تذكّر الباحثة فاطمة هرمة، من جامعة غرداية، أن الرواية ملتقى الأجناس الأدبية، كونها تمتلك القدرة على امتصاص عدة أجناس تتقارب معها في خصائص فنية وبلاغية، وتضيف أن الرواية التاريخية تتمثل الواقع التاريخي بطريقة خيالية وواقعية في الآن ذاته، فتحافظ بذلك على واقعيتها وفنيتها، وتنأى بنفسها من أن تكون وثيقة تاريخية. هذا وصف مجمل للرواية التاريخية جاء في مقال نشر بآخر عدد من "مجلة اللغة العربية"، وسمته بعنوان: التاريخي والشعري في البنية الروائية: التشاكل والتباين. تؤكّد الباحثة أنّ الخطاب الروائي والشعرية يلتقيان في أن كليهما يعتمد على اللغة كأداة للتعبير والتشكيل، فالخطاب الروائي - تقول هرمة - يعتمد على اللغة كوسيلة للإبلاغ وكذا التأثير، ويكون ذلك عندما تنزاح اللغة عن دلالتها المعجمية، وهنا تتحقق الشعرية في الخطاب الروائي، وتشير إلى أنّ الرّوائي يمتلك الحرية في إعادة تشكيل المادة التاريخية حتى تستجيب لإكراهات التشكيل الفني الخاص، شرط التزام الموضوعية والواقعية والأمانة في نقل الأحداث التاريخية. نقاش دائم.. لم تغفل الباحثة أن جدلية التاريخ والرواية أو الواقعي والتخييلي، ظل على الدّوام محل نقاش بين النقاد، فالتاريخ لقي حضورا مكثّفا في الرواية بأحداثه الواقعية، وما يحتوي من مكونات تخدم البنية الروائية، فتسلّل بذلك إلى الرواية وصار جزءا منها، بل وطغى المضمون التاريخي على الروائي عند بعض الكتاب، فتجردت الرواية من فنيتها ودخلت نسق الوثيقة التاريخية، وهذا ما فرض التساؤل عن السبل التي تجعل من الرواية التاريخية تحافظ على شعريتها وفي الوقت نفسه تحتفظ بواقعيتها وموضوعيتها الرّواية المفهوم والرّؤية تؤكّد الباحثة فاطمة هرمة أنّ "الرّواية" مفهوم زئبقي يصعب ضبطه، نظرا لتطوره المستمر، وهذا ما أشار إليه أغلب النقاد حينما اعتبر بعضهم أن تعريف الرواية لم يجد له جوابا نهائيا بعد، فهناك من يرى بأنّ الرّواية "شكل خاص من أشكال القصة (ميشال بوتور 1986)، وتردّ هرمة بأنّ هذا الطرح لا يتوافق والفوارق الموجودة بين الشكلين، فمميزات القصة تختلف عن مميزات القصة القصيرة، وتختلف عن مميزات الرواية. وهناك من يرى أن الرواية ليست سوى كتابة تطورت في الغرب عن أشكال السرد، لتصبح شكلا معبّرا عن فئات اجتماعية وسطى قادرة على القراءة والكتابة (محمد الدعموني 1991). وهو الرأي نفسه تقريبا عند الصادق قسومة، الذي عبّر عنه بقوله: إن الرواية كما نفهم الآن عندنا وعند غيرنا مدلول حاصل من ترجمة اللفظة (roman) مدلولا جديدا قوامه بعض الأعمال القصصية التي أخذت في الظهور منظومة ومنثورة للتعبير عن أغراض جديدة وثيقة الصلة بحياة الطبقة الشعبية (الصادق قسومة 2000)، فمن خلالها، استطاع الأديب تصوير ما تعانيه تلك الطبقة من ظلم وحرمان، فكانت الرواية بمثابة الرسالة التي تبث الوعي، وتشحذ الهمم. وتسجّل الباحثة فاطمة هرمة أنّ "الرواية" أكثر الأجناس الأدبية الحديثة القابلة لامتصاص أجناس أدبية أخرى بسبب مساحة الحرية المتوافرة في تقنيّة السّرد، وتفاعل عناصر البناء الفني فيها مع الخصائص الفنية للأنواع الأدبية الأخرى، كالمقامة والسيرة الذاتية والقصة والأقصوصة، وهذا ما جعل من الرواية تتسع لجميع الأجناس، فهي تنفتح على مختلف الأنواع، على اعتبار أن تداخل الأجناس الأدبية "ترابط مجموعة من العناصر التي لا تظهر كلها بالضرورة معا في عمل أدبي واحد ولكن الأشكال الخارجية ستكون بالتأكيد من بين المؤشرات مثل: البناء والشكل والتناسب البلاغي.." (عبد الله إبراهيم 2003)، وبذلك ضمت الرواية أجناسا أدبية تتقارب معها أو تشاركها في بعض الخصائص الفنية أو البلاغية. وهذا ما جعل تودوروف يقول إن "الأجناس الأدبية تعيش حالة اندماجية في نظرية أرحب منها وهي نظرية الخطاب والقص". جذور الرّواية التّاريخية نشأت في مطلع القرن التاسع عشر في أوربا وهذا لا ينفي وجودها قبل ذلك، فقد وجدت روايات من القرن الثامن عشر، إلا أنها لم تكن مكتملة الصياغة كونها تعاملت مع التاريخ على أنه مجرد أزياء، ولم تنقل الصورة الحقيقة للفترة التاريخية التي عالجتها، لكن مع رواية ولتر سكوت، تجسدت الرواية التاريخية بشكلها المتكامل، فقد كان "يتخير أبطاله من العصور الوسطى، ويمازجها بشخصيات خيالية مختلفة نابضة بالحياة غير متعارضة مع العصر التاريخي الذي يصفه، وبارعا في تصوير وتجسيد عادات وتقاليد وملابس ومقومات ذلك العصر متحايلا على حقائق التاريخ". واعتبرت الباحثة الرواية التاريخية سردا قصصيا يدور حول حوادث تاريخية وقعت بالفعل، وفيه محاولة لإحياء فترة تاريخية بأشخاص حقيقيين وخياليين أو بهما معا، فتجمع بذلك بين التاريخية والفنية، وعرفها بعض النقاد على أنها "سرد قصصي يرتكز على وقائع تاريخية تنسج حولها كتابات تحديثية ذات بعد إيهامي معرفي"، وهناك من وجدها تنحو غالبا إلى إقامة وظيفة تعليمية وتربوية"، فهي "إعادة بناء خيالية للماضي تتناول أساسا حياة جمع من الناس وعاداتهم وتقاليدهم"، فهي تتكئ على الماضي - تقول الباحثة - ومتنُها يصور وينقل عادات وتقاليد جمع من الناس. وكثيرا ما يقع الروائي غير المتمكن من أداته في الخطأ فيجعل من روايته سردا للتاريخ ووثيقة تاريخية خالية من التخييل والفنية، وهذا ما نبه إليه جورج لوكاتش في قوله إنّ "ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكثيرة، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماما في الواقع التاريخي"، ما يعني أنها "تمثل التاريخ بطريقة فنية يحقق لذلك الخطاب المقبولية لدى المتلقي. فالخيال عنصر مهم في العمل الروائي والقصصي - تقول الباحثة - وهو ما ركز عليه ألفريد تشيبار حينما قال إن القصة التاريخية تتناول الماضي بصورة خيالية، يتمتع الروائي بفترات واسعة يستطيع معها تجاوز حدود التاريخ لكن على شرط أن لا يستقر هناك لفترات طويلة. توظيف التّاريخ في الرّواية للتّاريخ علاقة وطيدة بالرواية، فقد تستلهم الرواية من التاريخ أحداثًا وشخصيات ووقائع، وهو ما يسمى بالرّواية التاريخية التي جاءت نتيجة الامتزاج التاريخ بالأدب، فالتاريخ - تقول فاطمة هرمة - ليس سوى حقائق مجردة لوقائع تاريخية معينة سواء أكان الأمر يتعلق بالحوادث أم بالشخصيات، بيد أن هذا التاريخ المجرد عندما يدخل بنية أساسية تعتمد عليها الرواية، يأخذ شكلا جديدا بحيث يصبح عنصرا فنيا من عناصر تكوين الرواية، فيخضع حينها لكاتب الرواية الذي يفسره وفقا لمزاجه الشخصي، وهو ما يعرف بأيديولوجية الكاتب الذي يحمل الرواية أفكاره وتوجهاته ويمررها عبر خطابه الروائي. ولا يمكن للخطاب الروائي أن يصبح تاريخيا - تؤكد الباحثة - وإذا ما استحضرت الرواية أحداث التاريخ وشخصياته أو علاقاته، فإنها لن تكون سردا حقيقيا للتاريخ، وإنما سرد جمالي يطعمه البيان ويرفده الخيال كما يقول هنية جوادي، فالخيال هو الفيصل بين الرواية التاريخية ورواية التاريخ، كون الرواية التاريخية تدخل فيها ذاتية الكاتب، إضافة للخيال، في حين رواية التاريخ تبنى على الواقعية والموضوعية والأمانة في نقل الحدث التاريخي وهذا من شأن المؤرخ، فالمؤرخ "لا يستطيع أن يخرج عن رواية الأحداث الفعلية من تفاصيل الماضي، أما الأديب فله أن يروي كل ما يمكن، أو يحتمل أن يحدث، وبذلك فمجاله أرحب في التعامل مع العموميات. يمكن القول إن الأديب له مساحة كبيرة من الحرية في رواية التاريخ، على عكس المؤرخ، ويلتقي الروائي والمؤرخ في اعتمادهما على معطيات التاريخ ووقائعه التي تعد منابع مشتركة بينهما، لكنهما يختلفان في كيفية التعامل مع المادة التاريخية، كما يختلفان في هامش الحرية المتاح لكل واحد منهما. ويعتمد كل من الروائي والمؤرخ على التاريخ، وعندما نقول التاريخ - تستدرك هرمة - فهذا يعني أن الخبر / الحدث يمتلك مرجعيته الزمنية التي تجعله متفردا أو غير قابل للتكرار والتواتر، فالأحداث قد تتشابه، ولكن عندما ترتبط هذه الأحداث بتسجيل تاريخي معين فإنها تصبح متفردة، وتكتسب صفة الواقعية، وتكتسب مرجعيتها الخاصة كما يقول سعيد جبار، وما يتخوف منه هو تزوير التاريخ، باعتبار أن الكاتب أو المؤرخ إنسان قد يحمل توجهات أو خلفيات سياسية أو نفسية أو اجتماعية توجه تفسيراته للأحداث التاريخية، والرّوائي هو أكثر شخص يمكنه التورط في مثل ذلك، كونه ينسج أشخاصاً وأحداثا لمرحلة تاريخية لم يعايشها، وإنما استعان فيها بخياله والمراجع التي قد تخدم توجيه معينا.. وترى الباحثة فاطمة هرمة أن الرواية المعتمدة على التاريخ هي خطاب أدبي متخيل يشتغل على خطاب تاريخي منبثق سابق عليه اشتغالا أفقيا، يحاول إعادة إنتاجه روائيا ضمن معطيات آنية، لا تتعارض مع المعطيات الأساسية للخطاب التاريخي، واشتغالا رأسيا عندما تحاول إتمام المشهد التاريخي، وهي من وجهة نظر المؤلف، إتماما تفسيريا أو تعليليا لغايات إسقاطيه أو استنكارية أو استشرافية. وبذلك أضحى التاريخ مادة خصبة للرواية، كون كلاهما يعبران عن واقع ويشكلانه بلغتهما الخاصة. يميز بعض النقاد بين التاريخ والرواية على أساس أن التاريخ ضرب من المحكيات ذات النزوع إلى الحقيقة، فيما يميل السرد محكي إلى التخييل. ويترتب على هذا التمييز تمييز آخر بين واقعية التاريخ ولاواقعية التخييل الروائي. وفي النظرية التقليدية للأدب فإنّ الرواية اشتغال الخطاب الشعري في النص الروائي، وكيف تشتغل هذه التقنيات من بلاغة الشعر إلى بلاغة الرواية، فالخصائص التي تعتمدها الرواية تختلف عن الأدوات التي تعتمدها في الشعر، ودلالة الرواية لا تكتمل إلا ببنائها العام. وتعتبر اللغة أهم مكون من خلاله تتحدد دلالات النص، فبالإضافة للوظيفة الإخبارية التي تؤديها في الحديث العادي، فإنها في الخطاب الأدبي تؤدي وظيفة جمالية بالإضافة إلى الوظائف الأخرى، لأنّ للعلامات اللغوية القدرة على التحول على مستوى المدلول، لكي يصبح بدوره علامة من نوع آخر، تشير إلى مدلول آخر فيما يعرف بالتحول الدلالي في أنماط المجاز المختلفة، وهذا التحول الدلالي لا يحدث في العلامة اللغوية في حالة إفرادها، ولكنه يتحقق من خلال التركيب الذي يكسب العلامة دلالة لا تكون لها في حالة إفرادها، وهذا التحول الدلالي أيضا هو الذي ينقل النص اللغوي من وظيفة "الأنباء" الاجتماعية، وتجعله يحقق وظائف أخرى أدبية، هذه الأخيرة "الأدبية" نجدها تتجلى أكثر ما تتجلى في الرواية اعتمادا على تحديد ميخائيل باختين للغة الأدبية. وقد صار الاهتمام كبيرا بدور اللغة في الرواية المعاصرة، أكثر من الاهتمام ببنيتها من شخصيات وأحداث وغيرها، على اعتبار أنّ اللغة انتقلت من كونها مجرد وسيلة لنقل المعلومات والأحداث إلى لغة تتمتع بالجمالية والفنية والشعرية، وتخلق معاني وصورًا لم تكن مألوفة من قبل، إنّها اللغة الشعريّة التي تعد لغة تصويرية ليست جافة خشنة، كما تعني أن تكون الألفاظ محملة بشحنات عاطفية تنفثها في تراكيب الجمل، وتحملها الجمل أيضا حينما تتراوح بين القصر والطول، والأساليب الخبرية والأساليب الإنشائية، وأن تشي الجمل أحيانا، وتصرح أحيانا أخرى. حسب حاجة فعل القص، فاللغة الشعرية لغة انزياحية..لغة الخروج عن المألوف، لكن لا يمكن تجزئة النص الروائي، فهو يحمل قيمته من بنائه العام، وكل جزء يكمل الآخر فشعرية اللغة مرتبطة بشعرية الوصف، والمكان والزمان.. وما يحقق شعرية الرواية أيضا المتخيل الذي يعتمد على اللغة كوسيلة للإبداع، وهو على حد تعبير آمنة بلعلى: "كل ما يثير فيها متعة جمالية"، والمادة التخييلية هي تحويل المادة التاريخية إلى مادة متخيلة باعتباره من الأنظمة الدالة التي تعبر اللسان إلى أنساق أخرى تحتويها، وتتقاطع معها بواسطة المتخيل الذي نجده يعطي للرواية أحيانا خصوصية تعرف به، كما يتجاوزها أحيانا أخرى ليكون وسيلة لإثارة أشياء غير موجودة بواسطة اللغة أو محاكاة أشياء موجودة أو إثارة نوع من الإبهامات أو التمثيلات التي تتوجه إلى الأشياء، وتربطها باللحظة التي تتمثلها فيها الذات فتصبح عملا مقصوداً يجسد وعيا بغياب أو اعتقادا بإيهام، فنجد أن تلك العمليّة وثيقة الارتباط بالذهن، فالخيال يعطي للإنسان قدرة على صياغة الأشياء صياغة جديدة ومتفردة. أما المتخيل التاريخي - تقول هرمة - فهو مصطلح أطلقه عبد الله إبراهيم على الرواية التاريخية، واعتبره المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السّرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية رمزية، من خلال الصور الفنية التي لون بها المبدع تلك الحوادث والأمكنة والأزمنة التاريخية وعنصري التشويق والإثارة اللذين يتحققان من خلال الخيال الخلاق وطريقة السرد.