روائيون كانوا أكثرَ شجاعةً من المؤرخين في قول الحقيقة كثيرة هي الرواياتُ العربيّة التي التفتت إلى التاريخ ولكنّ القليلَ منها من قاربته بوعي في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد والمحاضر، علاوة كوسة، عن تجليات التّاريخيّ في الرواية العربيّة، وعن الفرق بين الرّواية التّاريخية وروايةُ التّاريخ، وحدود التداخل بين التاريخ والسرد، وحدود التّعامل مع المادّة التّاريخية في المتون الرّوائية، وحدود المصْلحة بيْن التّاريخ وبين الرواية. وما يضيفه كلٌّ منهما إلى الآخر. وحدودُ التعامل الروائيّ مع التاريخ المحَليّ. وكذا دوافع توظيف التّاريخ واستحضار تفاصيله في الرّواية العربيّة المعاصرة، كما يستعرض بواعثَ النزوع التاريخي، وتجلياتِه، وآلياتِ قراءة الحدث التاريخي روائيا، واستراتيجيات استحضار التاريخ تخييليّا من خلال فنّ الرواية خصوصا، والسّردِ على وجه العموم. علاوة كوسة، أكاديمي وباحث متخصص في الأدب الجزائري، شاعر وقاص وروائي، له مقالات نقدية وقراءات أدبية، وهو من منظمي الملتقى التأسيسي لرابطة القصة القصيرة في سطيف، تحصل على العديد من الجوائز، من بينها: المرتبة الثانية في مسابقة «الشارقة للمسرح» في دورتها السابعة عشر لموسم 2014، كما له عدة إصدارات شعرية وقصصية ونقدية، ففي الشعر له: «ارتعاش المرايا»، «تهمة المتنبي»، وفي القصة: «أين غاب القمر؟»، «هي والبحر»، وفي النقد: «أوراق في الأدب الجزائري»/ دراسة تطبيقية، «القصة القصيرة الجزائرية المعاصرة»، وفي المسرح: «بين الجنّة والجنون»، وفي الرواية: «أوردة الرخام»، و»بلقيس بكائية آخر الليل». حاورته/ نوّارة لحرش اشتغلت في الآونة الأخيرة على موضوعة تجلياتِ التاريخيِّ في الرواية العربية المعاصرة، كيف وجدت هذه التجليات، وكيف وقفت عند حدود الرواية التاريخية ورواية التاريخ؟ علاوة كوسة: إنّ المتتبع للمنتج الرّوائيّ الجزائري والعربيّ المعاصر يلمح ذلك الالتفاتَ الكبيرَ للروائيين-على اختلاف مستوياته- إلى التاريخ، والتصاقَ نصوصهم بأحداثه، وشخصياتِه ومَن صنعوه وصنَعهم، وإلى الجغرافيا التي اتسعت لهذا التاريخ وتفاصيلِه، ويَكتشفُ المتتبعُ لهذه الروايات مدى التحاور الكبيرِ بين السّرد والتّاريخ، واتكاءِ كليهما على الآخر وتماهيه في بنياته، وتطويعِه لخصوصياته، كما تَجسّد ذلك في نصوصِ سليم البستاني، جورجي زيدان-علي الجارم، نجيب محفوظ، واسيني الأعرج، حسنين بن عمو، ومحمد عيسى المؤدب. وإذا حاولنا التوقفَ عند حدود التفاعل بين التاريخ وبين الرواية، سنلمح ذاك التداخلَ بين مفاهيم كثيرة تتعلق بالتجنيس، وظَلَّ الجدلُ قائما بين الدارسين حوْل مفهوم الرواية التّاريخية، وبين رواية ِالتّاريخ، وحول مدى اختلاف التسميتين وتداخلِهما وأوجهِ التضارب بينهما أيضا، لأنّه كما يقول الناقد جمال محمود حجر: «الرواية التاريخية من عمل الروائي، تبدو فيها الذاتية والخيال، في حين رواية التاريخ من عمل المؤرخ تبدو فيها أو ينبغي أن تبدو فيها الموضوعية، والواقعية وهما من عناصر التكوين الرئيسية في العرض التاريخي». ألا ترى أنّ الروايات التاريخية تثير الحاضر بشكل أو بآخر؟ علاوة كوسة: صحيح، وفي هذا السياق يرى «جورج لوكاش» أنّ الروايةَ التاريخية «رواية تثير الحاضر ويعيشها المعاصرون، بوصفها تاريخهم السابق بالذات». كما أنّ الرواية التاريخية، كما يقول نضال الشمالي «هي تفاعل بين الروح التاريخية والأنواع الأدبية، تفاعل يعكس ما خفي سابقا وما غمض لاحقا»، ويربط «سعيد يقطين» بين الرواية التاريخية وبين مدى تعالقاتِها وارتباطاتِها بالأحداث التاريخية الواقعية، وبذلك تسمى رواية التاريخ التي تحفظ صفة المطابقة للواقع مهما تصرف الروائي في سرده تخييليا، لأنّه «كلما كان السرد التاريخي/رواية التاريخ ميالا إلى الحقيقة وسرد الأحداث التي يمكن التحقق من واقعيتها أي مطابقتها للوقائع، كانت الرواية التاريخية ألصق بالتخييل والإبداع السردي»، ولكن جورج لوكاتش لا يشترط هذا التطابق مع الواقع والتاريخ في أحداثه، بل يركز على الجاني الفني التخييلي للرواية التاريخية وفي نظره أنّ «ما يهم في الرواية التاريخية ليست إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث وما يهم هو أن نعيش مرّة أخرى الدوافعَ الاجتماعيةَ والإنسانيةَ التي أدت بهم أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماما في الواقع التاريخي»، وذلك ما يذهب إليه «محمد نجيب لفتة» في معرض حديثه عن تجربة «ولتر سكوت» الروائية، حيث أقرّ بأنّ الروايةَ التاريخيّة هي استعادة تخييلية للتاريخ، فيقول في هذا الشأن «تتناول القصة التاريخية الماضي بصورة خيالية يتمتع الروائي بقدرات واسعة يستطيع معها تجاوز حدود التاريخ لكن على شرط أنّ لا يستقر هناك لفترة طويلة إلاّ إذا كان الخيال يمثل جزءا من البناء الذي يستقر فيه التاريخ»، إذْ يؤكد تخييل التاريخ سرديا في نفس السياق معرجا على مفهوم «الرواية التاريخية هي إعادة بناء خيالية للماضي، تتناول أساسا حياة جمع من الناس وعاداتهم وتقاليدهم»، والرأي نفسه يؤكده سعيد يقطين، فالرواية حسبه «إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخييلية، حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة»، وبذلك تُعدّ الرواية -حسب محمد نجيب لفت- «سجلاّ لحياة الأشخاص أو لعواطفهم تحت بعض الظروف التاريخية»، حيث «يموت مفهوم الزمن ويذوب في مفهوم المكان»، كما يقول عبد الصمد زايد في كتابه «مفهوم الزمن ودلالاته». وللزمن طبعا ارتباط ٌبشخصيات العمل الأدبي وأحداثِه ولغتِه أيضا، وبخاصة في الأعمال السّردية التي يكون فيها عنصرُ الزمن ركيزةً أساسية ينبني عليها السّرد، إذا اتكأ الأديبُ في نصّه على الزمن بوصفه بوابةً شرعية ًللسّيرة الذاتية، وما تمتلكه من شرعية في استحضار الزمن الماضي، ويحتاج الكاتب إلى العودة إلى الماضي الخارجي في بعض المواقف، في الافتتاحية وكذلك في إعادة بعض الأحداث السابقة لتفسيرها تفسيرا جديدا في ضوء المواقف المتغيرة، أو لإضفاء معنى جديدا عليها أو تغير تفسيرها في ضوء ما استجد من أحداث. ومن هذه المنطلقات، نتوقف عند مستويات الحوار المختلفة بين الرّواية كمنظومة سرديّة فنّية تخييليّة، وبين التّاريخ كمعطى واقعيّ مَعِيش، من خلال نصوص روائيٍّة تزاوج بين الفنّين معا، واستعاد التاريخَ برؤى تخييلية. إلى أيّ حد نجح الروائي العربي في امتلاك ناصية التاريخ في المتن الروائي؟ علاوة كوسة: مهما امتدّت أناملُ الروائيين إلى فضاءات جديدة، شاسعة منفتحةٍ على التجريب، وتفاصيلِ العصر الحديثة، بأدوات مستجدّة، فإنّها ستظل تتكئ على التاريخ، مستندةً عليه مغترفةً منه ضاربةً فيه. سيظلّ الروائيُّ يتسلّل من مسامات الذاكرة إلى الأعماق التاريخيّة باحثا، متحققا، مشكاكا، لتبشّر رؤاه الفنيةُ بعدها بإعادة تشكيل لهذا التاريخ وفْق رؤاه، ووفْق ما يريده أن يكون، لا كما هو كائن، أو كما يجب أن يكون. كثيرة هي الرواياتُ العربيّة التي التفتت إلى التاريخ، ولكنّ القليلَ منها -بل النادرَ منها- من استطاعت أن تقاربه بوعي، وحدّة نظرٍ، وذكاءٍ قرائيّ، والنادر جدا منها من استطاعت أن تحييه بعد مماته، وأن تملأ المساحاتِ الشاغرةَ فيه، وأن تنطق بالمسكوت عنه، وتفتح خزائنَه التي ظلت تخبئ، تحتكر، تؤجل، تغتال كثيرا من تفاصيل التاريخ، ومقولاتٍ كان يمكنها أن تصنع مستقبلَ كثير من الشعوب.. هل يعني هذا أنّ الروائي أكثر شجاعة من المؤرخ في التناول التاريخي والحقائق التاريخية؟ علاوة كوسة: كان كثيرٌ من الروائيين -بلمساتهم الفنيّة- أكثرَ شجاعةً من كثير من المؤرخين الذين جبنوا عن قول الحقيقة في منعرجات اعترافية كثيرة، وبذلك أمكن للروائي أن يعتلي صرح التأريخ بأدوات أكثر جمالية وحرية واستشرافا ممن ظلوا يوزعون التاريخَ على الأجيال بالتقسيط المُمل الغامض المكذوب أحيانا، فيما الكذب الفني لا يليق إلا ّبالروائيين والفنانين في مقارباتهم للتاريخ بوصفه معطى إنسانيا ومُلكا مشاعا بين البشرية جمعاء. طبعا كانت بعضُ الروايات التاريخية توظّف جزئياتٍ من التاريخ، وتقتصر في استحضارها على بعض أحداثه، مخافة َأن تُفلت منها القراءةُ والاستحضارُ. وتظلّ طبعا النّصوص الروائية التاريخية الجديرة بالقراءة والاحتفاء والتقديم للقارئ العربي والغربي، هي النصوصُ التي تزاوج بين التاريخيّ والفنيّ، بألفة وفنّ، وتُذيب كليهما في الآخر فلا نكاد نحسّ لحظة َالقراءة بجفاف المادّة التاريخية، ولا بالنشوز الفنيّ. وماذا عن إشكالية التّاريخ مع الجغرافيا/ ذاكرةُ المكان؟ علاوة كوسة: لطالما ارتبط التاريخُ بالأمكنة/الجغرافيا، التي كانت مخازنَ آمنة لأحداثه وشخصياتِه ومقولاتِه وأسرارِه، هذه الأمكنة التي تحيل على حياة الأمم السابقة مهما اختلفت ثقافاتُها ودياناتُها وأعراقُها، فتنْطبع تاريخيا/ماضويا، كما يقول أحمد طالب في كتابه «الالتزام في القصة القصيرة الجزائرية المعاصرة»: «وقد يتخذ فضاء المكان –أحيانا– طابعا تاريخيا في بعض الأعمال الإبداعية فينظر إليه على أساس ارتباطه بعهد مضى». ولطالما كان المكانُ مبعثا للنّبش في هذه المخازن لمراودتها عن كنوزها التاريخية واستنطاقِها والتباحثِ معها في محمولاتها التاريخيةِ المستعصيةِ على الغير، مادام المتوقفُ عند هاته المخازن/الأماكنِ، متملِّكا لأدوات قراءةِ التاريخ وحسنِ استعادته بمنظومة من أدوات الإغراء وأساليبِ الغواية ِالممارسةِ على الجغرافيا، لتنفتح عن تاريخها. لم يكن هذا الوقوفُ بالمكانِ/الذاكرةِ عفويا ولا عرضيا عابرا، إنّما كان محاولة ًللاستعادة والمقارنةِ والتساؤلِ بِحَيرة، وهي مواقفُ تستحضرها النصوصُ الروائية، كما قال إبراهيم عباس، من أجل: «إعادة التذكير بالأحداث الماضية أو المقارنة بين موقعين، أو لرصد وضعية الشخصية في مرحلتين مختلفتين»، وتعكس بذلك فعل الزمن على الجغرافيا ليحفظ التاريخُ هذا الشرخَ الرهيب بين الماضي والحاضر، وانعكاسَه على الذات الإنسانية، التي تتشظى بين تفاصيل التاريخ المرتسمة على هذه الأطلال بفعل الزمن والإنسان. يبدو أنّ الأسئلة في هذا الموضوع ستظل تتوالد وتتناسل أكثر من الإجابات؟ علاوة كوسة: هناك الكثير مِن الدّعاة إلى موتِ التاريخ في هذا العصر، ولهم طبعا فلسفتُهم ومراميهم ومرجعياتُهم، كما أنّ هناك الكثير من النماذج الجديرة بأن يمثِّل هذا النوعَ من الروايات الخالدة بفنها ومحمولاتها ووعيها. لكن تبقى كما قلتِ، الأسئلة تتوالد وتتناسل في هذا المحور، وحتى وإن أجبنا عليها كلها، سنظلّ نتساءل، عن حدود التداخل بين التاريخ والسرد، ودوافع توظيف التاريخ واستحضار تفاصيله في الرّواية العربيّة المعاصرة. وكذا عن استراتيجياتُ استحضارِ التاريخ تخييليّا من خلال فنّ الرواية خصوصا، والسّردِ على وجه العموم. كما سنتساءل هل اعتمدت الرواياتُ العربيّة ُفي تعاملها مع المعطيات التاريخية على الصوت الواحد؟ أم إنّ هناك تعدُّدا للأصوات، ضَمانا لتَعدّد القراءات؟. وإلى أيّ مدى كان الروائيُّ العربيُّ قارئا مغايرا ومغيّرا للتّاريخ؟، وما حدود المصْلحة بيْن التّاريخ وبين الرواية؟ وما الذي يضيفه كلٌّ منهما إلى الآخر؟. ما حدودُ التعامل الروائيّ مع التاريخ المحَليّ، وما قيمةُ الانطلاق من الأنا التاريخيّ إلى الآخر/الإنساني؟، أليست بعضُ الروايات هي بمثابة المحاكماتِ الفنّيةِ للتاريخ بأثر رجعيّ؟. ثم نجيب بنوع من الارتباك والمساءلة أيضا، أمام هذه المعضلة: أليست روايةُ التاريخ/الرّوايةُ التاريخية، صناعة ًجديدةً للتاريخ خارجَ أُطُره الزمانيةِ والجغرافية؟.