فرق تزين القعدات الشعبية في المناسبات والحفلات الدينية الحديث عن المديح الديني أو كما يطلق عليه اسم "لخوان" في منطقة القبائل التي انفردت واختصت بهذا النوع الفني الذي صُنّف مع مرور السنين موروثا ثقافيا لا ماديا تتناقله الأجيال، يدفعنا للحديث عن الطريقة الرحمانية حيث نظمت هذا الموروث الذي تغلغل في الحياة اليومية للسكان، وأصبح أحد الركائز والصور الجميلة التي تعود وتتكرّر في مختلف المناسبات، خاصة الدينية منها. الزائر لمنطقة القبائل خاصة في المناسبات الدينية "المولد النبوي الشريف، عاشوراء، شهر رمضان وبالتحديد ليلة القدر"، إلى جانب مراسم العزاء والجنائز، يستوقفه حضور مجموعة أو فرقة من المشايخ والمريدين بلباس موحد عادة ما يكون باللون الأبيض الذي تتخلّله بعض الألوان خاصة في العمامة، هؤلاء الأشخاص يطلقون العنان لحناجرهم لتقديم مدائح أو وصلات شعرية مرصعة بموسيقى خاصة، تسافر بالمستمع إلى عالم يتجرّد فيه من كل أهواء الدنيا، كونها تجسد الدين والتدين في أسمى معانيه في منطقة القبائل بطريقة سهلة تترجم القرآن ومعانيه. بداية ظهور "لخوان".. «لخوان".. أحد المظاهر التي تشتهر بها منطقة القبائل والتي تعود إلى قرون خلت، ارتبط اسمها بالزوايا التي انتشرت بكثرة ورسمت تقاسيم منطقة الزواوة، إلا أن هذا الموروث الثقافي اللامادي تناقلته الأجيال في البداية من طرف المريدين، ولكن بطريقة غير منظمة، حيث حملوا على عاتقهم ترجمة معاني القرآن رغم عدم تلقيهم للعلم، إلا أن صيتهم قد ذاع كثيرا في المجتمع نظرا للهدف السامي الذي يصبون إلى تحقيقه، ومع مرور الوقت، ظهرت الطريقة الرحمانية، أين تولى مشايخ الزوايا تنظيم "لخوان"، وذلك من خلال شرح معاني القرآن وسرد القصص الواردة فيه وشرح معانيها، الأمر الذي عزّز من قيمة المديح الديني أو "لخوان" في منطقة القبائل والذي ترجمته إحدى الأمثال المتداولة "الشيخ الذي يربي لخوان مثل الشجرة التي يربيها الماء"، حيث أن شيخ الزاوية شخص متعلم ينقل الدين، ويقوم بتبليغ الرسالة "للخوان" الذين ليسوا بالضرورة من الفئة المتعلمة، نظرا لخصوصية المنطقة حينها، حيث كان الاهتمام مركزا على كسب القوت والمعيشة وسط الحقول، الأمر الذي أبعدهم عن الدراسة والتعلم، ولكن وجود مشايخ الزوايا أحدث الفارق في منطقة القبائل، وعزّز بذلك أهمية المديح الديني الذي نظمته الطريقة الرحمانية، ليكون هؤلاء المريدون سفراء لترجمة القرآن ومعاني القرآن إلى مجموعة من المدائح الدينية بطريقة لا تختلف عن طريقة ورودها في القرآن الكريم، خاصة ما تعلّق بالقصص النبوية التي تضفي على قوة الكلام رونقا وجمالا يبحر من خلالها المستمع إلى عالم الروحانيات، مجسّدة العلاقة بين العالم الظاهر والباطن، والعلاقة بين السماء والأرض من خلال موسيقى وتعابير وحركات تجعل الانسان يرتاح ويسلم أمره لخالقه. حناجر تردّد أجمل التعابير في حوار مع رئيس تنسيقية الزوايا لولاية تيزي وزو والمشرف على زاوية سيدي منصور الجنادي، بوعاش ياسين، قال إن المديح الديني "لخوان" كتب عليه الكثيرون مثل يوسف نسيب، مشيرا إلى أن تأثير النص القرآني على المجتمع القبائلي، هو ما ترك المجال لظهور هذا النمط من الغناء المسمى بالمديح الديني، وقد ظهر هذا النمط لوجود قوة الكلمة وثقافة التعلم التي أتوا بها من نصوص القرآن والزوايا، إلى جانب الثقافة الشفوية التي تعتبر طريقة أخرى لنقل المعرفة والعلم والتعلّم، وذلك عن طريق الأمثال، الشعر، الحكايات وهي طرق للمعرفة، يقول المتحدث. «لخوان" في أصل الكلمة هم مريدو الطريقة الرحمانية، وظيفتهم غناء وترديد نوع غنائي يدعى "ايشويقن" الذي اختصت به منطقة الزواوة في أثناء معايشتها لمعاني التصوّف والروحانيات قبل ميلاد الطريقة الرحمانية عام 1749، إلا أن وجود الزوايا التي يعود تاريخها إلى ثلاثة أو أربعة قرون، جعل الإسلام والروحانيات متجذران في منطقة القبائل التي ساهمت فيه جامعة بجاية آنذاك، حيث أدخل "سيدي مدين شعيب الاشبيلي" مفاهيم التصوف بصفة عامة، لتجد الطريقة الرحمانية المجال لتتغلغل داخل المجتمع القبائلي الذي تأصلت وتجذرت فيه، منظمة بذلك أسس المديح الديني "لخوان" الذي ذاع صيته عبر التاريخ، خاصة وأنه يسهل ترجمة النصوص القرآنية والنص النبوي ونقله إلى الأذهان باللسان المحلي لغرس القيم ومعاني قيم القرآن الكريم الذي ليس شعرا، ولكنه لديه عناصر الشعر من قافية وكل ما يرتبط بالشعر. أما ما أعطى للمديح الديني قوة وقيمة، فهو تجذّر القرآن الكريم في بيوت الزواوة، والذي سطع من جبال جرجرة الشامخة المتلألئة بأشعة النور التي زادها جمالا تلك الأصوات الصادحة من مختلف الزوايا عبر حناجر تردد أجمل التعابير التي ترحل بالمستمع إلى عالم فسيح، يفتح المجال للإحساس بالروحانيات والسفر في التجرّد. عند الاستماع للمديح الديني الذي يؤديه "لخوان"، فإن 75 بالمائة من الكلمات عربية، وهي كلمات قرآنية، فهو تعظيم للقرآن الكريم، حيث يحتفظ "لخوان" بالنص القرآني دون تشويه، وباللسان القبائلي عن طريق "اشويقن". لا تخلو أفراح وأقراح العائلات القبائلية من حضور "لخوان" الذين أصبحوا عاملا مهما في منطقة القبائل، لما لها من أهمية كبيرة في المجتمع، بالرغم من اندثار هذا الموروث الثقافي في عديد المناطق بمنطقة القبائل جراء دخول التكنولوجيات وتأثر الشباب بالعلوم، إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأ بالعودة إلى الواجهة، مع إحيائه من طرف العديد من الفرق التي تزين القعدات الشعبية في المناسبات والحفلات الدينية "المولد النبوي الشريف، عاشوراء، الأعياد"، حيث يستمتع الحضور بتلك المدائح الدينية المرصعة بأجمل وأعذب الألحان، التي زينت تلك الكلمات العميقة والقوية التي تجسّد كلام الله ومعاني القرآن الكريم. كما أن المدائح الدينية التي تنشدها "فرق لخوان"، تتعزّز أكثر خلال المأتم والجنائز، أين يحتاج الانسان إلى المواساة لتجاوز ألمه وحزنه، ولترافقه إحدى هذه الفرق طيلة الليل مذكرين إياهم بالآخرة والموت، وأن الانسان ضيف في هذه الدنيا، وهذا لتستكين نفسه ويتجاوز مصيبته، مذكرين الناس بالقضاء والقدر. إرث الزوايا الرحمانية يعتبر المديح الديني "لخوان" إرث الزوايا الرحمانية، تأثر به العديد من طلبة القرآن الذين شدوا رحالهم إلى مختلف الزوايا بتيزي وزو، من أجل حفظ القرآن والتفقه في الدين إلى جانب الإلمام بكل صغيرة وكبيرة وردت في نصوص القرآن الكريم، على أمل أن يكونوا سفراء في قراهم وولاياتهم، ومنها انبثق هذا الإرث الثقافي الذي احتضنته الزوايا، بدليل تبني عديد الطلبة لأسس وخبايا المديح الديني، على غرار الحاج سعيد اث فنيق، مجدد الشعر الديني من ايبحرين قرية "اومقشثوم" ولكن قبل أن يأخذ لقب "اخويني" ومجدد الشعر، كان طالبا في زاوية سيدي منصور، حيث قام بترجمة ما تعلمه من القرآن باللسان المحلي، فالطريقة الرحمانية تربية روحانية وسلوك، ووصف "اخويني" يطلق على الشخص الذي يتميز بالتربية السلوكية والتزكية من طرف الشيخ، فلا وجود له دون شيخ يقوم بتربيته على الخير، النفس النقية، العقيدة السليمة النقية، نشر معالم الدين القويم، فهو كالنواة الذي تدور حوله هذه النجوم الساطعة من "لخوان" يقومون بتبليغ الرسالة باللسان المحلي وبالنظم الشعري، وللوصول إلى مقام "اخويني" الحقيقي يجب أن يكون الشخص على استقامة، في طريق الله وقلبه مليء بالإيمان والوقار، الزهد ومعاني التصوف ليذكروا الناس بالعودة إلى الاستقامة، فهو نوع من الإرشاد الديني الذي ينضم المجتمع، ويحافظ على الشخصية الوطنية والموروث الديني. «مقران اقاوا" عميد المديح الديني بمنطقة القبائل لا يمكن الحديث عن المديح الديني "لخوان" في منطقة القبائل دون تسليط الضوء على أحد الأسماء الساطعة في هذا الموروث الثقافي اللامادي الذي اقترن اسمه باسم الشاعر الملحن "واعلي محند أمقران" المعروف في الساحة الفنية باسم "مقران أقاوا"، والذي ولد في 23 ماي 1929 بقرية "اث عطلي" بالأربعاء ناث ايراثن، والذي يعتبر الأب الروحي لهذا النوع الفني الثقافي. بدأ مشواره الفني في عمر 15 سنة، وفي عمر 20 سنة شد رحاله إلى ولاية بجاية أين رافق الأخوة صادق عبد الوهاب ويوسف أبجاوي، كان منشطا على أمواج إذاعة بجاية، وقدم عدة أعمال فنية رفقة الشيخ نور الدين، وصل رصيده الفني حوالي 500 أغنية، حيث غنى عن الغربة، الحب والوطن ومنطقة القبائل، خاصة مسقط رأسه التي غنى لها من القلب، وما تزال تلك الأغنية راسخة في أذهان محبيه وعشاقه. مقران أقاوا الذي قدم الكثير للساحة الفنية، وجهته ملكة الشعر إلى الغناء الديني التقليدي، ليصدح صوته الرخيم بأجمل المدائح الدينية "أذكار" التي تجسد قصص القرآن وأعمق الأحكام.. قصة يوسف عليه السلام، الاسراء والمعراج.. مسافرا بمستمعه إلى عالم الصمت والروحانيات، ليستوحي من اسمه الثقة، الأمل والاحترام، خاصة وأنه رافق أحزان وأفراح سكان المنطقة والولايات الأخرى التي قصدها مع أفراد فرقته، حيث كان لا يرفض دعوة أو طلب أي شخص أو عائلة تطلب منه الدعم، خاصة في الأوقات المؤلمة، حيث كان يعتبر البلسم الشافي الذي لم ينقطع دواؤه إلى غاية اليوم، ما يزال اسم "مقران أقاوا" يرتبط بهذا النوع الثقافي في منطقة القبائل، فمن يقول المديح الديني يقول "مقران اقاوا" الذي أدخل على هذا النوع الفني بعض الآلات الموسيقية كالدف والمزمار، ما زاد من قيمة هذا الموروث الثقافي الذي تفنن "لخوان" في أدائه عبر العصور، وما يزال قائما بذاته إلى غاية اليوم. موروث ثقافي تتناقله الأجيال تعرف ولاية تيزي وزو عدة فرق تنشد المدائح الدينية "لخوان، فهي منتشرة في عدة مناطق بالولاية على غرار لخوان "ايبحرين" بأزفون، "ثمقوت ناث يحيى"، "تيزي نتلاثة ايواضين"، "اث جناد اث فراوسن الجمعة نسهاريج"، "الاربعاء ناث ايراثن"، كل فرقة تمتع بمدائحها الدينية، خاصة فرقة "ايبحرين" التي اشتهرت نسبة للشيخ "سعيد اث فنيق" الذي أثر في المجتمع وداخل المحيط كونه مجدّد الشعر القبائلي في منطقة القبائل، إلى جانب عديد المشايخ الذين سجلوا أسماءهم بالذهب في تاريخ منطقة القبائل، على غرار الشيخ محند الحسين الذي ذاع صيته وترك بصمته في المنطقة الجبلية وقبائل جرجرة. الموروث الثقافي اللامادي "لخوان" لم يندثر في منطقة القبائل ولن يندثر، لأن الأجيال توارثته عبر العصور، وتناقلته أبا عن جد، حيث نجد الأبناء قد حملوا عن آبائهم وأجدادهم المشعل، لتصدح أصواتهم في مختلف المناسبات الدينية، مرددين أجمل المدائح الدينية التي تعيد الانسان إلى الصواب وتنسيه هموم ومشاكل الحياة، عبر نقل رسالة النص القرآني والنبوي بلسان محلي بقصد الوعظ والارشاد. المديح الديني "لخوان" ليس مجرد تعابير أو كلمات ملحنة، وإنما هو أعمق، حيث يحافظ على الشخصية الوطنية والموروث الثقافي اللامادي في منطقة القبائل التي تصطبغ بهذا الثراء وتمسّكها بالدين الاسلامي وترسيخه وسط الأسرة والمجتمع.