لم تلق الرواية ذلك الاهتمام الذي تستحقه في الساحة الأدبية الجزائرية إلا في مرحلة متأخرة من تاريخ الأدب الجزائري، وذلك مقارنة بما ناله فن الشعر من اهتمام كبير منذ فجر النهضة الأدبية التي عرفتها الجزائر بداية العشرينيات من القرن العشرين، فقد كان مدار هذه النهضة ووسيلتها المفضلة مع المقالة والقصة بدرجة أقل، وإن كان أبو القاسم سعد الله في كتابه دراسات في الأدب الجزائري الحديث يرى أن الضعف لم يكن مقتصرا على جنس الرواية وحدها، وإنما ينسحب على كل الأجناس التعبيرية، ويرجع ذلك بالأساس إلى سياسة التجهيل والمسخ التي انتهجتها فرنسا في الجزائر بعد احتلالها مباشرة، بالإضافة إلى تفرق أهل العلم بين منفي ومشرد وشهيد ومقاوم، وإذا كان الاستعمار قد أفاد بعض البلاد العربية حين نقل إليها المطبعة والصحف والمجالس العلمية ونحو ذلك، فإنه بالجزائر كان على عكس ذلك، إذ لم يأت لنشر حضارة وإنما جاء لسلب أفكار شعب وتزوير تاريخه.. لقد تحجرت الحركة الفكرية عموما وحركة الأدب على الخصوص، فقد تشتت كل الجهود العقلية المنتجة وتشرد الأدباء والشعراء والوطنيون، واندمج بعضهم في المقاومة الوطنية وشغل الناس عن الشعر والأدب ولم يعد من همهم التعبير الجميل. وما أبعد الأدب في ذلك الزمان عن أن يدخل معركة سياسية، أو يجسم روحا قومية أو أن يحفز إلى مستقبل وطني فيه حرية واستقلال. لعلّ هذا ما أخّر الرواية في الظهور إلى نهاية الأربعينات، وتبدأ بداية متعثرة أول الأمر، لأن جهود رواد النهضة انصبت على الشعر والفقه وعلوم الدين والقرآن الكريم كنوع من المقاومة لاسترجاع الهوية العربية الإسلامية المستلبة من المحتل البغيض. فكانت نهضة تقليدية تستمد كل حيثياتها من التراث، وكانت الرواية أبعد ما تكون عن تلك الأجناس الأدبية العربية التقليدية، وأبعد ما تكون عن اهتمام رواد النهضة من علماء ونقاد وأدباء يضاف إلى ذلك غياب حركة نقدية تؤسس لهذا الفن وتروج له.. غياب الناقد العارف والمتخصص في هذا المجال، خاصة وأن فن الرواية فن غربي بامتياز يحتاج إلى دربة ودراية ومعرفة، ويحتاج إلى اطلاع واسع، وقد ازدهر هذا النوع من الأدب أثناء القرن السادس عشر وذلك كمعظم الأنواع السردية الأخرى في الآداب الغربية، بل إن جذوره الأولى تعود إلى الكتابات الغربية التي ثارت على آداب العصور الوسطى وأدب الفرسان والإقطاعيين، والذين بشروا بقيام المجتمع البورجوازي الساعي للنهوض بالإنسان والرقي بحياته، ولعل رواية "دون كشوت" للكاتب ميغاييل دي سرفنتس، كانت أولى هذه الأعمال الناجحة، حيث وجهت نقدا لاذعا للمجتمعات القديمة وللفكر الإقطاعي المتمترس خلف أسطورة الفارس النبيل "إن الندم على حياة الفروسية التي عاشها (سرفانتس) والتي لم يخرج منها بشيء، هو السبب الأكبر القابع وراء كتابة دون كيشوت، وبما أنه نادم على حياة الفروسية، فإنه مضطر لخلق شخصية تشغفها الفروسية، ليعود بهذا المخلوق في نهاية المطاف إلى منزله كما عاد هو خالي الوفاض.. إنه ينتقم من الفروسية. هذا دون أن ننسى الحالة المزرية للمجتمع الجزائري المهشم والخالي من كل مظاهر المجتمعات الحديثة في تلك الفترة. فلا يمكن الحديث عن طبقات اجتماعية، ولا من صراع طبقي يمكن أن يكون مجالا خصبا للكتابة الروائية، فقد تمكن المحتل من كسر التراتبية الاجتماعية الجزائرية، وحط من قدر كل الجزائريين فجعل منهم نسخة واحدة من أبرز معالمها الفقر والتخلف والتبعية الاقتصادية والاجتماعية للفرنسي المحتل، وهو الأمر الذي أخر ظهور الرواية وفتح المجال للشعر؛ لأن الرواية تحتاج إلى بنية اجتماعية خاصة لتنمو وتزدهر. وكان هم أدباء ما قبل الثورة هو التطلع لاستقلال البلاد واسترجاع الهوية، ولم تكن للمشاكل الاجتماعية إلا دور ثانوي حينئذ في تحريك الجماهير. في مثل هذا المناخ الاجتماعي والثقافي المزري، لم يكن متوقّعا أن يبدع الأديب الجزائري رواية بالمعنى الحقيقي للرواية، باعتبارها جنسا أدبيا يهتم بالحياة الاجتماعية ويحاول أن يحلل ويبين عوامل التخلف والانحطاط التي تصيب المجتمعات، كما يحاول رصد الحركية الاجتماعية وصراع الإنسان من أجل حياة أفضل، ومن أجل نصرة القضايا العادلة في هذا الصراع، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أبا القاسم سعد الله، وبشيء من الحماسة والتسرع، قد أعلن أن أول رواية جزائرية بل وعربية على وجه الإطلاق، كانت محاولة. الأمير مصطفى بن ابراهيم الموسومة بعنوان "حكاية العشاق في الحب والاشتياق" والتي كتبت في حدود سنة 1849، وقد احتفل بها الباحث احتفالا كبيرا، ورأى فيها سبقا للأدب الجزائري إلى مثل هذا الفن الأدبي الجديد، كما أشار إلى ذلك أحمد دوغان في كتابه في الأدب الجزائري، وصالح مفقودة في كتابه المعنون ب: "أبحاث في الرواية العربية"، لكن الواضح أنهما يعتبران هذا العمل من إرهاصات الكتابة الروائية؛ لأنه عمل لا يرقى إلى فنية الرواية، لذلك وضعها الباحث صالح مفقودة ضمن البدايات غير الناضجة، أو المحاولات الجنينية لكتابة الرواية في الجزائر؛ ذلك أن هذا العمل وإن توفرت فيه بعض عناصر القصة، إلا أنه حمل الكثير من الموروث الشعبي والهامشي، واستند إلى تقنية القصص الشعبي في رسم الشخصيات، وإدارة الحدث الذي لم يحمل جديدا بعيدا عما هو متداول عند القاص الشعبي، فكانت اللغة العامية حاضرة، وحضرت المصادفة والأشعار وكانت الأسماء التراثية المستمدة من ألف ليلة وليلة مثل ابن الملك وابنة التاجر والعطار والعجوز. إن قصة مصطفى بن إبراهيم - حكاية العشاق في الحب والاشتياق - لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون رواية، وسواء كانت الرواية الوريثة الشرعية للملحمة القديمة أو هي ملحمة بورجوازية، أو كانت فنا جديدا لا علاقة له بما عرفته الإنسانية من فنون قديمة، أو هو الفن القابل للتحول المستمر، أو إعادة التشكل في كل مرة حسب باختين، فإن الساحة الأدبية الجزائرية، ظلت محتفية بالشعر دون غيره من الفنون الأخرى إلى بداية الأربعينات من القرن العشرين حيث انتعشت الفنون السردية وفي مقدمتها فن القصة، خاصة على يد الكاتب والمبدع الجزائري أحمد رضا حوحو الذي ساعدته ثقافته المزدوجة ورحلاته المختلفة في بلاد الشرق والغرب على الإحاطة بتقنيات الكتابة القصصية، وعلى إدراك أهمية هذه الفنون للرقي بالمجتمع". مرحلة الرواية الإصلاحية كانت الحملة الاستعمارية شديدة البأس على عناصر الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، فلم تدخر فرنسا جهدا لطمس هذه العناصر وتجريد الأمة منها، فتعددت الوسائل وتنوعت الطرائق وكانت الغاية واحدة، ومن الأساليب الاستعمارية المنتهجة في هذا السياق: - التجهيل المبرمج بإغلاق المدارس والزوايا والكتاتيب وترحيل العلماء وتهجيرهم ونهب المكتبات ومصادرة محتوياتها. كانت الكتاتيب والمساجد والزوايا - قبل الاحتلال الفرنسي - منتشرة في جميع أنحاء البلاد يتلقى فيها النشء ثقافته العربية الإسلامية، فلا يجهل الاستعمار أن العلم سيف قاطع، فإذا تسلح به الجزائري أمكنه أن يقاومه، فسعى حينئذ إلى تجهيل الأمة الجزائرية، وإلغاء العنصر الإسلامي بالتفقير، وما هي إلا فترة وجيزة حتى خلت البلاد من العلم، إلا أنه في سنة 1883 أخذ يفتح المدارس في وجه الأهالي، لكن التعليم كان فرنسيا بحتا . وكان الهدف تقريبهم من فرنسا بواسطة اللغة حتى يسهل إدماجهم. -التشكيك في هوية الشعب الجزائري ونشر الفتن والنزعات القبلية والعصبيات المدمرة لوحدة الأمة، وقد ألح في كثير من أكاذيبه على فرنسة الشعب الجزائري، أو سلخه من عروبته وإسلامه، ولعلّ ذلك ما دفع عبد الحميد بن باديس للرد على هذه السياسة بنصه الشعري المعروف "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب"، والذي يرى فيه عبد الملك مرتاض أنه ينهض على ثلاث قيم تندمج فتشكل كتلة واحدة من القيم. الشعب الذي يمثل قيمة بشرية، والجزائر التي تمثل قيمة حضارية وتاريخية وجغرافية، والمسلم الذي يمثل قيمة عقدية وروحية.. وكل هذا تجسيدا لانتماء الشعب الجزائري، وذلك بتسبيق موضوع الانتماء للعروبة على الانتماء نفسه. - التحقير الحضاري والطعن في المنجزات الحضارية. لا شك أن هذه الهجمة الشرسة على هوية المجتمع الجزائري هي التي دفعت النخبة الجزائرية من علماء وأدباء ومثقفين إلى التخندق في صف واحد للدفاع عن هوية مجتمعهم، فعملت كل ما في وسعها من أجل إعادة بعث تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي الصحيح، مركزة على ضرورة وضع حدّ فاصل بين الفرنسي والجزائري، لأن الجزائري لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون فرنسيا ولو أراد ذلك؛ وذلك ما حرص بن باديس على تأكيده في جريدة المنتقد إذ يذهب إلى أننا لسنا مع الجامدين في جمودهم ولا مع المتفرنجين في طفرتهم وتنطعهم. بالإضافة إلى الاهتمام الكبير بالتعليم على وجه الخصوص مع التركيز على تنقية الأخلاق من كل ما هو ضار ودخيل على الأخلاق، وقد سخر لذلك كل ما توفر للنخبة المثقفة في تلك الفترة بداية من الصحافة ووصولا إلى الأدب بكل أشكاله، كما تحتاج الأبدان إلى غداء من المطعوم والمشروب كذلك تحتاج العقول إلى غداء من الأدب الراقي والعلم الصحيح، ولا يستقيم سلوك أمة وتنقطع الرذيلة من طبقاتها وتنتشر الفضيلة بينهم، إلا إذا تغدت عقول أبنائها بهذا الغذاء النفيس، فنحن تقاوم كل معوج من الأخلاق وفاسد من العادات وتحارب على الخصوص البدع التي أدخلت على الدين فأفسدته وعاد وبال ذلك الفساد علينا. تلك هي الظروف التي ظهرت فيها أول روية جزائرية موسومة بعنوان "غادة أم القرى" للكاتب أحمد رضا حوحو، وتلك هي الفلسفة التي استقاها من المنظومة التعليمية والقيمية التي ربته عليها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان له الدور الفاعل في دعمها ومساندتها وإدارتها، لقد كان الإيمان السائد في فلسفة هذا الرعيل من علماء الجزائر، أن لا رقي لأمة إلا بأخلاقها، وإن كل أمة تخلت عن أخلاقها، ضعفت وتراخت وابتليت بالمكاره، ومن هنا نشأت شدة اهتمامهم بالتوجيه الأخلاقي، في الشعر والمقالة والقصة.
وإذا كان هذا التوجه الأخلاقي في أدب هذه المرحلة مشفوعا بالرغبة في مقاومة أخلاق الآخر المدمرة لهوية الجزائري، فهي كذلك تعود إلى العمق الديني للحركة الإصلاحية، خاصة وأن علماء الجمعية هم في الأصل نخبة من علماء الدين والأئمة والدعاة. الرواية الإصلاحية.. المصطلح الموضوعات والبنية الفنية هي تلك الرواية التي صدرت عن كتاب ينتمون إلى الحركة الإصلاحية، أو متأثرين بأفكارها أو ممن تتلمذوا على يد علمائها، وكانت تجمعهم رابطة قوية تتمثل في الالتزام بالأسس التي تقوم عليها هوية المجتمع الجزائري، وليس من قبيل الصدفة أن تجد بينهم أحمد رضا حوحو الذي ولد سنة 1911 في بلدة سيدي عقبة.. وكانت له كثير من الإسهامات الإصلاحية، خاصة وأنه كان عضوا نشطا بجمعية العلماء المسلمين. وهو صاحب رواية "غادة أم القرى" التي ظهرت للوجود سنة 1947 معلنة ميلاد الرواية العربية الجزائرية المعبرة عن قضية المرأة العربية ومن ورائها المرأة الجزائرية من قمع وتهميش، دون أن ننسى الشيخ عبد المجيد الشافعي صاحب رواية "الطالب المنكوب" سنة 1951 ونور الدين بوجدرة صاحب رواية "الحريق".. لقد تربى هذا الجيل على القيم الإسلامية، وعلى الاعتزاز بالانتماء العربي وعلى تقديس الأخلاق والفضيلة، وقد تلقى كل ذلك في أحضان جمعية العلماء المسلمين، فجاءت كتاباتهم عاكسة لتوجهات هذه الجمعية ومترجمة لأفكارها، كان الباحث والروائي الجزائري واسيني الأعرج أول من وسم هذه الأعمال بمصطلح الرواية الإصلاحية في كتابه الموسوم بعنوان: "اتجاهات الرواية العربية في الجزائر"، حيث يذهب إلى القول أن هذه الرواية هي البنت الشرعية للفكر الإصلاحي الذي ظهر عند جمعية العلماء.. إن الكتابات الإبداعية ذات التعبير العربي قبل الاستقلال وبعده بقليل، ذات نزعات إصلاحية وهذا راجع لسبب واحد ورئيسي.. وهو أن الحركة الإصلاحية التي تزعمتها جمعية العلماء المسلمين، كانت تتحكم في عصب وسائل الإعلام الناطقة بالعربية. الحلقة الأولى