متابعة حيثيات وتطوّرات الأزمة في النيجر يضعنا أمام وقائع ومعطيات كثيرة تتقاطع جميعها في نقطة أساسية وهي إصرار فرنسا، المستعمر السابق، على استعمال كلّ الوسائل والطرق، بما فيها خيار القوّة والسلاح، من أجل الإبقاء على وجودها في هذه الدولة والحفاظ على مصالحها ونفوذها الذي يصارع أمواج الرّفض والشعور المعادي في كامل منطقة الساحل وغرب إفريقيا. رغم أن ما تعيشه دولة النيجر منذ أزيد من شهر يشبه إلى حدّ كبير ما عاشته دولتي مالي وبوركينافاسو قبل أشهر، بل وتكاد الأزمة في نيامي تكون مستنسخة عن تلك التي وقعت في باماكو وواغادوغو، فإن ردّ الفعل الفرنسي يبدو مختلفا تماما ويأخذ منحنى حادّا وتصعيديا خاصّة مع إصرار باريس على رفض سحب سفيرها وعملها على تأليب المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس" ضدّ المجلس العسكري الذي يحكم النيجر، ودفعها لشنّ حرب ضدّه. لقد تعرّضت مالي وبوركينافاسو أيضا إلى انقلابين عسكريين في السنتين الماضيتين، لكن ردّ فعل باريس كان أقلّ حدّة ولم يصل إلى مستوى التّلويح باستعمال القوّة كما يحصل حاليا مع النيجر، ويبدو جليا أن "ثورة "الغضب الفرنسية ضدّ ما يحصل في النيجر، مردّه بالأساس إلى خشية باريس من اتّخاد القيادة الجديدة في نيامي قرارات مشابهة لتلك التي اتخذها العسكر في باماكو وواغادوغو من قطع للعلاقات العسكرية مع فرنسا وإخراج قواتها، ما يعني ضياع آخر مواقعها في حديقتها الخلفية بغرب إفريقيا. حرب بالوكالة من أجل عيون فرنسا الأزمة في النيجر، لم تكن لتأخذ هذا الإتجاه التصعيدي من طرف فرنسا، لو لم تسبقها انتكاستها المريعة في مالي وبوركينافاسو، حيث خسرت باريس الكثير بفعل القرارات التي اتخذتها ضدّها السلطتين الانتقاليتين الحاكمتين في باماكو وواغادوغو، كما أن الصّفعة المؤلمة التي تلقّتها من الشعبين المالي والبوركينابي زلزلت كيانها وأيقظتها على حقيقة صادمة تقول، بأنّ وجودها مآله الإندثار في النيجر مثلما اندثر في مالي وبوركينافاسو إذا لم تتحرّك خلف "إيكواس" وتتدخّل عسكريا لإعادة الرئيس المطاح به إلى السلطة. ومن هذا المنطلق يمكننا ان ندرك الأسباب التي تحرّك باريس لشنّ حرب بالوكالة على النيجر. تحرك "إيكواس" وتبني خيار القوّة من أجل التصدي للمجلس العسكري في النيجر لم يكن قراراً إفريقياً بالمرّة، بل كان قرارا فرنسيا واضحا، الهدف الأوّل والأخير منه هو محافظة المستعمر السابق على نفوذه ومصالحه بالنيجر التي تنتج نحو 7.1% من اليورانيوم على المستوى العالمي، ما يضعها في المرتبة الرابعة عالميًّا، ويُصدَّر هذا اليورانيوم في المقام الأول إلى فرنسا، التي تعد المستهلك الأوربي الأول له لإنتاج الكهرباء. من هذا المنطلق تعتبر دولة النيجر ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لباريس لا توازيها أي دولة أخرى في الساحل، فبفضل اليورانيوم الذي تستخرجه منها (يغطي 35 بالمئة من احتياجاتها) تبقى فرنسا مضيئة، حيث تعتمد الأخيرة على اليورانيوم لتشغيل محطاتها النووية التي تولد 70 بالمائة من الكهرباء. فمن دون يورانيوم النيجر، الذي تستورده بأسعار زهيدة لا تتجاوز 300 مليون دولار سنويا، ستضطر فرنسا إلى البحث عن مصدّرين آخرين، أو استيراد الغاز الطبيعي بأسعار أغلى، وما يتطلبه ذلك من استثمارات جديدة في بناء محطات حرارية. كما أن النيجر تعتبر مركزا لعمليات القوات الفرنسية في الساحل بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو، وتملك قاعدة عسكرية كبيرة في العاصمة نيامي. لذلك لا ترغب باريس في التفريط في النيجر، وترك المجال مفتوحا أمام دول أخرى للاستفادة من مقدّراتها الطبيعية الثمينة، وأيضا من موقعها الاستراتيجي، وفي المحصّلة تبقى دموع باريس على انهيار النظام الدستوري في نيامي، مجرّد بكائيات على انهيار وجودها ونفوذها بمنطقة غرب إفريقيا. بين خيار القوةّ والحل السّلمي الأزمة في مالي التي دخلت شهرها الثاني، ما زالت إلى الآن تتأرجح بين خيار القوةّ والحل السّلمي، ورغم تزايد أعداد الدول التي ترافع من أجل الخيار السلمي التفاوضي وتطرح مبادرات للتسوية، فإن المخاوف من انزلاق الوضع إلى المواجهة المسلّحة في النيجر ما زالت قائمة، ليبقى السؤال الجوهري مطروحا، هل ستمضي " إيكواس" إلى تنفيذ تهديدها بشنّ حرب بالنيابة عن باريس لإعادة النظام الدستوري في نيامي، وفي حال وقعت الواقعة، ألا يشعل التدخّل العسكري منطقة غرب إفريقيا المكدّسة بالأزمات وبسفّاكي الدماء ولصوص الثروات؟ رغم الجهود السلمية التي تقودها الجزائر وأطراف أخرى لكبح أيّ تهوّر غير محسوب العواقب، فإننا نرى فرنسا ترشّ بيد البنزين وبآخر تحمل عود الثقاب، وهي على أتمّ الاستعداد كما يبدو لإشعاله وإحراق المنطقة بأسرها بعدما أصبح وجودها ونفوذها مهددين. وإذا كان البعض يستبعد إمكانية تنفيذ "إيكواس "تهديدها لجملة من الأسباب والعوامل، فإنّ الكثير من المراقبين يعتقدون على العكس تماما، بأنّ الخيار العسكري أصبح مسألة وقت، ما دامت باريس ترفع شعار " علي وعلى أعدائي"، ومادام أن المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا سبق لها وأن تدخّلت عسكريا في العديد من البلدان منذ أن وقّعت في جانفي1999 على بروتوكول للأمن الجماعي، وشكلت في جوان 2004 قوة عسكرية قوامها 6500 عسكري للتدخل السريع في حالة نشوب أي صراع. التدخّل العسكري في النيجر، إذا حصل لا قدّر الله، سوف لن يكون سابقة بالنّسبة للمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، فقد سبق "لإيكواس" شنّ العديد من العمليات العسكرية منذ نشأتها سنة 1975، لكن يبقى الحكم على نجاح هذه العمليات أو نجاعتها أمر مشكوك فيه، فجلّها لم تحقق الأمن والاستقرار المنشودين، بل، وهناك دول دخلت في حروب أهلية استمرّت لسنوات طويلة، كما طالت قوات هذه المجموعة اتهامات بارتكاب خروقات وانتهاكات مريعة. ففي عام 1990، أرسل قادة "إيكواس" قوة عسكرية إلى ليبيريا للتدخل في الحرب الأهلية بين قوات الرئيس "صمويل دو" وفصيلين متمردين، لكن هذه القوات تورطت في سلسلة من انتهاكات حقوق الإنسان، وفقاً لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، ولم تحقق المجموعة المبتغى حيث دام الصراع 13 عاما وانتهى في 2003. أما في عام 1998، فقد تدخلت قوة من مجموعة المراقبة التابعة ل "إيكواس" بقيادة نيجيريا في الحرب الأهلية في سيراليون، ولم تنته الحرب إلا في عام 2000. وبالإضافة إلى هذه الدول، قادت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا تدخلات بالقوّة في العديد من الدول الأخرى، مثل مالي في 2013، وغامبيا سنة 2017، وغينيا بيساو في 2012 و2022، دون تحقيق نتائج إيجابية تذكر. انقلاب ضدّ الهيمنة الاستعمارية في الوقت الذي تقرع فيه فرنسا طبول الحرب وتحشد للخيار العسكري في النيجر، يقف دعاة التسوية السياسية السلمية عند محاذير خيار القوّة وتداعياته الكارثية ليس على الشعب النيجيري فقط، بل على شعوب المنطقة بأسرها. المعارضون للتدخل العسكري في النيجر يسوقون الكثير من المبرّرات لموقفهم، فمنهم من يقول ببساطة أنّ ما وقع في هذه الدولة الإفريقية ليس انقلابا على الديمقراطية أو النظام الدستوري، بل هو انقلاب على الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، والدليل أن شعب النيجر خرج إلى الشوارع لإعلان تأييده للمجلس العسكري الذي بات يقود البلاد، وصدح بأعلى صوته مطالبا برحيل فرنسا إلى غير رجعة. دعاة هذا الموقف لا يجانبون الصّواب في واقع الأمر حتى وإن كان تبرير الانقلاب وتأييده أمر غير سليم ولا صحيح، لأن الصور التي تأتينا من شوارع النيجر تؤكّد بما لا يدع مجالا للشكّ، أن شعب النيجر يسير على خطى شعبي مالي وبوركينافاسو اللذين دعّما تغيير النظام في بلديهما كخطوة تصحيحية لمسار سياسي شوّهته قيود الاستعمار السابق وكانطلاقة نحو الاستقلال الفعلي من هيمنته ونفوذه. وأمام حالة الترقّب التي تثيرها المواقف الفرنسية الشاذة، يبدو خيار القوة، قرارا انتحاريا بكلّ ما يحمله من مخاطر. فالعملية العسكرية في النيجر، قد تتحول إلى حرب إقليمية إفريقية شاملة خاصة وأنّ بعض الدول المجاورة أعلنت اصطفافها إلى جانب نيامي، ووضعت قواتها في حالة تأهّب لدعمها. بل إنّ الأمور قد تتدحرج إلى حرب أوسع، لاسيما وأن المنطقة أصبحت نقطة جذب ونفوذ للعديد من القوى الدولية التي لا يمكنها أن تقف موقف المتفرّج وهي ترى مصالحها مهدّدة. ولا يمكننا هنا أن نغفل عن التهديدات التي تشكّلها المجموعات الإرهابية التي تنتشر بالمنطقة، والتي ستستغل حتما تأزّم الوضع للتمدّد وتكثيف ضرباتها، كما لا يمكننا أن نتجاهل التداعيات الإنسانية، وتأثيرات الحرب على دول الجوار التي تتقاسم الحدود مع النيجر، خاصّة الجزائر، التي نراها تتحرّك في كلّ الاتجاهات لمنع الانزلاق إلى الخيار العسكري الذي كان كارثيا في ليبيا ومالي وفي غيره من الدول. هل "إيكواس " قادرة فعلا على التدخّل؟ قال عبد الفتاح موسى مفوض الشؤون السياسية والسلام والأمن في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، إن قادة الدفاع في دول غرب أفريقيا وضعوا خطة لتدخل عسكري محتمل في النيجر، وإن الخطة تتضمن كيفية وموعد نشر القوات. ومع إبداء "إيكواس "عزمها على التدخل، تطرح علامات استفهام عديدة، هل فعلا بمقدور هذه المجموعة أن تشنّ حربا على النيجر؟ وما حظوظ نجاح هذه الحرب؟ يرى مراقبون أن أي تدخل عسكري من قبل "إيكواس" في النيجر سوف يعتمد بشكل كبير على نيجيريا التي يتألف جيشها من 223 ألف فرد فضلا عن امتلاكه طائرات ومقاتلات حديثة. ويقول خبراء: إن أهمية نيجيريا لا تعود فقط إلى قدراتها العسكرية فقط، بل لأن لها حدودا بطول 1600 كيلومتر مع النيجر أيضا. لكن رغم القدرات البشرية والمادية الكبيرة التي يتمتّع بها الجيش النيجيري، فإن الخبراء العسكريين يعتقدون بأنّ أيّ تدخّل عسكري في النيجر يمثّل تحدّيا لنيجيريا على اعتبار أنّ جيشها منشغل بمحاربة جماعة "بوكو حرام" الإرهابية التي تشكّل منذ سنوات طويلة تحدّيا أمنيا مرهقا لنيجيريا وجيشها، هذا فضلا عن أنّ العديد من دول "إيكواس" حسمت أمرها بعدم المشاركة في أي عملية عسكرية ضدّ النيجر. كما لا يتفاءل كثيرون بانتصار جيوش المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا، لأن أي تدخل عسكري من قبل "إيكواس "في النيجر سيكون مختلفا عن العملية العسكرية التي قادتها في غامبيا، لأن الأخيرة تعد دولة صغيرة ولا تمتلك جيشا قويا، في حين أن دولة النيجر تعد بلدا كبير المساحة وتمتلك جيشا ذو خبرة في القتال وحصل على تدريبات من الجيش الأمريكي الذي ينشر 1100 عسكري على أراضيها. صدمة أخرى في الغابون من خلال هذه المعطيات، تبدو مخاطر الخيار العسكري كبيرة للغاية في النيجر، فهي ببساطة قد تزيد من متاعب المنطقة بأسرها ولن تحلّ مشكلة الانقلابات العسكرية التي نراها تتزايد يوما بعد يوم، فقبل أن نضع نقطة النهاية لمقالنا هذا، صدمنا انقلاب آخر بدولة الغابون الغنية بالثروة النفطية والواقعة غرب وسط إفريقيا، حيث أعلنت مجموعة من كبار ضباط الجيش في ليبرفيل صباح أمس الأربعاء، استيلاءها على السلطة بعد وقت قصير من إعلان مركز الانتخابات فوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة وهو الذي يحكم البلاد بعد وفاة والده منذ 14 عاما. ويعدّ انقلاب الغابون، الثامن في غرب ووسط أفريقيا منذ 2020، وهوّ يستهدف دولة يعتبرها كثيرون بأنّها تحظى بأهمّية خاصة لدى فرنسا، لهذا تتهاطل التساؤلات لمعرفة ردّ فعل باريس، هل سيكون مثل ردّ فعلها على انقلاب النيجر أم أنّ الأمر سيكون مختلفا؟ وفي انتظار المستجدّات، يبقى المؤكّد أن الخلاص من ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقيا، يتطلّب البحث في أسباب هذه الظاهرة المشينة لمعالجتها بعيدا عن خيار القوّة الذي يفاقم الأزمات ولا يحلّها.