كانت شارة الصليب الأحمر واحدة من أهم الابتكارات التي جاءت بها اتفاقية عام 1864، وظلت منذ ذلك الحين وما تزال حتى الآن، مثار مناقشات وتساؤلات وخلاف في الرأي حول طبيعتها وأهدافها والأشخاص المخولين بالحصول على حمايتها والقواعد التي تحكم استخدامها، ولعبت شارة الصليب الأحمر، شأنها في ذلك شأن شارة الهلال الأحمر، دوراً حاسماً في تطبيق وتنفيذ القانون الدولي الإنساني، ويمكن القول أيضاً إنّ قانون المنازعات المسلحة يعتمد بشكل كبير على الاحترام الذي تحظى به الشارة والأحوال التي تستخدم فيها بشكل قانوني، ويقصد بالاستخدام الذي لا يرخص به القانون الدولي الإنساني للشارة هو التقليد والاغتصاب والغدر، فالتقليد يتمثل في استخدام شارة يقع الخلط بينها وبين شارة الصليب الأحمر نتيجة التشابه في الشكل أو اللون، أما الاغتصاب فهو استخدام الشارة من طرف هيئات أو أشخاص لا يحق لها استخدامها، أم الغدر فهو استخدام الشارة في وقت الحرب لحماية مقاتلين أو معدات عسكرية ويشكل هذا الاستخدام جريمة حرب". الحلقة الثانية ولقد أدرك المجاهدون الجزائريون، وفهموا نوايا هؤلاء العاملين وهدف مهمتهم، لهذا ساعدوا موظفي ومتطوعي اللجنة الدولية للصليب الأحمر على الوصول بأمان إلى كلّ محتاج من الأشخاص والمدنيين حتى في خضم الحرب والأزمات التي كان يعيشها الثوار، لأنه قد ينجم عن إساءة استخدام الشارات تعريض وظيفتها الحمائية للخطر أثناء النزاع المسلح، خاصة أنّ الأطراف المتحاربة وحملة السلاح يفقدون الثقة فيما ترمز إليه هذه الشارات، وتؤدي إساءة الاستخدام إلى النيل من مكانة الشارات أثناء النزاعات المسلحة أو في أوقات السلم، فضلا عن إعاقة وصول الخدمات الطبية وموظفي ومتطوعي الصليب الأحمر بشكل آمن إلى الأشخاص والفئات المتضررة أو تعريضها للخطر أثناء عمليات الإغاثة. ولم تنحرف ثورة التحرير الجزائرية طيلة فترة الكفاح المسلح ضدّ المستعمر، عن القاعدة التي توجب احترام وحماية أفراد الخدمات الطبية أو الهيئات الدينية وسيارات الإسعاف، وكذلك الوحدات ووسائل النقل الطبية الأخرى، والتي توجب احترام شارة الصليب الأحمر التي هي رمز للحماية في كل الظروف، كما أنّها تقيّدت بكلّ القواعد المقررة في الملحق رقم 1 بشأن اللائحة المتعلقة بتحقيق الهوية الخاصة بالأفراد المدنيين الدائمين في الخدمات الطبية والهيئات الدينية، حيث أنه لم يثبت، ولا مرة واحدة، أن هاجمت الثورة هذه الوسائل وأفراد الخدمات الطبية وغيرها، سعيا لاحترام القانون الدولي الإنساني، وكفالة لممارسة هذه الهيئات لمهمتها تجاه المدنيين وأفراد الشعب الذين يسعون لتحريره من هذا المستعمر؛ ذلك أنه منذ بداية الثورة تعامل المجاهدون مع هذه المسائل بجدية سعيا لعدم تحقيق الغدر والتزاما منهم بقواعد الدين الإسلامي، وقواعد القانون الدولي العربي ذو الصلة، خاصة أنّ استعمال الشارة قد يحدث الالتباس والخلط وتكون مستهدفة خاصة أنّ عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر كان في خدمة المواطنين الأبرياء العزل لا غير، وهو ما انعكس فيما بعد على اعتراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر بذلك، والعمل مع الثورة التحريرية على الانضمام إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949. ولم تهاجم قوات جيش التحرير المستشفيات ووسائل النقل الطبية والإغاثة الفرنسية التي كان استخدامها مقتصرا على توفير العلاج والدواء، فضلا عن تأمين الثورة الحركة لموظفي الصليب الأحمر الدولي في المعارك، خاصة مع اتساع دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر إبان الثورة التحريرية في فرض مجال واسع لتدخلها، والرقابة على كلّ أنواع الممارسات والانتهاكات للقواعد الأساسية للقانون الدولي الإنساني، سواء ما تعلق منها بالضحايا المدنيين أو المقاتلين المصابين، ولدى اطلاعها على ظروف الاحتجاز تنامت علاقة الثورة باللجنة الدولية للصليب الأحمر، مما انعكس إيجابا على متابعة مصير السجناء وأسرى الحرب والمحتجزين في المعتقلات وتقديم تقارير بصفة دورية على الوضع الإنساني لهم. ولم يستخدم جيش التحرير الوطني شارة عمال الإغاثة من أجل الغدر بالعدو، وسمح ثوار جيش التحرير في الأراضي التي كانت تحت سيطرتها بتموين دائم للسكان المدنيين وحمايتهم امتثالا لقاعدة أساسية في القانون الدولي الإنساني توجب على أطراف النزاع بأن يكفلوا التموين بالمنتجات الأساسية لبقاء السكان المحليين المقيمين في الأراضي التي تهيمن عليها، وأن تسمح بمرور المساعدات التي لا غنى عنها والمخصّصة لسكان الأراضي التي يهيمن عليها الطرف الخصم، خاصة أنّ شهادة عديدة أكدت أنّ المجاهدين كانوا يوزعون الغنائم من الأكل واللباس التي يتحصلون عليها من العدو على القرى والمداشر وفقرائها. وحرص جيش التحرير على أن يجري في المناطق التي تسيطر عليها القيام بأعمال الغوث للمدنيين بدون تمييز، وتوزيعها بحسب الأولويات بالنسبة لفئات الأشخاص كالأطفال وأولات الأحمال وحالات الوضع والمراضع الذين هم أهل لأن يلقوا معاملة مفضلة أو حماية خاصة، خاصة أنّ هذه الفئات هي من الشعب الذي يدافعون عن قضيته العادلة، كما كانوا يعلمون أهمية حماية هذه الفئات في حالات الحروب والنزاعات ومدى معاناتهم، رغم خطورة كلّ ذلك في الحرب مع فرنسا، خاصة أنّ هذه الالتزامات تتفق بين القانون الدولي الإنساني والدين الإسلامي. كما أنّ جيش التحرير الوطني، جيش تميز بما قام به من أعمال إنسانية تتوافق وما تطلبه القوانين الدولية وذلك من خلال عنايته بالأسرى والسهر على صحتهم، بل إنّه ذهب إلى أبعد من ذلك في كثير من الأحيان، حيث أطلق سراح عدة مساجين أسرى أدلوا بشهادات حية على ما يتصف به جيشنا من رحمة وإنسانية وعدل، ولنا عدة أمثلة على المعاملة الحسنة التي كان يتمتع بها الأسرى الفرنسيون أثناء تواجدهم في قبضة مجاهدي الثورة التحريرية، ومن بين الاعترافات التي نشرها الأسرى الفرنسيون في أوساطهم الشعبية أنّ "جيش التحرير يقدّم لهم الأكل، وأنّ أكلهم كان جيدا رغم نقص اللحم، وعندما تطلب الزيادة لا يرفضون أبدا وكانوا يحترموننا حقا ويحدثوننا عن استقلال الجزائر ولكنهم لا يتلفظون أبدا بكلمة ضدّ فرنسا.. إنّ جنود جيش التحرير شبان متفائلون يستقبلون الحياة بانشراح. ولقد كان ضباطنا الفرنسيون يقولون لنا في الثكنات إنّ جنود جيش التحرير لا يجدون ما يأكلون ويتغذون على الأعشاب أو الجذور، ولكننا وجدنا الطعام ودهشنا من المستوى الرفيع في التنظيم الذي لم نكن تتصوره على الإطلاق، كما أننا لم نتعرض أبدا للشتم أو الإهانة، ولم يستعمل ضدّنا أيّ ضغط مادي أو معنوي، وكان هؤلاء الرجال الذين يعاملوننا بمنتهى الطيبة والروح الإنسانية مع أننا خربنا ديارهم وقتلنا عائلاتهم، وإذا قارنا بين معنويات الجيش الفرنسي المنهارة جدا فهو لا يحارب في سبيل مثل عليا أو هدف معين، وهم يعلمون أنّ الحرب التي يدفعوننا إليها تقوم على الظلم، وكثيرا ما يطلق جندي رصاصة على فخذه لكي لا يشارك في العمليات". التقيّد بنشر القانون الدولي الإنساني تظهر أهمية نشر القانون الدولي الإنساني باعتباره التزاما قانونيا وتدبيرا وقائيا من خلال معرفة أطراف النزاع بالحقوق الواجبات الموجودة فيه، لذا يجب على جميع الدول الأطراف السامية المتعاقدة وأطراف النزاع أن تعمل على نشر هذا القانون على أوسع نطاق ممكن وعلى كلّ الوحدات والأفراد زمن السلم والنزاع المسلح مع إمكانية امتداده حتى بعد انتهاء النزاع، وأن تشمل عمليات النشر جميع الأوساط المدنية والعسكرية بمختلف تخصّصاتها ومستوياتها وأعمارها ورتبها مع ضرورة اتخاذ كافة الأساليب والوسائل الكفيلة لذلك، كالترجمة، والمواءمة والتعليم والتعليمات، الأوامر واللوائح العسكرية والإعلانات، وسائل الإعلام ودور العبادة لما لهذه الأخيرة من أهمية في هذا المجال، ذلك أنّ النزاع المسلح لا بد له من قيود وضوابط معلومة لدى الجميع، كي لا تحدث الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات غير المبررة والآثار المدمرة لهذه الحرب أو النزاعات المسلحة. بالإضافة إلى كلّ هذا، يوجد أشخاص أسندت لهم اتفاقيات لاهاي وجنيف مهمة نشر القانون الدولي الإنساني وهم العاملون المؤهلون والمستشارون القانونيون والقادة العسكريون كلّ حسب اختصاصه؛ لأنّ دورهم في هذا المجال له أهمية كبيرة خاصة في زمن النزاعات المسلحة؛ لذا من الضروري القيام بإعداد وتكوين هذه الفئة زمن السلم تحسبا لأيّ نزاع مسلح قد ينشب، زد على ذلك، هناك جهات فاعلة تعمل وتساهم في مجال النشر كاللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر التي تعتبر الراعي والحارس على تنفيذ قواعد القانون الدولي الإنساني كما تعمل بشكل دائم وفعال على اتخاذ كافة الأساليب الكفيلة لنشر هذا القانون على أوسع نطاق ممكن". ونشرت الثورة من خلال أجهزتها فكرة الأخوة الإنسانية وقواعد القانون الدولي الإنساني الخاصة بحماية الجرحى والمرضى والأسرى وغيرهم من ضحايا النزاع بين أفراد جيش التحرير الوطني والمجموعات المسلحة في المدن وبين الفدائيين في الأرياف، إذ أنّ الثورة منعت في نشراتها تعذيب الجرحى والمرضى والأسرى، ولا تستغرب ذلك؛ لأنّ الثورة الجزائرية ألزمت نفسها بما جاء في اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، وقدمت الحكومة الجزائرية المؤقتة في جوان عام 1960 إلى المجلس الفيدرالي السويسري وثائق انخراطها في معاهدات حنيف لعام 1949، وأبلغت كلّ أطراف هذه المعاهدات بانخراط الحكومة الجزائرية المؤقتة في هذه الاتفاقيات والتي توجب نشر القانون الدولي الإنساني في المواد 47 و48 و127 و144 من اتفاقيات جنيف لعام 1949. وإذا كانت القاعدة العامة أنّ النشر يتم في زمن السلم، فإنّ الثورة كانت مضطرة للقيام بالنشر أثناء النزاع المسلح، فوزعت على المقاتلين تعليمات تحظر بعض الممارسات المتعارضة مع قواعد القانون الدولي الإنساني، وكانت تشرح ما يقضي به القانون من ذلك محاولتها توسيع علم المتحاربين بالتزاماتهم أثناء القتال، ونذكر من محاولات النشر التي قامت بها جبهة التحرير الوطني تلك التعليمة التي فصلت وجوب تكرار الإدارة النظامية الجيش التحرير الوطني تعميم الإرشادات وبذل النصائح للجنود بعدم الاقتراب من الزنا والقيام بالرقابة المستمرة لجميع قواتها بتنفيذهم لتلك التعليمات. أسس ومصادر التزام المجاهدين بالقانون الدولي الإنساني يعد الإسلام واحدا من أهم مقوّمات المجتمع الجزائري والمحرك الأساسي والمسير الروحي له، حيث لعب دورا هاما وبارزا في مسيرة الثورة الجزائرية سواء على المستوى الشعبي الجماهيري، إذ كان الجهاد السبب الرئيسي في التحاق مختلف شرائح الشعب بركب الثورة، أو على مستوى القيادة التي أولت له عناية بالغة خاصة في مواثيقها وأدبياتها ونصوصها، فكانت الوحدة الوطنية وتجميع الطاقات الشعبية من أهم الأهداف الحيوية للثورة الجزائرية منذ الاندلاع إلى غاية الاستقلال، إذ أكدت الثورة على وجوب التقارب والتضامن لتحقيق الهدف المنشود الذي هو استرجاع البلاد، فكان الإسلام هو الرابط المتين بين كيانات الثورة والشعب الجزائري. ويعبر عن الدين الإسلامي في القانون الدولي بالقانون الدولي الإسلامي، والذي يسعى إلى تحقيق الأخوة الإنسانية والضمير الأخلاقي وشرف الحرب وقاعدة الفروسية النبيلة، والتي تقتضي ألا يتجاوز المسلمون أثناء النزاعات المسلحة والحروب الطاحنة الضرورة العسكرية المسموح بها في القتال، مهما كانت الظروف، سواء كانوا غزاة أو محاربين أو مدافعين عن دينهم وأرضهم وشرفهم، وأن يعاملوا خصومهم أيا كان دينهم معاملة إنسانية ويوفروا لهم الحماية اللازمة والمطلوبة في كلّ مراحل الحرب، لأنّ الإنسانية تعلي من قدر الإنسان وتمنع كلّ ما يؤدي إلى إهانته، وانتهاك حرماته أو الحدّ من حريته وعقيدته. كل ذلك كان تطبيقا لما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما أرسله في شعبان من السنة السادسة للهجرة إلى قبيلة كلب النصرانية الواقعة بدومة الجندل؛ فقال له : اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، لا تعلوا، ولا تَغْدِرُوا، ولا تثلوا، ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم. وعلى هذا، فمصادر سلوك الحرب كانت منذ بداية الثورة قواعد وأحكام القانون الدولي الإسلامي الإنساني، وكان سلوك قادتها المنخرطين في القتال قائما على احترام القيم الإسلامية والإنسانية، ويرون أنفسهم ملزمين باحترامها في كفاحهم المسلح، فكانوا يجتهدون في توفير المأوى لأسرى الحرب والمحافظة على شرفهم وكرامتهم، ويمتنعون عن تعذيب الأسرى والجرحى والمرضى والعاجزين عن الدفاع عن أنفسهم من أفراد قوات العدو، وهو ما كان متفقا مع قواعد مبادئ القانون الدولي الإنساني". وشهد المجاهد محمد الحمر، أحد مجاهدي أولاد جلال بولاية بسكرة، أنّ أحد المراقبين خلال ثورة التحرير جاءه يتفقد عناصر الجيش الذين كانوا تحت مسؤوليته، وسأله قائلا: ما الشعار الذي يتعلمه الثوار معك؟ قال: إنّ هؤلاء الثوار يعتقدون ويردّدون بأنّهم التحقوا بالثورة باسم الجهاد في سبيل الله، ولما أراد المراقب أن يصرف أذهانهم عن هذا الهدف، ما كان منهم إلا أن ألقوا أسلحتهم، وقالوا بصوت واحد إما أن نقاتل العدو باسم الجهاد في سبيل الله أو نعود من حيث أتينا.. هكذا كان مجاهدو جيش التحرير يقفون بالمرصاد لكلّ من يريد أن يفرغ ثورتهم من بعدها الإسلامي وينسيهم الغاية التي لأجلها حملوا السلاح، ولأجلها استعذبوا الموت، حتى قال أحدهم وهو يسلم الروح إلى بارئها في ساحات الوغى، قال: "إنّني الآن أموت قرير العين غير آسف على شيء، فالجنة أمامي والنصر ورائي"، وقال آخر : بعد لحظات ستنفلت روحي من هذا الوجود وتلتحق بربّها، ولا شيء يؤسفني لأنّي أموت في سبيل الله.