لذلك رفض بشكلٍ قاطعٍ ثورة درقاوة (أتباع الطريقة الصوفية الدّرقاوية نسبة لمؤسسها محمد العربي الدّرقاوي) التي أخذت تنتشر وتتقوى في الغرب الجزائريّ انطلاقًا من مدينة فرندة بالقرب من تيارت، وكتب في ذلك كتابه "درء الشّقاوة في فتنة درقاوة" يتبرّأ فيه من هذا التمرّد السياسي الخطير الذي ارتدى لبوسًا دينيا صوفيا. وقد ذكر أبو راس في سيرته الذاتية الأثر السلبي البالغ لهذه الحرب، على الحياة العلمية والثقافية، حيث هُجِرت المدارس، وضَعُف الإقبال على مجالس العلم، وصار كلّ شيء في خدمة هذه المعركة الوجودية بالنسبة للأتراك في الجزائر، حيث يرى المهدي البوعبدلي أنّ تمرّد درقاوة أضعف الحكم التركي في الجزائر وعجّل بزواله (انظر مقدمة الثغر الجماني). الحاجة إلى نشر تراث أبي راس وقراءته من مجموع مائة وسبعة وثلاثين كتابا ألّفها أبو راس الناصريّ، لم تنشر سوى عشرة كتب تقريبًا، بينما يقبع ما يربو عن مائة كتاب في دهاليز النسيان، يتآكل بالرطوبة وتنهشه الحشرات، وربّما كان محجوزًا لدى بعض العائلات تتخذه للرقية من الأمراض، وتستعيذ به من الشياطين ومردة الجان!! وتصدّ عنه الباحثين والمحققين، والرّاغبين حقًّا وصدقًا في خدمة التراث، وحمايته، وصيانته، ونشره للقراء وطلاب المعرفة. إنّ بقاء ما يزيد عن مائة كتاب من كتب أبي راس لمدة قرنين من الزمان محجوبا عن القرّاء، ممنوعًا من النشر، لهو عارٌ كبيرٌ، ووصمة تشوّه وجه الثقافة الجزائرية، لا يغسلها إلّا تحقيقه التحقيق العلمي ونشره على أوسع نطاق، ليستفيد منه أهل العلم والثقافة، ويستنيروا بأفكاره الخلّاقة، ويقرؤوه القراءة الواعية المنتجة، التي تؤدي في نهاية المطاف إلى عقد الصلة المطلوبة بتراثنا التليد، وتجسر الهوة بيننا وبينه، من دون التنازل عن حقنا - كقرّاء - في طرح السّؤال والنقد والاختلاف، عبر ما تتيحه المناهج النقدية المعاصرة أو الكلاسيكية من أدوات القراءة، وآليات التّلقي.