العلاقات الجزائرية الصومالية "متينة وأخوية"    وزارة التضامن الوطني تحيي اليوم العالمي لحقوق الطفل    فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة العقيدة العسكرية الصّهيونية بعد "طوفان الأقصى"

في سياق الصراع الاستعماري الطويل الذي شهدته فلسطين، تظل العديد من الأحداث قد سطرت تاريخها، لكن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذت في أكتوبر 2023 تعد من أبرز العلامات الفارقة في هذا التاريخ. تتميز هذه العملية بكونها استطاعت بوسائلها المحدودة وتكتيكاتها البسيطة، أن تحطم الهالة المحيطة بالجيش الصهيوني، وتفوقه التكنولوجي الذي ظل يعتبر أساسا لا يُهز في استراتيجيته العسكرية، وفي ظل الدعم المتواصل والثقة المفرطة التي تلقتها المؤسسة الأمنية الصهيونية من الغرب. وبصفة خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، جاءت هذه العملية لتعيد كتابة المعادلات، وتحدي مفاهيم القوة والضعف. فقد أظهرت المقاومة الفلسطينية قدرتها على التكيف والابتكار: إذ استطاعت أن تحدث زلزالاً استراتيجيا هزّ الجيش الصهيوني وأسسه وعقيدته، ما أدّى إلى سلسلة من التساؤلات عن الاستراتيجيات المستقبلية للصراع، وكيفية تطور التوازنات الجديدة التي قد تشكل وجها جديدًا للمنطقة.
زعزعت عملية "طوفان الأقصى" أسس المؤسسات السياسية والعسكرية الصهيونية على نحو غير مسبوق، فالارتباك الذي أصاب دوائر القرار الصهيونية على المستويين السياسي والعسكري، أصبح واضحا في تردّدها وتخيطها في اتخاذ قرارات استراتيجية، وخصوصًا فيما يتعلق بالاجتياح البري لقطاع غزة، وارتكاب عمليات إبادة ومجازر ضد المدنيين تفتقد فيها أي مغزى عسكري استراتيجي. وعلى الرغم من أن الأحداث الميدانية قد تبدو الأكثر إلحاحا في الوقت الحالي، فإن لتداعيات هذه العملية آثاراً عميقة وطويلة المدى. ستظهر بعد انتهاء الحرب، بغض النظر عن مساراتها المستمرة ونتائجها. وقد تمتد هذه التداعيات لتشمل التحالفات السياسية داخل الكيان، وثقة الفرد الصهيوني بقدرة جيشه، وربما حتى علاقات الكيان الصهيوني الدولية. وفي ضوء كل هذا، يتجدد السؤال عن مستقبل الصراع الاستعماري، وكيفية التعامل مع هذه التحديات في الأيام والسنوات المقبلة.
إن هذه الأزمة تمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ الكيان الصهيوني: ذلك أنها قد زعزعت الأسس والمفاهيم التي استندت إليها العقيدة العسكرية الصهيونية، ولا يقتصر ذلك على مفاهيم عسكرية بحتة، مثل استراتيجية الردع الذي طوره الكيان الصهيوني على مدار عقود، بل يتعداه إلى هز أعمدة هذه العقيدة، بوصفها إحدى الركائز المركزية للحفاظ على مشروع الاستعمار الاستيطاني. فالعقيدة العسكرية - في السياق الصهيوني - لا تقتصر على كونها منظومة عملياتية تضع الاستراتيجيات والتكتيكات الحربية، بل تشكل أحد أبرز مكونات العقلية والهوية والسيكولوجيا الصهيونية. وهذا يعنى أنها تعد إحدى ركائز الايديولوجية الصهيونية المركزية في تشكيل المجتمع الاستيطاني في فلسطين، أو كما وصفها الصهيوني باروخ كيمرلينغ المبدأ التنظيمي المركزي للمجتمع، ولتوضيح ذلك ينبغي إلقاء نظرة عامة على ماهية العقيدة العسكرية الصهيونية ودلالاتها على مستويين:
المستوى العملياتي - الإستراتيجي: تشكّل العقيدة منظومة المبادئ والمفاهيم التي تحدد استراتيجيات الحرب وتكتيكاتها والعمليات العسكرية والنظام الأمني.
المستوى الأوسع من الممكن أن تسمّيه المستوى الوجودي؛ إذ ترتبط العقيدة العسكرية ارتباطا وثيقا بالمجتمع والثقافة والاقتصاد وغيرها من المجالات. فالقيم والمفاهيم العسكرية تتغلغل في مناحي الحياة كلها، بما فيها ما يبدو ظاهريا أنه مدني.
العقيدة العسكرية على المستوى العملياتي - الإستراتيجي
ركّزت التنظيرات المبكرة للحركة الصهيونية على أولوية القوة العسكرية في إقامة وصيانة لدولة استعمار استيطاني لليهود في فلسطين. ومن بين الأفكار البارزة في هذا السياق، تأتي فكرة "الجدار الحديدي" التي طرحها زئيف جابوتنسكي، مؤسس الصهيونية التنقيحية، وترتكز هذه الفكرة على ضرورة السحق العسكري الحركات المقاومة العربية بهدف خلق جدار رمزي ونفسي مفاده استحالة هزيمة الكيان الصهيوني، ومن ثم دفع العرب إلى الاستسلام والتسليم بحقيقة وجود هذا الكيان من خلال توقيع اتفاقيات سلام معه.
ما تزال فكرة الجدار الحديدي تمثل جزءًا أساسيا من البنية الفكرية والاستراتيجية الصهيونية، مثل الإصرار على مفاهيم التفوق العسكري، ومركزية الجيش بصفته ضامنا أساسيا لوجود الكيان واستمراره. وبصرف النظر عن التوجه السياسي، سواء كان يمينيًا أو يساريًا، تبنّت الحكومات الصهيونية المتعاقبة هذا الأسلوب خلال أكثر من سبعة عقود. وتعد هذه المقاربة نقطة مركزية لفهم الديناميات والتفاعلات في الحروب العربية - الصهيونية، وكذلك في اتفاقيات السلام والتطبيع التي تميل دومًا إلى مصلحة الكيان.
يعد دافيد بن غوريون من الناحية العملية، المؤسس الفعلي للعقيدة العسكرية الصهيونية: إذ لا يخلو، تقريبا، أي تقرير فني أو دراسة للاستراتيجيات العسكرية الصهيونية من استشهادات بآرائه ومفاهيمه أو إشارات إليها رأى بن غوريون أن الصراع العربي - الصهيوني بمنزلة صراع وجودي طويل الأمد سيمتد عبر عقود طويلة، وأنه يشمل جوانب الحياة كلها. وفي هذا السياق، يأخذ في الحسبان ما يعتبره تحديات استراتيجية هائلة تواجه الكيان بسبب الموقع الجغرافي الضيق وصعوبة الدفاع عن حدوده المتاخمة لعدة دول عربية، إضافة إلى الفوارق الاستراتيجية الكبيرة بين الكيان والدول العربية من حيث المساحة والسكان والموارد الاقتصادية وعدم التكافؤ في الاستقرار السياسي، وأهداف الجيوش وقدراتها ومستوى الدعم الدبلوماسي. وردا على هذه التحديات، شدّد بن غوريون على مفهوم "الأمة المسلحة" ضمن نهج قائم على التسليح الشامل بهدف الاستعداد الدائم للحرب، وذلك لتعويض الفوارق إزاء الدول العربية وتوفير القدرة على الصمود والانتصار في أي مواجهة مستقبلية.
وعلى مرّ السنين، شهد البعد العملياتي للعقيدة العسكرية الصهيونية عدة تحولات وتعديلات، كان معظمها نتيجة للتجارب والخبرات المستفادة من الحروب التي خاضها الكيان ضد الدول العربية. فعلى سبيل المثال تغير النهج من التركيز شبه الكامل على الهجوم الخاطف والضربات الجوية السريعة، كما حدث في حرب عام 1967 إلى زيادة التركيز على الجوانب الدفاعية مع إعطاء الجانب الهجومي الأولوية النسبية بعد حرب عام 1973 التي كشفت بعض نقاط الضعف في الاستراتيجية العسكرية الصهيونية، وأدت التطورات التكنولوجية أيضا إلى إحداث تعديلات مستمرة في العقيدة، لا سيما في مجالات الاستخبارات والمراقبة والتسليح، إلا أن المبادئ الأساسية استندت دوما إلى الموروث الفكري العسكري لبن غوريون مع إجراء تعديلات تكتيكية، بحسب متغيرات الواقع تعتمد على ثلاثة مبادئ مركزية هي: الردع والإنذار المبكر، والانتصار الحاسم والسريع.
ولقد جرت إعادة إنتاج هذه المبادئ والتشديد على مركزيتها في توصيات لجنة مريدور عام 2006، التي وضعت تقريرا يمكن اعتباره بمنزلة المرجع الأساسي لفهم أركان العقيدة العسكرية في العقدين الأخيرين.
شكّل قطاع غزة بيئة خصية لاختبار وتطبيق المبادئ الثلاثة الأساسية في العقيدة العسكرية الصهيونية: نظرا لاعتباره منطقة معادية، ومصدرا للتدريب على الحروب غير المتناظرة ضد مقاتلي المقاومة، فقد طبّقت في حق القطاع أعنف صور القوة العسكرية بهدف احتوائه، وفرض نماذج تكنولوجية متقدمة من السيطرة الأمنية، غير أن عملية "طوفان الأقصى" ولّدت صدمة كبيرة متعلقة بالمبادئ الثلاثة مجتمعة، وفضحت قصورها. وفيما يلي تعريف موجز بكل مبدأ، وتقييم لأدائه أمام عملية طوفان الأقصى:
المبدأ الأول..الإرهاب بعينه:
يعتمد مبدأ الردع على إظهار التفوق العسكري وسيلة لمنع المقاومة من القيام بأي تحركات، ويمكن أن يكون نشطا من خلال الهجمات الاستباقية، أو سلبيا من خلال إبراز التفوق العسكري، وله جانب نفسي لا يقل أهمية عن الجانب المادي. يضاف إلى ذلك بعد آخر، في التعامل مع الحروب غير المتناظرة، يسمى عقيدة الضاحية، نسبة إلى حرب الكيان على لبنان في عام 2006، وهي تقوم على استخدام القوة المفرطة، والغاشمة وغير المتناسبة على نحو ممنهج ضد البنى التحتية المدنية والسكان مثل المناطق السكنية والمرافق الحيوية من مستشفيات ومدارس، ومحطات كهرباء، وطرق وجسور. كل ذلك من أشكال الردع التي تستهدف تدمير النسيج المدني والاجتماعي والاقتصادي لإرغام السكان على التمرد ضد المقاومة. وخنقهم اقتصاديا، وإذلالهم وكسر إرادتهم. هذا هو الإرهاب بعينه حيث يمكن تطبيق مفهوم الإرهاب بحذافيره على عقيدة الضاحية، بناء على الإجماع على التعريف، الذي يشير إلى ارتكاب أعمال عنف ممنهجة ضد المدنيين من أجل تحقيق أهداف سياسية. التقييم: فشل ذريع لم يفلح البعدان المادي والنفسي للردع في لجم المقاومة، بل حفزاها على ابتكار وسائل وأدوات أدت إلى انهيار هذا المفهوم، وإن اعتبرنا الحروب السابقة على غزة حروبا استباقية مستندة إلى عقيدة الضاحية، فإننا نلاحظ أيضًا فشلًا ذريعا في تحقيق الردع المطلوب عبر إلحاق الضرر بالقدرات التنظيمية للمقاومة، ماديا ونفسيا.
المبدأ الثاني..فشل ذريع:
يجري هذا المبدأ باستخدام نظم رصد واستطلاع متطورة تشمل الأقمار الصناعية، والطائرات من دون طيار، والاستخبارات البشرية والتكنولوجية. على نحو تعمل فيه كلها معا لتوفير صورة واضحة للتهديدات المحتملة، وقد مني بفشل ذريع لم يتوافر للاستخبارات الصهيونية، ولا لأدوات التجسس والرصد المتطورة، أي إشعار. حتى لو كان هامشيا عن التخطيط والتحضيرات المسبقة لهذه العملية، والتي يعتقد أنها كانت قيد التطوير خلال سنوات عديدة، وحتى الأمريكيون أنفسهم قد أعلنوا أنهم لم يمتلكوا أي إشعار عن عملية مقبلة في الأفق. بل إن الأمر على العكس من ذلك فقد استندت تقديرات الاستخبارات الصهيونية إلى مؤشرات خاطئة جعلتها تستبعد احتمالية قيام المقاومة بأي تصعيد، وخاصة بعد امتناعها عن الانضمام إلى المواجهة ضد الكيان في الحرب الأخيرة.
المبدأ الثالث..بعيد المنال:
يستند هذا المبدأ إلى عقدة مفادها أن الكيان لا يملك الامتياز الديموغرافي والجغرافي لتحمل حرب طويلة الأمد. ومن ثم، يجب أن يتحقق انتصارا حاسما ينهي الحرب بسرعة ويحقق أهدافها السياسية والعسكرية، ويتطلب هذا العنصر أيضا نقل المعركة إلى أرض الجهات التي تنطلق منها المقاومة، وقد مني هذا المبدأ أيضا بفشل ذريع، لا يتوافر انتصار حاسم أو سريع، سواء كان ذلك في هذه الحرب أو الحروب السابقة، ومع أن الحرب بدأت داخل الأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها الكيان، فإن نقلها إلى غزة لم يحقق أي إنجاز بالمعنى العسكري. وبحسب التصريحات الصهيونية، فإن الحرب ستكون طويلة، وقد تستمر عدة أشهر، وهذا ينفي هذا المبدأ الاستراتيجي للعقيدة العسكرية الصهيونية.
العقيدة العسكرية على المستوى الوجودي
تأسّس الكيان على إطار مؤسساتي يربط ربطا وثيقا بين العسكرية والقومية اليهودية، مشكّلة عقدًا اجتماعيًا معسكرا بين الدولة الاستعمارية الناشئة والمستوطنين الصهاينة، وفي قلب هذه الديناميكية، يقع الجيش الصهيوني الذي نشأ من إرث الميليشيات الصهيونية التي ارتكبت مجازر التطهير العرقي في فلسطين خلال النكبة في عام 1948.
مقارنة بالدول الأخرى التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يحتل الجيش الصهيوني مكانة بارزة على نحو غير اعتيادي، يمارس من خلالها تأثيراً بالغا: ليس فقط في مسائل الأمن وصناعة الحرب، بل أيضًا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية وغيرها. وعلى عكس النظريات التقليدية للعلاقات المدنية - العسكرية التي غالبًا ما تضع حدودا واضحة المعالم بين المجالين العسكري والمدني من حيث البنية والوظيفة والرمزية، تختفي الحدود بين ما هو عسكري وما هو مدني في الحالة الصهيونية.
تعتبر المؤسسة العسكرية قناة حيوية للتوجيه الأيديولوجي والانخراط المجتمعي، مُشكّلة فضاءات متنوعة تمتد من التعليم إلى القضاء وبناء المستوطنات والإعلام والتنمية الاقتصادية وإدماج المهاجرين اليهود، مدمجة بذلك نزعة العسكرية في الوعي الجمعي والقيمي والهوياتي للصهاينة، ويعبر عن مستوى التكامل العالي بين الجيش والمجتمع باستمرار في استطلاعات الرأي العام. فوفقا لاستطلاع أجراه معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب في عام 2022، لتجاوز الثقة العامة بالمؤسسة العسكرية إلى حد بعيد الثقة بالمؤسسات الحكومية الأخرى؛ إذ حصل الجيش والموساد على تصويت بنسبة 76 في المئة، في حين لم تبلغ نسبة الثقة العامة بالحكومة إلّا 27 في المئة، تليها الشرطة بنسبة 31 في المئة، والمحكمة العليا بنسبة 41 في المئة. ولهذا السبب، يتصدر الكيان تصنيفات الدول الأكثر عسكرة في العالم منذ تأسيس مؤشر العسكرة العالمي، وفي المجتمع الصهيوني، وهو مجتمع متنوع ومعقد توازن العقيدة العسكرية بين العناصر الاجتماعية المتناقضة المشكلة للنسيج الاستعماري - الاستيطاني: فهو مجتمع يواجه العديد من الانقسامات الداخلية مثل الخلفيات الإثنية والعرقية والثقافية المتنوعة لليهود (وهذا الأمر ينعكس على البنية الطبقية التي تصب في مصلحة اليهودي الأشكنازي)، إضافة إلى الصراع بين المجتمعات العلمانية والدينية داخل الكيان. وبهذا تمثل العقيدة العسكرية نوعا من "المذهب الوطني" لجسر الفجوات الاجتماعية والثقافية، وخصوصا من خلال تحديد العدو الآخر لخلق حالة دائمة من التهديد الخارجي وعدم الاستقرار والتوتر والصراع وسيلة لتعزيز الهوية الاستعمارية وتماسكها الداخلي.
في الجانب الاقتصادي، تظهر أهمية دور "اقتصاد الحرب" على نحو بارز. فحين نتحدث عن النفقات العسكرية. نجد أنها تحتل موقعا ريادياً على الساحة العالمية بالنظر إلى نسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تقتصر هذه النفقات على التكلفة المباشرة للأسلحة والمعدات، بل إنها تشمل الأبحاث والتطوير والاستثمار في البنية التحتية العسكرية. ومن الجدير بالذكر أن في الكيان مجمعًا صناعيا عسكريا يمتد ليشمل مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية، وهذا المجمع ليس مركزا للإنتاج والتصنيع فحسب، بل إنه يعكس التداخل العميق بين القطاع الخاص والجهاز العسكري أيضا. ويتضح هذا التداخل من خلال الرابط الوثيق بين النجاح في إدارة الأعمال والعلاقات المباشرة أو غير المباشرة بالمؤسسة العسكرية،وهذا الأمر ليس بجديد، خاصة في قطاع التكنولوجيا العالية، حيث يسجل حوالي 90 في المئة من العاملين فيه خبرات وخلفيات عسكرية. وهذا القطاع في حد ذاته يمثل محركا اقتصاديًا مهما، إذ يبلغ نحو 15.3 في المئة من الإنتاج المحلي. وفضلا عن ذلك، يعد من القطاعات الرائدة في توليد الإيرادات، فهو يشكل نسبة تصل إلى 54 في المئة من التصدير الخارجية.
لعل أبرز ما أنتجه التداخل بين قطاعي الجيش والتكنولوجيا في الكيان، المرتبط مباشرة بغزة، ما يعرف ترويجيا ب "السياج الذكي"، الذي عطلته المقاومة الفلسطينية واخترفته كليا. ويُعد هذا السياح تجسيدا لمفهوم الجدار الحديدي ببعديه المادي والنفسي لكونه يمثل أعتى صور الردع الإلكتروني في العالم، وأكثر تمثيلات الحصار عنفا وفتكا بالسكان. ولا يقتصر دور هذا السياج على الردع، بل إنه مصدر هائل لاقتصاد الحرب الصهيوني، إذ يبيع الكيان هذا النموذج لأكثر من 100 دولة.
وفي تصريح لإحدى الشركات المنتجة، وصفت غزة بأنها "صالة لعرض منتجات السياج الذكي، حيث يقدر العملاء أن هذه المنتجات جرى اختيارها في المعارك".
ويتألف هذا النظام الأمني المعقد من منظومة تقنية متكاملة من الكاميرات وأجهزة الاستشعار والرصد البرية والبحرية والجوية، إضافة إلى "نظام الرؤية والرماية" الذي يسمح باستهداف الأهداف تلقائيا، ومدرعات آلية مسلحة برشاشات يجري تطويرها واختبارها على الفلسطينيين قبل تصديرها. وقد جرى اختبار نظام الرؤية والرماية أول مرة تجاه مسيرات العودة الكبرى السلمية التي كانت تنطلق خلال سنتين (2018- 2019) كل جمعة، حيث كانت الأسلحة الأوتوماتيكية ترصد المتظاهرين وتطلق النيران تلقائيا ولاختبار دقة هذا النظام، استهدف إطلاق النار الشباب المتظاهرين في منطقة الركبة؛ ما حوّل مئات منهم إلى مقعدين.
لقد كشفت عملية "طوفان الأقصى" هشاشة الاستراتيجية الصهيونية في الردع التكنولوجي، فباستخدام تكتيكات بسيطة نسبيا، تمكن المقاتلون الفلسطينيون من اختراق السياج الإلكتروني عند عدة نقاط، معطلين يذلك بنيته التحتية بفاعلية. وبعد أن كان ينظر إليه على أنه حاجز لا يمكن اختراقه، أصبح هذا السياح الأمني المكلف غير ذي جدوى؛ ما سمح للمقاتلين الفلسطينيين بالدخول، من دون عوائق تقريبا، إلى مناطق تحت السيطرة الصهيونية. لقد فجر هذا الحدث وهو عدم قابلية الكيان للاختراق وتفوقه التكنولوجي، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤثر بعمق في الترويح الدولي لتكنولوجيا الأمن الصهيونية، ومن ثم إلحاق خسائر اقتصادية كبيرة في هذا القطاع الاقتصادي الحيوي.
خلاصة
لم تكن عملية "طوفان الأقصى" مجرد فصل جديد في تاريخ الصراع الاستعماري بين المقاومة الفلسطينية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل كانت محطة فارقة تنبئ بنقلة نوعية في الأوضاع الإقليمية إن فشل مفهوم "الجدار الحديدي" - الذي شكل عنصرًا أساسيا في استراتيجية الكيان لتأمين وجوده - سيترك أثرًا معمقا في العقيدة العسكرية الصهيونية، على المستويين العملياتي والوجودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.