أكد الباحث بمركز الجزيرة للدراسات، الجزائري الحواس تقية، أن المقاومة الفلسطينية نجحت في شنّ هجوم مباغت داخل الأراضي المحتلة، حقق إنجازات غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني، وقال في مقال تحليلي نشر بموقع المركز، إن "طوفان الأقصى" ضعضع أركان الإستراتيجية الصهيونية القائمة، وأدخلها في مرحلة التيه. يرى الباحث الحواس تقية أن الهجوم الكاسح غير المسبوق الذي شنَّته كتائب القسام، في السابع من أكتوبر الجاري، ضعضع الركائز التي قامت عليها الإستراتيجية الصهيونية في التصدي للمقاومة منذ انسحاب الكيان الصهيوني من القطاع في 2005، ويتوقّع الباحث أن يكون هجوم الفلسطينيين المبهر قد "هدم الاستراتيجية بالكامل". وقال تقية، إن هذه الإستراتيجية "توصف عادة بإستراتيجية "جز العشب"، أي جز قدرات المقاومة حتى تظل متواضعة، وتناظرها جملة قالها جنرال صهيوني، وهي: "دَقُّ عظام حماس لكن دون إدخالهم المستشفى". وتعني هذه الإستراتيجية جعل المقاومة أضعف من أن تمثل تهديدًا حقيقيًّا للكيان الصهيوني، بينما تحتفظ بالقوة الكافية التي تكفل لها السيطرة على القطاع حتى تديره وتتحكم في المقاومين فيه، وتمنع نشوء فصائل مسلحة. احتواء القطاع يقول تقية، إن الإستراتيجية الصهيونية ترتكز على مفهوم "الاحتواء" وإبقاء الصراع مع فصائل المقاومة الفلسطينية في مستوى التوتر المنخفض. وقد اعتمد الكيان لتطبيق ذلك على عدة تدابير: الهجمات الدورية على المقاومة الفلسطينية في غزة لإنهاك قدراتها، ومنعها من مراكمة التسلح أو تطويره إلى حدّ لا تستطيع التصدي له، واغتيال قادة المقاومة، لإحداث خلخلة في بنيتها، وفرض حصار خانق على القطاع ببناء جدار، طوله 65 كم، من جهة الحدود، بينما تتكفل السلطات المصرية ببناء جدار طوله 14 كم، من جهة حدودها، والاعتماد على هذا الحصار لمنع دخول الأسلحة إلى القطاع، والإشراف الصهيوني المباشر على تدفق الأموال إلى قطاع غزة، وتحديد جهات صرفها كي لا تمول تسلح فصائل المقاومة، وتشغيل فئات من سكان القطاع حتى تكون مصلحتهم في بقاء الوضع القائم، وتوفير موارد مالية ل«حماس" قد تغريها بمنافع التعايش مع الحصار. تعمل هذه الإستراتيجية يقول تقية - على إبقاء الصراع مع حماس في مستوى التوتر المنخفض، فالكيان الصهيوني اعتاد على رشقات المقاومة الفلسطينية التي تحدث في كل مرة يهاجم فيها الكيان قطاع غزة لاستنزاف قدرات المقاومة، وتنتهي جولة القتال - كل مرة - بالعودة إلى الوضع القائم منذ 2005. وكان الكيان الصهيوني وفق تقية - يعتقد أن هذا الإستراتيجية ستجمد الوضع في غزة وتمنعه من الخروج عن السيطرة، وقد تعزّزت هذه العقيدة الإستراتيجية باعتماد الكيان على تقنية الذكاء الاصطناعي في تتبع التغييرات في قطاع غزة بمعالجة الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية كل بضعة دقائق، لالتقاط الإشارات عن التحركات التي قد تشكِّل تهديدًا له، علمًا بأن قطاع غزة هو المنطقة الأكثر تصويرًا في العالم. لم تجمِّد هذه الإستراتيجية الوضع في غزة والمقاومة يقول تقية - بل إنها جعلت المقاومة تبحث عن بدائل لفكِّ قيود الاحتواء الصهيوني، فاعتمدت على نفسها في تصنيع الصواريخ والطائرات الصغيرة المتفجرة، والمناطيد الطائرة، والدرونز.. لم تحدث هذه التطويرات في لحظة واحدة، بل أخذت سنوات، يمكن تتبع مستوياتها بالمقارنة بين مدى صواريخ المقاومة في السنوات الأولى التي لم يكن يتجاوز مداها 2 كم، والصواريخ الحالية التي يصل مداها تل أبيب. كذلك، حمت المقاومة نفسها من الهجمات الصهيونية، كما تمكّنت من الإفلات من رقابة أجهزة التجسس الصهيوني ببناء شبكة أنفاق تحت الأرض، جعلت الكيان عاجزا عن استنزاف قدرات المقاومة، وتتبع تحركاتها، وحال هذا التكتيك دون إقدام الكيان الصهيوني على اجتياح بري لغزة؛ لأن قواته تفتقد إلى الأفضلية العملياتية، وطالما ظلت هذه الشبكة تحت الأرض مأوى للمقاومة، فإن إستراتيجية الاحتواء الصهيونية ستكون فاقدة للصلاحية. العمى الإستراتيجي.. المفارقة يحدّدها تقية في استراتيجية الاحتواء الصهيونية التي لم تخفق في وقف تحسن قدرات المقاومة فحسب، بل إنها أصابت الكيان الصهيوني بالعمى الإستراتيجي؛ لأنها جعلت القيادة الصهيونية تعتقد أن إقدام المقاومة على اجتياح مناطق غلاف غزة، أمر مستحيل لافتقادها القدرات اللازمة، وأن الوضع في غزة هادئ؛ لأن الذكاء الاصطناعي لم يرسل تحذيرات عن تهديدات يكون قد استنبطها من البيانات الهائلة التي يعالجها عن القطاع، علاوة على أن سلوك حماس السائد يدل على أنها لم تخرق قواعد الاشتباك التي فرضتها إسرائيل خلال 18 سنة، كدليل موثوق على أن إستراتيجية الاحتواء وضعت المقاومة تحت السيطرة. لكن، كما جرت العادة في تاريخ الإستراتيجية، تقع المباغتة دائمًا من الاحتمال الذي يعد مستحيلًا، وتمثل تقية عن ذلك بهانيبال القرطاجي الذي باغت روما من جبال الألب، بعد أن توطن في نفوس الرومان بأن السلسلة الجبلية كانت تحميهم، باعتبارها درعًا يستحيل اختراقه. كذلك، اخترقت المقاومة حاجزين كان الكيان الصهيوني يعتقد أنه من المستحيل اختراقهما، وهما: الجدار العازل والحاجز النفسي الذي سعى الكيان بحروبه المتتالية على القطاع إلى ترسيخه في نفوس الفلسطينيين حتى يتفادوا مهاجمتها خشية من عقابها. لهذا، يواجه الكيان الصهيوني معضلة إستراتيجية لا يمتلك تصورًا أو عقيدة للتعامل معها، وهي كيف يمكن القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة دون اجتياح القطاع حتى لا يتكبد خسائر كبيرة في أرواح قواته، ودون السيطرة عليه حتى لا يتحمل إدارته والتكفل باحتياجاته وإبقاء قواته هناك عرضة للاستنزاف، والتوصل إلى إجهاض كل مقاومة للاحتلال الصهيوني، أو كما وصف محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الوضع بأنه أرخص احتلال في التاريخ؛ لأن الكيان الصهيوني ينعم بمكاسبه وتتحمل السلطة الفلسطينية تكاليفه. خيارات بين السيء والأسوأ لا توجد أمام الكيان الصهيوني إلا خيارات سيئة لا تحقق هدفها الإستراتيجي في قطاع غزة، وهو جعلها ترضى بالأمر الواقع. ذلك أنها ستضطر إلى اجتياح قطاع غزة برّا للإطاحة بالمقاومة، واستنزافها، لكن بنية قطاع غزة السكانية، الأكثر كثافة سكانية لكل كيلومتر مربع في العالم، ستجعله يفقد أفضليته، لأنه لن يستطيع استعمال السلاح الجوي حتى لا يقصف قواته الموجودة بالقطاع، ولا يستطيع استعمال الدبابات لأن شوارع غزة ضيقة، ثم إن الدبابات ستكون أسفل البنايات وعرضة للهجمات بالمتفجرات والعبوات الحارقة والمفخخات، ولا يستطيع الكيان الصهيوني استعمال المدفعية الثقيلة؛ لأنه قد تقصف أيضًا قواته، وسيضطر جنوده إلى القتال المباشر بالأسلحة الخفيفة، فيتعادلون مع مقاتلي المقاومة، لكن مع أفضلية للمقاومة التي تقاتل في حاضنة شعبية مساندة، بينما يقاتل الجنود الصهاينة في بيئة معادية، علاوة على أن المقاومة قد تكون جهزت مسرح القتال سواء فوق الأرض بوضع كمائن وتفخيخ مسالك ومواقع، ومن تحت الأرض بتجهيز منافذ للأنفاق الأرضية تنقض منها قوات المقاومة على القوات الصهيونية للقضاء عليها أو سحبها إلى الأنفاق لتضاف إلى الأسرى الصهاينة. كما أن عامل الوقت لن يكون في صالح الاجتياح؛ لأن بقاء القوات الصهيونية الطويل يجعلها مكشوفة في باقي الجبهات، خاصة الجبهة الشمالية، وقد تستغل إيران ذلك لتقوية مواقعها في سوريا، فتدفع بكميات كبيرة من الأسلحة إلى حزب الله، لا يستطيع الكيان الصهيوني اعتراضها هذه المرة، حتى لا يتعرض لعقاب من حلفاء إيران في الشمال. مع افتراض أن الكيان الصهيوني سينجح في اجتياح غزة، فلن يستطيع ضمان فرض الأمر الواقع؛ وهنا يقول تقية - يتضح أن الجانب العملياتي قد يكون من المتعذر نجاحه في تحقيق نتائج عسكرية تكتيكية حاسمة، وأن الجانب الإستراتيجي وهو إقامة نظام يحقق هدف الكيان الصهيوني بالقضاء على المقاومة، قد يكون أيضًا متعذرًا، فيظل الكيان بذلك في مواجهة معضلة غزة. ومع أن الجانب التكتيكي مهم، إلا أنه أقل أهمية من الجانب الإستراتيجي، وهو الهدف النهائي من الحرب.