لم يكن صدفةً أن تقوم دولة الاحتلال بتدمير كلّ ما يتعلّق بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"الأونروا"؛ من قتل أطقمها والعاملين فيها، وقصف مراكز تموينها، وهدم مدارسها، بمَن فيها.. إذ يأتي ذلك استكمالاً لاستراتيجية صهيونية حاسمة، تتغيّا شطب الوكالة، باعتبارها "شاهد إثبات" على المَظلمة، التي لحقت بآلاف مؤلّفة من اللاجئين، الذين يتوزّعون في غير مخيم ومكان. حتى أنّ قادة الاحتلال، وفي وقت مبكّر، عملوا على تقويض الأنروا، لإلغاء ظاهرة "المخيم"، وشطب حقّ العودة المقدّس. إنّ ادّعاء أساطين الاحتلال بأنّ بقاء الوكالة "يُطيل أمد الصراع"، هو قفز على الحقائق، التي لا تستوي إلا بتمكين الشعب الفلسطيني من كامل حقوقه، وعلى رأسها حقّ العودة والتعويض، وإقامة الدولة والقدس عاصمتها، وما دون ذلك يعتبر تجاوزاً للحقّ والحقيقة، والعدل الكامل، والسلام الحقيقي. وإنّ كلّ مَن يتماهى مع موقف الاحتلال يعتبر شريكاً أصيلاً ضدّ حقوقنا المشروعة والتاريخية، ومتآمراً عليها. وإنّ إعلان بعض الدول عن توقّف دعمها للأنروا، أو تسريح بعض موظّفيها، أو المناداة حتى بتقليص مهمّاتها.. ما هو إلا شكل سافر آخر من أشكال العدوان علينا، وهو إبادة أخرى تُضاف إلى ما يقوم به الكيان الصهيونى من محرقة مدوّية بحقّ فلسطين وأهلها العزّل؛ من رُضّعٍ وشيوخ ونساء وبيوت وطيور وحقول. إنّ وكالة الغوث هي آلية دولية لا ينتهي عملها حتى يعود آخر لاجئ إلى أرضه الأولى، وإنّ إلغاءها هو صورة قبيحة من صور شطب هذا الحقّ، الذي ضمنته قرارات الأممالمتحدة وشواهد التاريخ القويم. وإنّ العالَم الذي تآمر على شعبنا واعترف بدولة الاحتلال، هو الذي يتحمّل مسؤولية قراره الذي أنتج النكبة العام 1948، ولا يحقّ له أن يتخلّى عن مسؤولياته القانونية والأخلاقية.. إن بقيت أخلاق في هذا العالَم الغابة! ولعلّ إفراغ الأونروا من مضمونها، وتخليصها من دورها.. يساهم في تدعيم سلوك القاتل الصهيونى، ويحقّق له شهواته السّادية الهادفة إلى نفي أيّ حق لشعبنا المنكوب، ويصبّ في فَهْم الاحتلال الفاشي، الذي لا يرانا أصلاً! ولا يعتقد بأنّ لنا أيّ حقّ كان، لأننا لسنا "موجودين" من وجهة نظره العنصرية، ويطبّق علينا معتقدات "الحيرِم" القاضية بحرقنا وتذرير رمادنا! وربما، لهذه الأسباب، يقوم الاحتلال بتجريف المخيمات واستهدافها. فالمخيم "جغرافيا" تدلّل على "تاريخ".. ما يعني أنّ الاحتلال يريد إلغاء هذا التاريخ عبر تهديم تلك الجغرافيا، لخلق تاريخ جديد ينهض على أعمدة جغرافيا جديدة، وهذا يفسّر دعوة الصهاينة للاستيطان، من جديد، في قطاع غزّة، عداك عن الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشريف. بمعنى أنّ هدم أكثر من خمسمئة بلدة وقت النكبة، كان يهدف إلى شطب تاريخنا، وتأسيس جغرافيا صهيونية تؤصّل لتاريخ صهيوني على أرضنا، بديلا لنا.. وهذا هو الإحلال بعينه. والمخيم؛ باعتباره وحدة إجتماعية واقتصادية وسياسية- وبالتالي أصبحت ذات ملامح ثقافية - يتصّدر الكلام ويأخذ الكلام كلّه. فالمخيم كإفراز ونتيجة للنكبة والنكسة أصبح هو المعوّل عليه، بمعنى، وقعت على أبنائه وأجياله المتعاقبة أن يتحمّلوا ويحملوا الرسالة وأن يجعلوا الشعلة مضاءة وعالية. ووقع المخيم، نتيجة لذلك، بين شفرات الُمطلق وشفرات النسبيّ، ما بين متطلبات الثورة وفضائها، وبين متطلّبات الواقع وضيقه. المخيم الذي يقع في منطقة الرماد في كلّ شيء، جغرافياً - بكونه قريباً من المدينة ولكنه ليس منها -، وثقافياً- باعتباره غريباً عن النسيج الإجتماعي وممنوعاً من الإندماج فيه -، واقتصادياً - باعتبار أنّ موارده تأتي جاهزة وهو ممنوع من الانخراط في الدورة الإنتاجية -، وسياسياً - باعتباره ممنوعاً من المشاركة والتمثيل والإنتخاب.. كلّ ذلك جعل من المخيم ينقسم على ذاته، ويدخل في متاهات من التعريف وإعادة التعريف. الثورة كانت حلّاً، ولكنّها ليست كلّ الحلول، وخاصة بعد انكفائها. المخيم - وهو وضع إستثنائي في تطور المجتمعات وسلوكها - منقسم على ذاته، لأنه موّزع بين الإنتماءات، وموزّع بين الولاءات، وموزّع بين الأمكنة. ومرّة أخرى، المنفى ليس مكاناً وحسب- حتى لو كان في الوطن- المنفى تجربة مهيضة وقاسية ! وفي الوقت الذي يجبر فيه اللاجىء على تعريف نفسه بقوّة وتطرّف، فإنّه أيّ المنفى - قادر على إجبار أو إقناع اللاجىء بفقدان هويته أو التخلي عنها طواعية. المنفى قاسٍ وقاطع كحدّ السيف، والمخيم - باعتباره ليس أفراداً وإنما وحدة اجتماعية وسياسية خاصة - أُجبر الفلسطيني اللاجىء - كرهاً أو طواعية - على أن يحدّد انتماءاته وخياراته. ولكن، وفي الوقت ذاته، فإنّ القضية الفلسطينية ليست قضيتنا فحسب، وعليه، فإنّ المخيم يتعرّض لكثير من الإغراءات أو الإجراءات أو الآليات التي تزيد من عدم قدرته على التحديد أو حتى الاختيار، وخاصة بعد أن انكفأ المدّ الثوري والقومي ولا نقول انهزم. المخيم الصامد، مخزون الثورة الإستراتيجي، حامل المشعل وشاهد المرحلة ومعلّم الأجيال، ومعلّم الأيام أيضاً، الذي طوّر له لغة خاصة ومصطلحات خاصة، وقسّم فئاته وأعاد ربط ما انقطع، وسمّى الأشياء من جديد، وأرغم المدينة، ومن ثم القريب والغريب، على الاعتراف به والتعامل معه، هذا المخيم كان لزاماً عليه أن يصطدم بما حوله، شاء أم لم يشأ، ألثورة خيار صعب، وهي خيار مجنون ولا عقلاني أيضاً، الثورة وجدان، والثورة لا حسابات منطقية فيها - ومتى كانت كذلك يوماً؟ - وعندما اختار المخيم اصطدم بمَن حوله سريعاً، ومن هنا تعلّم المخيم أن يكون متوجّساً وشكّاكاً ولا يثق، وإذا كان المخيم أرضية خصبة وطبيعية للمشاعر القوية ضدّ الصهاينة، فإنه طوّر أيضاً مشاعر متناقضة تجاه المحيط، الذي يحيا فيه المخيم المعزول والممنوع والفقير، والذي يحيا بمنطقة الرماد في كلّ شيء. طوّر عقلية خاصة، هي عقلية اللاجىء، وهي عقلية متوجّسة وشكاكة وقريبة من الإيمان المطلق دائماً، عقلية اللاجىء ليست فيها تسويات كثيرة، وهي أقلّ جدلاً وأقلّ رغبة في الكلام، هي عقلية تحيا على حافة القبر، ليس أسوأ من المنفى، وليس أسوأ من النكران، وليس أسوأ من الفقر، المخيم لم يعد يزعج الكيان الصهيونى فقط. المخيم قنبلة سياسية، صحيح إلى حدّ كبير، ولكنه أيضاً قنبلة إجتماعية. إنّ أذكى الأنظمة التي تحاول السيطرة أو تذويب أو دمج المخيم أو تحويله من نار تحرق إلى نار يُطبخ عليها.. لم تصل إلى نجاح أكيد ونهائي. مرة أخرى، المخيم لم يعد يزعج الكيان الصهيونى فقط، ومن هنا، فإنّ حلّ القضية الفلسطينية هي أولوية عربية، ليس فقط من منطلقات سياسية وأخلاقية وأمنية، وإنّما من منطلقات إجتماعية صرفة. ولا أقصد هنا في الحديث أن يتحرك المخيم كله باتجاه معين، بل يكفي أن يكون هناك "نتوء، أو مُشكل" واحد ليدمّر المخيم أو ليثير المحيط ويدمّره. ولا أريد أن أسترسل في الأمثلة التي تؤكّد الكلام إلى حدٍّ كبير، أو على الأقل لا تنفيه. يجب الاعتراف بقوّة وصرامة أن المخيم مشكلة إجتماعية وصحية، وحتى لا نُفهم خطأ - بنيّة حسنة أو غير حسنة - فإنّ المخيم يجب أن يزول ويختفي عن الوجود لأنّ سكانه يجب - وهنا أكتب "يجب" بخط كبير وألفظها بملء الفم - أن يعودوا إلى ديارهم وأوطانهم التي هُجّروا منها، غير منقوصين، هذا هو واجب الأُمّة الآن، وواجب الأجيال المقبلة أيضاً، ومن ينسى هذا الحق أو يفرّط فيه، فإنه عملياً يقبل أن يأتي الأثيوبي والأوكراني إلى فلسطين ويأخذ كامل الحقوق، فيما يحرّم على امرأة فلسطينية أن تعود إلى وطنها لتعيش مع زوجها وأطفالها - إقرأوا قانون العودة الصهيوني للعام 1952 و1972 والتعديلات التي أجريت عليه في الثمانينيات والتسعينيات لتروا مدى العنصرية ومدى الإستعداد القانوني لمنع العرب الفلسطينيين من البقاء في أوطانهم -. ولكن وبعد تأكيد هذا الحق بما لا لبس فيه، فإنّ المخيم الذي يحيا اليوميّ والنسبيّ، ومتطلّبات الحياة اليومية؛ من أكل وشرب وتعليم وصحة وعمل وتأمينات اجتماعية وصحية، وأشكال سلوك متغيّرة ومرتجلة، هذا المخيم الذي يعيش على المطلق، ولكنه مضطر إلى التعامل مع النسبيّ، يتحوّل شيئاً فشيئاً - وخاصة بعد اتفاق أوسلو وتغيّر العالم ونجاح العولمة وانكفاء الثورات وتراجع الشعارات وخفوت الأصوات عن العودة أو مضامينها الحقيقية - فإنّ المخيم يتحوّل إلى مشكلة وعبء حقيقي، ليس على السلطة الوطنية وحسب، وإنّما على الأنظمة التي تعيش فيها تلك المخيمات. لا يمكن حسم المخيم في نهاية الأمر. عقلية اللاجىء الذي يحيا على الأحلام، ويضطر إلى البحث عن لقمة الخبز.. سيطوّر سلوكاً غير متوقّع، هذا الكلام يعني ببساطة أنّ الصهاينة وغيرهم مجبرون على حلّ القضية الفلسطينية، فالتدمير والتهجير، حتى وإن توالى، لن يُؤدّي إلى خلق علاقة غرامية مع المحتلّ، والفقر والنكران لن يحوّل المجروحين إلى قدّيسين يدعون إلى محبة العدوّ، الذي نقدّم له الخدّ الأيمن ليصفعه. ومهما بدا الكلام قاسياً، ولكني أرجو أن يُفهم بواقعيته وأهدافه البعيدة، فأنا عملياً ألوّح بالقدرات التي رأينا بعضها، وتلك التي لم نشاهد بعد، والتي يمكن للمخيم أن يجترحها ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية.. بعيداً عن فذلكات الأكاديميين ورغبتهم في الوصف والتبويب والفهرسة.. ومن ثم الاستخلاصات، فإنّ المخيمات التي تصبح عناوين للبلاد والثورة والحنين، تتحوّل بفعل الزمن إلى مواطنين من درجة أقلّ، ويحصلون على حقوق وواجبات أقلّ، أيّ أن جُرح الطرد يضاف إليه جرح النكران والتهميش، وكأنّ حالة اللجوء هي حالة مشبوهة أو مُدانة أصلاً. إنّ وضعاً كهذا - وإن استمر بشكل أو بآخر - وإن تمّ استيعابه بشكل أو بآخر - وإنْ تمّ تدجينه بشكل أو بآخر.. لا يمكن له أن يستمر. إنّ بيت الصفيح ليس أفضل حالاً من خيمة 1948، وإن معونات وكالة الغوث، التي تتناقص سنة بعد سنة، لن تكون بديلاً عن أحلام عريضة، وإنّ التطامن أو السكون أو الخضوع لأوامر المحيط وقوانينه لن تسود إلى الأبد، خاصة إذا توالت عمليات التنازل وقبول الكيان الصهيونى بالكامل، دون إيجاد حلّ لأكثر من سبعة ملايين فلسطيني موزّعين ما بين بيوت صفيحية أو صحارى بعيدة أو مجاهل لا يصل إليها البريد الزاجل. وكلما تقدمنا في الزمن، فإنّ مشكلة المخيم - متعدّدة المستويات ومعقّدة التجليات - تزداد وتتفاقم، ليست فقط بسبب الآلية الخاصة بتطور المخيم وتعدّد خياراته، وإنّما أيضاً - وبذات الدرجة من القوّة - بسبب أزمة او أزمات الأنظمة التي تعيش ضمن حدودها تلك المخيمات. إنّ الأنظمة التي تعيش أزمات مختلفة تتعمّق يوماً بعد يوم، وهي أزمات اقتصادية وسياسية، ولبنان تعطينا مثالاً مناسباً فيما يمكن للمقدّمات والنتائج أن تكون. إنّ تجسّد السلطة الوطنية في الضفة والقطاع - أو في الضفة فقط في هذه الأثناء - لم يساعد حتى اللّحظة في حلّ ضائقة المخيم، بل على العكس من ذلك، إذ أنّ تجسّد السلطة الوطنية بدا وكأنّه حلّ نهائي لموضوع المخيم، ومن هنا، ازدادت حدّة الموضوع، وزاد ضغطه الشديد على الوعي والوجدان، فهل ينتظر سكان المخيمات منفى أبديا، أم تجنيسا أم توطينا أم تعويضا أم عودة مجزوءة؟ هذه الأسئلة لم تكن في الماضي، وهي الآن حاضرة بقوّة، الأمر الذي يزيد من حدّة وتطرّف المسألة، ونحن هنا نتحدّث عن عقلية اللاجىء - واللاجىء ليس مهاجرا ولا مغامرا ولا مستوطنا -، وقلنا إنّها عقلية تطرّف أكثر منها عقلية مهادُنة، وعقلية تُبدي ما لا تُعلن، وإنّ تهديد المخيم بخيارات متعدّدة ومختلفة، ضمن أزمات متلاحقة وضغوطات من جهات متعدّدة، كلّ ذلك يدفع الأمر إلى عنق الزجاجة. وإذا كانت النكبة ومن بعدها النكسة ومن بعدها الأزمات ثم التفتيت والانقسام، ثم العدوان والإبادة، قد أضرّت بالمخيم، فضُرب وعُذِّب وحُوصر وتهدّم، فإنّنا الآن على أبواب مرحلة جديدة، تُقْبل فيها الصهاينة، من البعض وتنشأ معها العلاقات، فيما يغرق المخيم الجديد المتعدّد، بِوَحْلِه أكثر فأكثر، إذن، فالأمر شديد شديد، وعلى الجميع الانتباه!